التعصُّب المذهبي

منذ 2013-07-12

كان الاختلاف موجودًا على عهد السَّلف الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم ومع ذلك لم يكن مَدْعاة للتعصُّب ولا للتباغض، وكان غرَضُهم في اجتهادهم إصابة الحقِّ واختيار الأفضل، ولذا كان بعضُهم يعذر الآخَر فيما اختلف فيه، ولا ينتقص له رأيًا.


كان الاختلاف موجودًا على عهد السَّلف الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم ومع ذلك لم يكن مَدْعاة للتعصُّب ولا للتباغض، وكان غرَضُهم في اجتهادهم إصابة الحقِّ واختيار الأفضل، ولذا كان بعضُهم يعذر الآخَر فيما اختلف فيه، ولا ينتقص له رأيًا.

وفي القرن الرَّابع الهجري وما بعده بدأ التَّقليد والتعصُّب يكثران بين العلماء، واشتدَّ الجدَل والخلاف في علم الفِقه وغيره من العلوم الأخرى، وبدأت حركة الاجتهاد والاستنباط تَضْعف، إلى أن وصلَتْ في عصور متأخِّرة إلى الجمود والتوقُّف.

وأصبح جهد علماء المذاهب التَّخريج على قواعد أئمَّتِهم وأقوالهم، وشرح كتبهم وتدريسها، أو اختصارها، ووصل بهم الحدُّ أحيانًا إلى التشنيع على مَن يَخرُجُ عن أقوال الأئمة، وإن كان مستمسكًا بنصوص شرعيَّة، غيرَ مُدْرِكين بأن هذه المذاهب لم توجد ليعتنِقَها الناس، ويأخذوها دينًا وإن كانت مرجوحة، وإنَّما هي آراءٌ لأصحابها، واجتهاداتٌ قابلة للخطأ والصواب!

ولذا نجد الخلاف في المذهب الواحد، ونجد أكثرَ من قول لإمام واحدٍ في مسألة واحدة.

مِمَّا أدّى إلى تفشِّي التعصُّب المذهبي بصورةٍ خطيرة، تهدِّد أصول وفروع الدِّين، وهذا هو الذي ذمَّه الإسلام، وهو الذي أبعد الناس عن أصل الكتاب والسُّنة.

أسباب التعصُّب المذهبي:

التعصُّب لمذهبٍ معيَّن دون آخَر، له أسبابٌ، منها:

أولاً: عدم الاعتِصام بجماعة المسلمين، وهو أصلٌ من أصول الدِّين، والتَّنازع في مسائل الفروع التي بَيْن المذاهب، فكيف يُقْدَح الأصل بحِفْظ الفَرع؟!

قال ابن تيميَّة: "وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالاجتِماع والائتلاف، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102-103]، إلى قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران من الآية:106]" (مجموع فتاوى ابن تيميَّة [22/251]).

وقال "صدِّيق حسن خان" في اختلاف المذاهب في مسألة وضع اليُمنى على اليُسرى: وفي (حاشية الشِّفاء): "ومن الغرائب أنَّها صارَتْ في هذه الدِّيار، وفي هذه الأعصار عند العامَّة ومَن يُشابههم ممن يظنُّ أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات، حتَّى إن المتمسِّك بها يصير في اعتقاد كثيرٍ في عداد الخارجين عن الدِّين! فترى الأخَ يُعادي أخاه، والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدةً منها -أيْ: مِن هذه السُّنن- وكأنَّه صار متمسكًا بدِين آخَر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النَّفس، أو يعقُّ أحد أبويه، أو يشهد الزُّور، أو يحلف الفجور، لم يَجْرِ بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسُّك بهذه السنن أو ببعضها! لا جرمَ هذه علامات آخر الزَّمان، ودلائل حضور القيامة، وقرب السَّاعة؛ ا. هـ. -والإشارة بقوله: "بهذه السُّنن" إلى رَفْع اليدين في المواضع الأربعة، وضمِّ اليدين في الصَّلاة، قال-: "وأعجَبُ من فعل العامَّة الجهَلة وأغرَبُ: سكوت علماء الدِّين وأئمَّة المسلمين عن الإنكار على مَن جعل المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وتلاعَب بالدِّين وبِسُنَّة سيد المرسلين" (الروضة النديَّة لـ صديق حسن خان [1/ 93]).

ثانيًا: الإعراض عن الوحي، وعدم الانتفاع بنصوص الكتاب والسُّنة، والاستغناء عنه بأقوال الرِّجال، ووَزْن ما جاء في الكتاب والسُّنة على رأي المتبوعين.

قال ابن تيميَّة: "ومن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الأئمَّة دون الباقين، فهو بِمَنْزلة مَن تعصَّب لواحدٍ بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضيِّ الذي يتعصَّب لعليٍّ رضي الله عنه دون الخلفاء الثلاثة، وجمهور الصحابة رضوان الله عليهم، وكالخارجيِّ الذي يَقْدح في عثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسُّنة والإجماعِ أنَّهم مذمومون خارجون عن الشَّريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسولَه، فمن تعصَّب لواحدٍ من الأئمة بعينه ففيه شَبهٌ من هؤلاء، سواءٌ تعصَّب لمالكٍ أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد، أو غيرهم".

"ثم غاية المتعصِّب لواحدٍ منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدِّين وبِقَدْر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالِمًا، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظُّلم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب من الآيتين:72-73]، إلى آخر السورة، وهذا أبو يوسف ومحمَّد، أتبع الناس لأبى حنيفة، وأعلمهم بقوله، وهُما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تُحصى؛ لَمَّا تبيَّن لهما من السُّنة والحجة ما وجب عليهما اتِّباعه، وهما مع ذلك مُعظِّمان لإمامهما، لا يُقال فيهما: مُذبذَبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمَّة يقول القول، ثم تتبيَّن له الحجة في خلافه، فيقول بها، ولا يُقال له: مذبذب؛ فإنَّ الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبيَّن له مِن العلم ما كان خافيًا عليه اتَّبَعه، وليس هذا مذبذبًا بل هذا مهتدٍ، زاده الله هدى، وقد قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه من الآية:114].

فالواجب على كلِّ مؤمنٍ موالاةُ المؤمنين، وعلماءِ المؤمنين، وأن يَقْصد الحق، ويتَّبِعه حيث وجَدَه، ويعلم أنَّ من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجرٌ لاجتهاده، وخطَؤُه مغفور له، وعلى المؤمنين أن يتَّبعوا إمامهم إذا فعل ما يَسُوغ؛ فإن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما جُعل الإمام ليؤتَمَّ به» (رواه البخاريُّ برقم: [378] كتاب الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، ومسلمٌ برقم: [411]، كتاب الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، من حديث أنس بن مالك).

"وسواءٌ رفع يديه أو لَم يرفع يديه، لا يقدح ذلك في صَلاتِهم، ولا يبطلها؛ لا عند أبي حنيفة، ولا الشافعي، ولا مالك، ولا أحمد، ولو رفع الإمامُ دون المأموم، أو المأموم دون الإمام لم يقدح ذلك في صلاة واحدٍ منهما، ولو رفع الرَّجلُ في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته، وليس لأحدٍ أن يتَّخِذ قول بعض العلماء شعارًا يوجب اتِّباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السُّنة، بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع.

وبلاد الشَّرق، من أسباب تسليط الله التَّتر عليها: كثرة التفرُّق والفِتَن؛ في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسِبَ إلى الشافعيِّ يتعصَّب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة، حتى يخرج عن الدِّين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصَّب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهبِ هذا أو هذا، وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالكٍ يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا، وكلُّ هذا من التفرُّق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه. وكل هؤلاء المتعصِّبين بالباطل، المتبعين الظنَّ وما تهوى الأنفس، المتبعين لأهوائهم بغير هُدًى من الله، مستحِقُّون للذمِّ والعقاب" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [22/ 252-254]).

