التأثير الرمضاني
إن ما كنت أتوقف عنده هو محاولة معرفة العلاقة بين هذه الأمور الثلاثة العظيمة التي جمعها الله لهذه الأمة في هذا الشهر المبارك أعني بهذه الأمور: (الصيام.. التقوى.. القرآن).
لا يدخل رمضان إلا وتداعى إلى الذهن أنواع متعددة من الثنائيات: الصيام والتقوى، رمضان والقرآن، الصيام والقيام، الإيمان والاحتساب، الفطور والسحور، التعجيل والتأخير، الصبر والشكر. إلا أنني كنت أتوقف كثيرًا عند الروابط بين بعض هذه الثنائيات خصوصًا عند ثنائية الصيام والتقوى، ورمضان والقرآن، فالصيام قبل أن يكتب علينا كتب على الذين من قبلنا، فكنت ألمح في جعل شهر رمضان مصامًا لهذه الأمة تحريكًا للذهن بتطلب الحكمة من ذلك، خصوصًا بعد أن وصفه الله بقوله: {الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. والرابط قد يكون واضحًا للكثيرين، إلا أن ما كنت أتوقف عنده هو محاولة معرفة العلاقة بين هذه الأمور الثلاثة العظيمة التي جمعها الله لهذه الأمة في هذا الشهر المبارك أعني بهذه الأمور: (الصيام.. التقوى.. القرآن).
وأظن أن الحكمة واضحة جليلة لمن يستحضر في هذا المقام قول الله عن القرآن: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. فإذا استحضر الذهن ترتيب هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} [البقرة:2]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]. فسينتج له من ذلك أن الرابط بينها هو التقوى المؤهلة للانتفاع بالقرآن، وسينتج له أن الصائم ينتفع بالقرآن أكثر من غير الصائم، وأن الصائم في رمضان ينتفع بالقرآن أكثر من غير القرآن لو فرضنا أن هناك شيئا ينفعه أكثر من القرآن في غير رمضان، وأن الانتفاع بالقرآن ومدارسته في هذا الشهر له ميزة وخاصية ليست لغيره من الشهور.
ولهذا كانت العناية بالقرآن في هذا الشهر من أهم ما يحرص عليه العلماء والمقتدون بهدي سيد المرسلين.
مما يستهويني من شعب الكلام وفنون الحديث فن التشبيه، وقد حملني هذا البيت المشهور في كتب الفقهاء عند تعريفهم للصوم و المنسوب للنابغة، حملني على تشببه مجموع الجوارح والطاقات والقدرات التي أودعه? الله عباده المكلفين بمجموع أصناف الخيل في البيت السابق، وشجعني على هذا التشبيه ما قرأته في ديوان المعاني حيث قال: "أخبرنا أبو أحمد قال أنشدنا محمد بن يحيى قال أنشدنا المبرد قول النابغة وذكر أنه أحسن ما قيل في تقسيم الخيل في الحرب: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ... تحت العجاجِ وخيلٌ تعلكُ اللجُما، قال ثعلبُ: قلتُ لابن الأعرابي، الصائمة: التي لا تصهل، وغير الصائمة: التي تصهل، فما هذه الأخرى؟ قال: التي تعلك اللجم في الكمين" (ديوان المعاني (2/ 67)).
من فقه الموازنات: يظهر من هذا التشبيه أن طاقات الإنسان متعددة ولا يمكن أن تعمل كلها بأقصى قوتها في وقت واحد، فبروز إحدى القوى لا يكون إلا على حساب قوة أخرى. ولا يبقى في ممكن الإنسان إلا الموازنة بين هذه القوى، وإبرازها أو تحجيمها وإلجامها بحدود الشرع وتوجيهاته المرشدة إلى المنازل التي يجب إنزالها فيها، وبهذه الموازنات ومقدار الفقه فيها والحنكة في سياستها؛ يتفاوت الناس وتتفاوت قدراتهم وطاقاتهم ومنازلهم.
الجوع المشْبِع: وأيا ما كان من شأن تلك الجوارح والقوى، فقد تواتر أن هناك قوة إذا عملت بكامل طاقتها؛ عطلت كثيرًا من القوى وأصابتها بالشلل والضمور، وأن هذه القوة هي أَولى القوى بالتحجيم والحبس وأنها أحق القوى بالوصف الأول في بيت النابغة. قال أبو سليمان الداراني: "إِنَّ النَّفْسَ إِذَا جَاعَتْ وَعَطِشَتْ صَفَا الْقَلْبُ وَرَقَّ، وَإِذَا شَبِعَتْ وَرَوِيَتْ عَمي الْقَلْبُ" (الجوع لابن أبي الدنيا) ومما قيل في ذلك: "إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء فإذا شبعت جاعت كلها" وقال ابن رجب في مجموع الرسائل: "واعلم أنَّ عيش الجسد يُفسد عيشَ الروح وينغصه، وأمَّا عيشُ الروح فإنَّه يُصلح عيشَ الجسد، وقد يُغنيه عن كثيرٍ مما يحتاج إِلَيْهِ من عيشه".
الغايات إنما تُبلَغ بجياد مُضمَّرة: صام أبو موسى الأشعري حتى عاد كأنه خلال، فقيل له: "لو أجممت نفسك"، فقال: "أَيْهَاتَ إِنَّمَا يَسْبِقُ مِنَ الْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةُ" (قصر الأمل لابن أبي الدنيا). خطر لي أن رمضان مصام لترويض النفوس وإضمارها لتكون على أقوى ما تكون عليه من التنافس والسباق وطلب عوالي الأمور والهرب والنجاة من المعاطب والسفاسف، ولم تكن الخيل بحسب قراءتي تضمَّر إلا لأحد أمرين: المسابقة عليها أو تهيئتها لتكون وسيلة فعالة للطلب أو الهرب.. وفي فريضة الصيام في هذا الشهر يظهر أحد مظاهر العدل الرباني في تهيئة النفوس وإعدادها لتكون مستعدة للسباق، وقد قرر الفقهاء أنه يجب في السبق أن تكون الخيل من نوع واحد فلا يصح أن يكون السباق بين خيل مضمرة وخيل غير مضمرة، قرأت قديمًا أن الغايات إنما تُبلَغ بجياد مُضمَّرة.
سعيد بن مهدي
- التصنيف:
- المصدر: