دروس لم نستفدها من رمضان

منذ 2013-07-23

عامًا بعد عام، وفائدة بعد فائدة، يبنى الإيمان، وتتغير القلوب والجوارح والأركان، وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد، والجيش عدد من الأجناد، وحين نبحث عن التغيير يمن الله علينا بالتغيير فيبدل الحال إلى خير حال، وحينها نكون قد استفدنا من رمضان.

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أخي الحبيب: تقبل الله منا ومنك الصيام والقيام، وسائر الصالحات، وبلغني الله وإياك رمضانات عديدة خلال أزمنة مديدة، وختم لنا بحسن الخاتمة.. آمين.

ها هو رمضان يقبل فتقبل قلوب العباد على الرحمن، ويقل العصيان، وينيب الكثيرون من الشاردين إلى الديان، وما إن ينفتِل البعض من الصيام حتى يعود إلى سابق عهده، وينسى مواثيقه وعهوده لربه، ولربما تلون كالحرباء فألقى عنه رداء رمضان عائدًا إلى المخالفة والعصيان، فهل هؤلاء استفادوا من رمضان كما يريد ربنا الرحمن؟!
كلا.. ما هكذا يودع رمضان، ولي? هكذا يكون حال طلاب مدرسة رمضان.

إن مدرسة الثلاثين يومًا التي ندخل فيها كل عام لا بد أن تترك فينا درسًا، وأن تغرس فينا ثمارًا، وما علينا إلا أن نتعهد تلك الدروس، ونعتني بتلك الثمار حتى نرفل في ظلال شجرة التقوى التي تساقط كثير من ورقها خلال أيام وشهور العام في حياة الكثيرين.

إن شهر رمضان بمثابة الماء العذب، والنبع الذي يغذي تلك الشجرة فيجعلها تضرب بجذورها في القلب فيظهر أثرها الطيب على الجوارح؛ في إنابة صادقة واستسلام وطاعة، وإخبات واستقامة، وتضرع ومناجاة، وإصلاح للسان، وتعود على الكرم والجود، وتقوية للمراقبة للرب المعبود، وتخليص للأعمال من شوائب الرياء، وسعي حثيث إلى الجنة، وفرار وهرب من النار، وتحرز من الشيطان المريد المطرود.

وتعاون وبذل على رفع راية الدين التليد، وشعور بأمة الجسد الواحد، وتعلق بالمساجد، وتحرر من سلطان التقاليد والعادات، وتحكم في النفس الأمارة، وتغير في السلوك والأخلاق، وحب لعبادة الخلاق، وإيثار لمحابه على محابك، وحرص على الأوقات، ودروس رمضان لا تنتهي، لكن المهم: ماذا فيك من هذه الدروس؟ ماذا ترك فيك رمضان؟!

30 يومًا صيامًا متواصلاً..
30 يومًا قيامًا متواصلاً..
30 يومًا تلاوة وإقبالاً على القرآن..
30 يومًا كلها فرص للعتق من النيران..
30 يومًا مليئة بالدعوات المستجابات..
30 يومًا والشياطين مسلسلة مصفدة..
30 يومًا وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة..
30 يومًا في الأجواء الإيمانية الراقية..

ثم عشر ليالٍ ليس في الدنيا مثلها..
عشر ليالٍ بأيامها إقامة دائمة في أحب البقاع إلى الله..
عشر ليالٍ في صحبة الركع السجود..
عشر ليالٍ في الانقطاع إلى الله..
عشر ليالٍ عبادة صافية بعيدًا عن الدنيا بشهواتها، وفتنها، ومشاغلها..
عشر ليالٍ قيامًا، وبكاءً وتضرعًا في طقس إيماني صحي عزيز الوجود..

ماذا ترك فينا رمضان؟؟

لو أنك دربت حيوانـًا - أعزك الله - ولمدة أقل من هذه المدة لأثر فيه التعليم، وظهر عليه أثر التقويم! فأين أثر رمضان؟!
أين من يتحرى الإخلاص في عمله مستصحبًا له في درسه: "من صام رمضان"، "من قام رمضان"، "من قام ليلة القدر"، وفي الجميع: "إيمانـًا واحتسابًا"؟!
هل استصحبنا هذا الدرس من رمضان أو هو درس غير مستفاد من رمضان؟
نعم إنه في حق الساعين إلى الصدارة، محبي الظهور، الباحثين عن الثواب العاجل من المدح والثناء على الأعمال!

المجتهدين في البذل والعطاء طالما كانوا في المقدمة؛ فإن نقلوا إلى الساقة كان التثاقل والتراجع في حق هؤلاء جميعًا أين درس الإخلاص؟!

تدربنا في رمضان على الانقياد والاستسلام للملك الديان، ليس فقط في ترك الحرام والابتعاد عن الفسوق والعصيان، وإنما في ترك المباحات من الشهوات والطيبات؛ فالطعام بموعد، والشراب كذلك، ولا ملامسة إلا في الأوقات المخصصة، فيا من تركت المباح من الملاذ والشهوات، ألا تترك المحرمات والموبقات؟!