وقال ابن القيِّم: "وأما المتعصِّب الذي جعل قولَ متبوعه عيارًا على الكتاب والسُّنة وأقوالِ الصحابة، يزِنُها به، فما وافق قول متبوعه منها قبِلَه، وما خالفه ردَّه، فهذا إلى الذمِّ والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصَّواب؛ وإن قال -وهو الواقع-: اتَّبعته وقلَّدته، ولا أدري أعلى صوابٍ هو أم لا؟ فالعُهْدة على القائل، وأنا حاكٍ لأقواله، قيل له: فهل تتخلَّص بهذا من الله عند السُّؤال لك عمَّا حكمت به بين عباد الله، وأفتيتهم به؟ فوالله إن للحُكَّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلاَّ مَن عرف الحق، وحكم به، وأفتى به، وأما من عداهما فسيَعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء" (إعلام الموقِّعين [2/232]).

ثالثًا: الانتصار للمذاهب بالأحاديث الضَّعيفة والموضوعة، والآراء الفاسدة، وتَرْك ما صحَّ وثبت من الأحاديث النبوية الشريفة.

قال ابن تيميَّة: "وجمهور المتعصِّبين لا يعرفون من الكتاب والسُّنة إلا ما شاء الله، بل يتمَسَّكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة، أو حكاياتٍ عن بعض العلماء والشُّيوخ قد تكون صِدقًا، وقد تكون كذبًا، وإن كانت صدقًا فليس صاحِبُها معصومًا، يتمسَّكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، ويَدَعون النقل المصدق عن القائل المعصوم، وهو ما نقله الثِّقات الأثباتُ من أهل العلم، ودوَّنوه في الكتب الصِّحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الناقلين لذلك مصدقون باتفاق أئمة الدِّين، والمنقول عنه معصوم لا يَنْطق عن الهوى، إنْ هو إلاَّ وحي يوحى، قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعتَه واتِّباعَه، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]" (مجموع فتاوى ابن تيمية [22/255]).

رابعًا: تَنْزيل الإمام المتبوع في أَتْباعه مَنْزلةَ النبي صلى الله عليه وسلم في أمَّته، وذلك إذا التزم هؤلاء الأتباعُ قول إمامهم في كلِّ ما قال.
قال ابن تيميَّة: "أما وجوب اتِّباع القائل في كل ما يقوله من غير ذِكْر دليل يدلُّ على صحة ما يقول فليس بصحيح، بل هذه المرتبة هي مرتبة الرَّسول التي لا تصلح إلا له" (مجموع فتاوى ابن تيمية [35/121]).


وقال أيضًا: "وهذا تبديلٌ للدِّين، يُشْبِه ما عاب الله به النَّصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وَحْده" (مجموع فتاوى ابن تيمية [20/216]).

وقال ابن القيِّم: "ولما كان التلقِّي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقِّي بلا واسطة حظَّ أصحابه الذين حازوا قَصبات السِّباق، واستولَوْا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمَّة بعدهم في اللَّحَاق، ولكن المُبَرَّز مَن اتَّبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلِّف من عدَل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشِّمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يَسبقوا إليها؟ وأي خطَّة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد ورَدوا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زُلالاً، وأيَّدوا قواعد الإسلام فلم يدَعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بِعَدلِهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسِّنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقَّوه من مشكاة النبوَّة خالصًا صافيًا، وكان سندهم فيه عن نبيِّهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن ربِّ العالمين سندًا صحيحًا عاليًا، وقالوا: هذا عَهْد نبيِّنا إلينا، وقد عَهِدْنا إليكم، وهذه وصية ربِّنا وفرضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التَّابعون لهم بإحسانٍ على منهاجهم القويم، واقتفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج:24]، وكانوا بالنِّسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:13-14].

ثم جاءت الأئمَّة من القرن الرابع المفضَّل في إحدى الروايتين، كما ثبت في الصَّحيح من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعِمْرانِ بن حُصَين رضوان الله عليهم، فسلكوا على آثارهم اقتصاصًا، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسًا، وكان دين الله سبحانه أجلَّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يُقدِّموا عليه رأيًا أو معقولاً أو تقليدًا أو قياسًا، فطار لهم الثَّناء الحسَنُ في العالَمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدقٍ في الآخِرين، ثم سار على آثارهم الرعيلُ الأول من أتباعهم، ودرَج على منهاجهم الموفَّقون من أشياعهم، زاهدين في التعصُّب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحقِّ أين سارت ركائبه، ويستقلُّون مع الصواب حيث استقلَّت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زَرافات ووُحْدانًا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمرٍ انتدبوا إليه ولا يسألونه عمَّا قال برهانًا، ونصوصه أجلُّ في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدِّموا عليها قولَ أحدٍ من الناس، أو يُعارضوها برأيٍ أو قياس.

ثم خلَف من بعدهم خُلوفٌ فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، كلُّ حزب بما لديهم فَرِحون، وتقطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا، وكلٌّ إلى ربِّهم راجعون، جعلوا التعصُّب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتَّجِرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف من الآية:22]، والفريقان بمعزلٍ عمَّا ينبغي اتِّباعُه من الصواب، ولسان الحقِّ يتلو عليهم: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء من الآية:123].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنَّ من استبانت له سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدَعَها لقول أحدٍ من الناس، قال أبو عُمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم، وأنَّ العلم معرفة الحقِّ بدليله، وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى: فإنَّ الناس لا يَختلفون أنَّ العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدَّليل، وأما بدون الدليل فإنَّما هو تقليد؛ فقد تضمَّن هذان الإجماعان إخراجَ المتعصِّب بالهوى، والمقلِّدِ الأعمى عن زُمْرة العلماء، وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من ورَثة الأنبياء؛ فإن «العلماء هم ورَثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظِّه، أو بحظٍّ وافر» (1).

وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم مَن يجهد ويكدح في ردِّ ما جاء به إلى قول مقلِّده ومَتْبوعه، ويضيع ساعات عمره في التعصُّب والهوى، ولا يشعر بتضييعه؟!

تالله إنَّها فتنةٌ عمَّت فأعْمَت، ورمَت القلوب فأصمَّت، ربَا عليها الصغير وهرم فيها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآنُ مهجورًا، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورًا، ولما عمَّت بها البليَّة، وعظمت بسببها الرزيَّة؛ بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها، ولا يعدُّون العلم إلاَّ إياها، فطالِبُ الحقِّ من مَظانِّه لدَيْهم مفتون، ومُؤْثِره على ما سواه عندهم مغبون، نصَبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبَغوا له الغوائل، ورمَوْه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنا نخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يُظْهِر في الأرض الفساد!

"فحقيقٌ بمن لنفسه عنده قَدْر وقيمة، ألاَّ يلتفت إلى هؤلاء، ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفِع له علم السُّنة النبوية شَمَّر إليه ولم يحبس نفسه عليهم، فما هي إلاَّ ساعة حتى يُبعثَر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله، وينظر كلُّ عبد ما قدَّمت يداه، ويقع التمييز بين المُحقِّين والمبطلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربِّهم وسُنَّة نبيهم أنَّهم كانوا كاذبين" (إعلام الموقعين [1/ 5-8]).

حكم التعصب المذهبي:

من آراء العلماء السَّابقة يتبيَّن لنا أن التعصُّب لمذهب معيَّنٍ لا يجوز شرعًا.