أما تخرج من رمضان طيعًا منقادًا مخبتـًا منيبًا لرب الأرض والسموات؟ أين الاستفادة من: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ومن: {يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي} [متفق عليه]، فأين من يدع صحبة الفتيات ومقارفة السيئات من أجل الله؟
أين الذين يسهرون على تقليب القنوات والنظر إلى العورات والمنكرات من هذا الدرس؟
أين الذين يبحثون عن الجديد في المواقع الإباحية مما يغضب الله عز وجل؟ أين هم من هذه الثمرة؟
هل تعلمت الانضباط وأن توقف نفسك عند حدها فلا تتعدى طورها وتعرف قدرها "عبد" وكفى بها شرفـًا؟
هل تعاهدت لسانك بالإصلاح فـ "تقل خيرًا أو تصمت"، أم ما زال الوقوع في الغيبة والنميمة والبهتان؟
أين تدريب: "إني صائم... إني صائم"؟! أين ذهب ذلك القفل؟!
لماذا تركناه بعد رمضان؟
أين أثر رمضان على اللسان؛ ذلك اللسان الذي رتل وتلا، وذكر وابتهل، وأمر ونصح، كيف يعود إلى سابق عهده قبل رمضان؟
هل الذي ذهب في أيام العيد إلى أماكن الحرام وبنفس الأقدام التي انتصبت لله في الظلام هل هو استفاد من رمضان؟
هل الذي خرج من رمضان والاعتكاف فعاد إلى رفاق السوء، هل استفاد من رمضان الحرص على الصحبة الصالحة متمثلة في رفقة المسجد؟
هل الذي ترك الصلاة بعد رمضان أو أخرها عن وقتها بعد ما كان يحافظ على سنة التراويح، هل استفاد من رمضان؟!
هل انتفع بتفتيح أبواب الجنان وتغليق أبواب النيران؛ ليوجِّه وجهة قلبه، وييمم دفة عمله إلى رضا ربه، والمسارعة إلى ما يحبه لينال في الجنة قربه؟!

أخي: يا من تـَخرَّج حديثـًا ومنذ أيام من مدرسة رمضان الصيام، ونحو ما سبق من الكلام: خذ هذه الهمسات حول الأوراد والطاعات:
- استترت من الشهوات بالصيام، واستشعرت أثره في الانكفاف عنها، والتحصن منها، وظهر ذلك في التحرز من إطلاق البصر والحرص على حفظ الفرج وما يفسد الصوم، وأكثرنا لم يزل شابًا عزبًا؛ فلم تتخل عن الصيام بعد رمضان؟
لم لا تجعل لك وردًا تداوم عليه حتى يختم لك به فتكون من أهل الجنة؟!
أغفلت ع?: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» [متفق عليه]؟ أم لم تعلم: «مَنْ خُتِمَ لَهُ بِصِيَامِ يَوْمٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ» [رواه البزار، وصححه الألباني
- تلذذت بالقيام والمناجاة وخصوصًا في ليالي العشر، وفي أسحار الشهر، وتذوقت حلاوة الإيمان، وظهر لك أثر الدموع في رسم طريق العودة والرجوع، وسجدت وبكيت وتضرعت، فلم تترك القيام بعد رمضان؟
أتتخلى عن شرفك؟
أم تتهاون في القرب من ربك؟
أم لم تعرف أنها بعد المكتوبة أفضل الصلاة، وهي من طرق النجاة كما ورد: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» [متفق عليه]، فاجعل لك وردًا من القيام بعد رمضان، ولا تكن تاركًا له مثل فلان!
وأين مصحفك؟ أما كان يلازمك؟ أما كنت تشغل به غالب وقتك؟ في أي الأجزاء أنت اليوم من أجزائه؟ أم عدت إلى هجره وجفائه؟
أما تعلم أنه رفعتك وذكرك؟ ونور لك في قبرك وشفيع لك في حشرك؟ ثم هو قائد إلى الجنة وسبب في رفع الدرجة! أم نسيت أن الحرف بعشرة؟
بربك عد إلى وردك، وتفقد المصحف في جيبك، بل اجعله في قلبك، وداوم على القيام به وقراءته تكن من أهل الله وخاصته.
- كنتَ في رمضان في مجاهدة، ومسابقة ومسارعة ومنافسة، وبمروره وانتهائه قد اقتربت من قبرك شهرًا، وقـَلت من عمرك أيام عددًا، فلم وضعت عصا السير بعد الشهر؟!
ولم تكاسلت في المجاهدة للشيطان والنفس والهوى؟!
أما علمت أنه لا مستراح لك إلا في ظل طوبى، وأن المجاهدة تزيدك من ربك قربًا؟!

أخي: فتش في نفسك، قف معها وقفة، قل لها: ماذا استفدت من رمضان هذا العام؟؟

وعامًا بعد عام، وفائدة بعد فائدة، يبنى الإيمان، وتتغير القلوب والجوارح والأركان، وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد، والجيش عدد من الأجناد، وحين نبحث عن التغيير يمن الله علينا بالتغيير فيبدل الحال إلى خير حال، وحينها نكون قد استفدنا من رمضان، بالله عليك لنجعل العنوان: "دروسًا مستفادة من رمضان".
وذلك لا يكون إلا بالمبادرة إلى التطبيق، والارتفاع إلى سماء الفضائل والتحليق، وحينها يضرب بنا المثل، ونتخلص من العجز والكسل، وتكون بوصف خير أمة حقيقـًا، وبالتمكين جديرًا، ثم سبح معي ومجد ربًا غفورًا شكورًا.

جمعني الله وإياك في مستقر رحمته، ومتعنا بالنظر إلى وجهه.. آمين.

 

إيهاب الشريف