قال ابن تيميَّة: "ولا يجوز لأحدٍ أن يرجِّح قولاً على قولٍ بغير دليل، ولا يتعصَّب لقول على قول، ولا لقائل على قائلٍ بغير حُجَّة، بل من كان مقلِّدًا لَزِم حكم التَّقليد فلم يرجِّح ولم يزيِّف، ولم يصوِّب ولم يُخطِّئ، ومن كان عنده من العلم والبيانِ ما يقوله سُمِع ذلك منه، فقُبِل ما تبيَّن أنه حق، ورُدَّ ما تبيَّن أنه باطل، ووُقِف ما لم يتبيَّن فيه أحدُ الأمرين، والله تعالى قد فاوتَ بين الناس في قُوَى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [35/233]).

وقال محمد سلطان الخجندي: "فمن يتعصَّب لواحد معيَّن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتِّباعُه دون الأئمة الآخرين؛ فهو ضالٌّ جاهل، بل قد يكون كافرًا يُستَتاب، فإن تاب فبها، وإلاَّ قُتل؛ فإنَّه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتِّباعُ أحدٍ بعينه من هؤلاء الأئمة، فقد جعله بمنزلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وذلك كُفْر" (رسالة: هل المسلم مُلْزَم باتباع مذهب معيَّن من المذاهب الأربعة؟ لـ محمد سلطان المعصومي الخجندي، [ص:54]).

هذا، وقد ذُكِر عن الأئمَّة الأعلام أقوالٌ تنبذ التعصُّب، وتنهى عنه، وتنصُّ على الأخذ بالدليل وإن كان مُخالفًا لقولهم؛ وهذا من تعظيمهم رحمهم الله للأثر، وصَرْف أتباعهم إلى الأخذ بالدليل، وأن يكونوا مع الدليل والحقِّ حيثما دارَا.

قال الإمام أبو حنيفة: "إذا جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرَّأس".

وقال الإمام مالك: "ما مِن أحدٍ إلاَّ ويُؤخذ من قوله ويُترك، إلاَّ صاحب هذا القبر -وأشار إلى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم".

وقال الإمام الشافعيُّ: "كلُّ ما قلت، وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصحُّ، فحديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم أولَى، ولا تقلِّدوني".

وقال الإمام أحمد: "لا تكتبوا عنِّي شيئًا، ولا تقلِّدوني، ولا تقلِّدوا فلانًا وفلانًا -وفي رواية: "مالكًا، والشافعيَّ، والأوزاعي"، ولا الثوريَّ- وخُذُوا من حيث أَخذوا".

ومع أن الأئمَّة نصُّوا على عدم تقليدهم، والأخذ بالدليل وإن كان مخالفًا لأقوالهم، إلا أنَّ ذلك لم يمنع من وجود طائفةٍ تعصَّبَت لأقوال أئمتهم، وغَلوا في ذلك غُلوًّا كبيرًا، فمن أقوال بعض المتعصبِّة:

قال الحصكفي في أبيات يمدح بها الإمام أبا حنيفة، منها:

 

فَلَعْنَةُ رَبِّنَا أَعْدَادَ رَمْلٍ *** عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ


وأنشد منذرُ بن سعيد الظاهريُّ عدَّة أبيات تُصوِّر حالة تشبُّث المالكيَّة بقول الإمام بدون دليلٍ، فقال:
 

عَذِيرِيَ مِنْ قَوْمٍ إِذَا مَا سَأَلْتُهُمْ *** دَلِيلاً يَقُولُوا: هَكَذَا قَالَ مَالِكُ
فَإِنْ زِدْتُ قَالُوا: قَالَ: سُحْنُونُ مِثْلُهُ *** وَقَدْ كَانَ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ
فَإِنْ قُلْتُ: قَالَ اللهُ، ضَجُّوا وَأَعْوَلُوا *** عَلَيَّ وَقَالُوا: أَنْتَ خَصْمٌ مُمَاحِكُ


وقال إمام الحرَمين الجوينيُّ الشافعي: "نحن ندَّعي أنه يجب على كافَّة العاقلين وعامَّة المسلمين -شرقًا وغربًا، بُعدًا وقربًا- انتحالُ مذهب الشافعي، ويجب على العوامِّ الطَّغَام، والجُهَّال الأنذال أيضًا انتحالُ مذهبه؛ بحيث لا يَبْغُون عنه حِوَلاً، ولا يريدون به بدلاً"!

وقال أحد الحنابلة:
 

أَنَا حَنْبَلِيٌّ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ *** فَوَصِيَّتِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا


والحقُّ هو اتِّباع الدليل والأخذ به ممن قاله، ولا يقدح ذلك فيمن تَرْك مذهبه في مسألة، ولا يُعتبر مُخالفًا لإمامه، بل هو متَّبِع له كما نصُّوا على ذلك.

قال أبو مزاحم الخاقاني في شعرٍ له:

أَقُولُ الآنَ فِي الفُقَهَاءِ قَوْلاً *** عَلَى الإِنْصَافِ جَدَّ بِهِ اهْتِمَامِي
أَرَى بَعْدَ الصَّحَابَةِ تَابِعِيهِمْ *** لِذِي فُتْيَاهُمُ بِهِمُ ائْتِمَامِي


 

عَلِمْتُ إِذَا عَزَمْتُ عَلَى اقْتِدَائِي *** بِهِمْ أَنِّي مُصِيبٌ فِي اعْتِزَامِي
وَبَعْدَ التَّابِعِينَ أَئِمَّةٌ لِي *** سَأَذْكُرُ بَعْضَهُمْ عِنْدَ انْتِظَامِ


 

فَسُفْيَانُ العِرَاقِ وَمَالِكٌ فِي *** حِجَازِهِمُ وَأَوْزَاعِيُّ شَامِ
أَلاَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ قُدْوَةٌ لِي *** نَعَمْ وَالشَّافِعِيُّ أَخُو الكِرَامِ


 

وَمِمَّنْ أَرْتَضِي فَأَبُو عُبَيْدٍ *** وَأَرْضَى بِابْنِ حَنْبَلٍ الإِمَامِ
فَآخُذُ مِنْ مَقَالِهِمُ اخْتِيَارِي *** وَمَا أَنَا بِالْمُبَاهِي وَالْمُسَامِي


 

وَأَخْذِي بِاخْتِلاَفِهِمُ مُبَاحٌ *** لِتَوْسِيعِ الإِلَهِ عَلَى الأَنَامِ
وَلَسْتُ مُخَالِفًا إِنْ صَحَّ لِي عَنْ *** رَسُولِ اللهِ قَوْلٌ بِالكَلاَمِ


 

إِذَا خَالَفْتُ قَوْلَ رَسُولِ رَبِّي *** خَشِيتُ عِقَابَ رَبٍّ ذِي انْتِقَامِ
وَمَا قَالَ الرَّسُولُ فَلاَ خِلاَفٌ *** لَهُ يَا رَبِّ أَبْلِغْهُ سَلاَمِي


الآثار المترتبة على التعصُّب المذهبي:

التعصب إلى أيِّ مذهب يترتَّب عليه آثارٌ سلبيَّة، منها:

أولاً: افتراق وَحْدة المسلمين، وهذا يظهر جليًّا فيما حكاه بعضُهم بأن رجلاً رأى آخَر وهو يرفع سبَّابته عند التشهُّد، فضربها حتى كسرها؛ لأنَّه يرى أن رفع السَّبَّابة مُحرَّم! و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة من الآية:156]، لا سِيَّما وأن رفع السبَّابة أمرٌ مشروع.

ثانيًا: التَّنافُس بين تلاميذ المذاهب، والذي دفعَهم إلى الوقيعة، والتباغض، والتَّقاتُل، والتاريخ شاهدٌ بذلك، بل وتَرْك الصَّلاة وراء بعضهم البعض.
ثالثًا: نشوء ضعف الوازع الدِّيني؛ وذلك بأنَّ المكلَّف إذا وعظ بالآية وعلم أنَّ هذا كلام الله، أو ذَكَّر بالحديث وعلم أنَّ هذا كلام رسول الله كان لهذا شأنٌ عنده، بعكس ما لو قيل له: هذا رأي الإمام فلان، أو الإمام فلان، وبذلك نشَأ عند كثيرٍ من المسلمين ضَعْفُ الوازع الدِّيني، والذي نُشاهده في التحايل على الأمور الشرعيَّة.


رابعًا: نشأة التَّلفيق، وهو الاتِّجاه إلى جمع الرُّخَص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التَّهاون، وارتكابُ كثيرٍ من المُخالَفات، وذلك بتتبُّع الأقوال التي تُناسب هوى كلِّ إنسان من كل مذهب، ولو كان الاحتكامُ إلى الدليل من الكتاب والسُّنة لَمَا وُجِد هذا.

خامسًا: تعظيم الأئمَّة إلى الحدِّ الذي يرفعهم إلى نِسْبة العصمة لهم، وعدم جواز الخطأ عليهم، ولذلك نرى كثيرًا من العلماء لا يجرؤ أن يقول: "أخطأ الإمامُ في هذه المسألة"، مع العلم أنَّه يرى النصَّ بخلاف الفتوى، وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى ردِّ الآية المُحْكَمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى؛ خوفًا من مُخالفة الإمام، وهذا إن لم يكن شِرْكًا بالله فهو ذريعةٌ إلى الشِّرك، وتقديمُ غير أمر الله على أمر الله".

خلاصة القول:

اعلم أنَّ بين الأئمة اختلافًا كبيرًا في الفروع وبعضِ الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات ومُفْردات منكَرة، وإنما أُمِرنا باتِّباع أكثرهم صوابًا، ونجزم بأنَّ غرضهم ليس إلا اتِّباع الكتاب والسُّنة، وكلَّما خالفوا فيه لقياسٍ أو تأويل قال: وإذا رأيت فقيهًا خالف حديثًا أو ردَّ حديثًا، أو حرَّفَ معناه فلا تُبادر لتغليطه، فقد قال عليٌّ رضي الله عنه لمن قال له: "أتظنُّ أنَّ طلحة والزبير كانا على باطل: يا هذا، إنَّه ملبوس عليك، إن الحقَّ لا يُعرَف بالرِّجال، اعرِف الحقَّ تَعْرِفْ أهله" (الجامع لأحكام القرآن لـ القرطبي، [1/340]).

وما زال الاختلافُ بين الأئمة واقعًا في الفروع وبعض الأصول، مع اتِّفاق الكل على تعظيم الباري جلَّ جلاله وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأنَّ ما شرَعه رسولُه حق، وأنَّ كتابهم واحد، ونبيَّهم واحد، وقِبْلتهم واحدة، وإنَّما وُضِعت المُناظرة لكشف الحقِّ، وإفادة العالِم الأزكى العلمَ لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإنْ داخَلَها زَهْوٌ من الأكمل، وانكسارٌ من الأصغر، فذاك دأب النفوس الزكيَّة في بعض الأحيان؛ غفلةً عن الله، فما الظنُّ بالنفوس الشريرة المنطَفِيَة؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:

1- (رواه أبو داود [3641] كتاب: العلم، باب: الحثّ على طلب العلم، والترمذيُّ برقم: [2682]؛ كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وابن ماجَهْ برقم: [223]؛ باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم، وأحمد [5/196]، والدارميُّ [1/110] برقم: [342]؛ باب: في فضل العلم والعالم، من حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه. قال الترمذيُّ: ولا نعرف هذا الحديث إلاَّ من حديث عاصم بن رجاء بن حَيْوة، وليس هو عندي بمتَّصِل هكذا حدَّثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يُروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيسٍ، عن أبي الدَّرْداء، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا أصحُّ من حديث محمود بن خداش، ورأى محمد بن إسماعيل هذا أصح، وقال الشيخ المجدِّدُ ناصر الدين الألبانيُّ في صحيح الجامع برقم [6297]: صحيح).

 

سامح محمد عيد