الشيخ عبد العزيز بن باز (1330هـ/1912م - 1420هـ/1999م)
كانت العقيدة على رأس اهتمامات الشيخ، صال في ميدانها وجال، دروساً، وخطباً، ومحاضرات، وكتابات، لتكون عقيدة المسلمين هي عقيدة السلف الصالح، المستمدة من الكتاب والسنة فالعلم بها وتعليمها، هما العمل المفضَّل لديه، فعليها تقوم سائر العلوم الشرعية الأخرى، وفي صحتها صحة لسائر علوم الدين، وفي فسادها فساد كل تلك العلوم.
ولد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في مدينة الرياض، في الثاني عشر من شهر ذي الحجة عام (1330هـ) في بيت علم وفضل وجدّ في طلب الرزق الحلال عن طريق الزراعة والتجارة. فآل باز أسرة عريقة في العلم والتجارة والزراعة معروفة بالفضل والأخلاق، قال الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله في كتابه حول تراجم الحنابلة: أن أصلهم من المدينة النبوية، وأن أحد أجدادهم انتقل منها إلى الدرعية، ثم انتقلوا منها إلى حوطة بني تميم.
كان الشيخ عبد العزيز بن باز بصيراً في أول حياته، ثم أصابه المرض في عينيه عام (1346هـ) وأخذ في الضعف تدريجياً حتى فقد بصره كلياً في مستهل محرم من عام (1350 هـ) وعمره قريب من العشرين عاما؛ قال الشيخ: "والحمد لله على ذلك، وأسأل الله جل وعلا أن يعوضني عنه بالبصيرة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة، كما وعد بذلك سبحانه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما أسأله سبحانه أن يجعل العاقبة حميدة في الدنيا والآخرة".
ومما ينبغي أن يعلم أن سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله قد استفاد من فقده لبصره فوائد عدة نذكر على سبيل المثال منها لا الحصر أربعة أمور:
الأمر الأول: حسن الثواب، وعظيم الأجر من الله سبحانه وتعالى، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه في حديث قدسي أن الله تعالى يقول: «» (البخاري 5653).
الأمر الثاني: قوة الذاكرة، والذكاء المفرط، فالشيخ رعاه الله حافظ العصر في علم الحديث فإذا سألته عن حديث من الكتب الستة، أو غيرها كمسند الإمام أحمد والكتب الأخرى تجده في غالب أمره مستحضرا للحديث سندا ومتنا، ومن تكلم فيه، ورجاله وشرحه.
الأمر الثالث: إغفال مباهج الحياة، وفتنة الدنيا وزينتها، فالشيخ أعانه الله متزهد فيها أشد الزهد، وتورع عنها، ووجه قلبه إلى الدار الآخرة، وإلى التواضع والتذلل لله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: استفاد من مركب النقص بالعينين، إذ ألح على نفسه وحطمها بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء الكبار، المشار إليهم بسعة العلم، وإدراك الفهم، وقوة الاستدلال، وقد أبدله الله عن نور عينيه نورا في القلب، وحبا للعلم، وسلوكا للسنة، وسيرا على المحجة، وذكاء في الفؤاد.
توفي أبوه وهو طفل صغير، ولهذا فإنه لا يعرفه ولا يتذكر ملامحه. وتوفيت أمه عام (1355هـ) وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وبموتها فقد الكثير، وهو الكفيف الذي أصيب بالعمى قبل موتها بست سنين، ومن في الناس كالأم.
من أخبار سماحة الشيخ في صباه:
مما يُذْكَر أنه كان في صباه ضعيف البنية، وأنه لم يستطع المشي إلا بعد أن بلغ الثالثة، ذكر ذلك ابنه الشيخ أحمد، وكان سماحة الشيخ معروفاً بالتقى والمسارعة إلى الخيرات، والمواظبة على الطاعات منذ نعومة أظفاره، وقد ذكر الشيخ سعد بن عبد المحسن الباز وهو قريب لسماحة الشيخ ويكبره بعشر سنوات ذكر أن سماحة الشيخ منذ نعومة أظفاره كان شاباً تقياً سباقاً إلى أفعال الخير، وأن مكانه دائماً في روضة المسجد وعمره ثلاثة عشر عاماً، ومن الأخبار المعروفة عن سماحة الشيخ ابن باز في صباه أنه كان معروفاً بالجود والكرم، وقد ذكر الشيخ سعد بن عبد المحسن الباز رحمه الله أن سماحة الشيخ عبد العزيز وهو طالب عند المشايخ إذا سلَّم عليه أحد دعاه إلى غدائه، أو عشائه، ولم يكن يحتقر شيئاً يقدمه لضيوفه ويجعل الله في الطعام خيراً كثيراً.
أَلِفَ المروَّة مُذْ نشا فكأنه *** سُقي اللَّبانَ بها صبياً مُرْضَعا
ومن أخباره في صباه أنه كان يكتب، ويقرأ ويعلق على الكتب قبل أن يذهب بصره. وقد قيل ذات مرة لسماحة الشيخ: "سمعنا أنك لا تعرف الكتابة". فأجاب سماحته بقوله: "هذا ليس بصحيح؛ فأنا أقرأ وأكتب قبل أن يذهب بصري، ولي تعليقات على بعض الكتب التي قرأتها على المشايخ مثل الآجروميه في النحو، وغيرها". وإذا أملى سماحة الشيخ كتاباً، أو تعليقاً، وكان هناك إشكال في كلمة ما قال: تُكْتَب هكذا، ويشير إلى راحة يده، وهو يَكْتُب بإصبعه؛ ليرى كيفية الكتابة الصحيحة. وقيل لسماحته ذات مرة: "هل صحيح أنك تتمنى أنك رأيت الإبل على ما خلقها الله؟" فأجاب سماحته بقوله: "هذا ليس بصحيح؛ فأنا أتصورها؛ لأن بصري لم يذهب إلا وعمري تسع عشرة سنة"(موقع الشيخ ابن باز الرسمي على الإنترنت بتصرف يسير(.
تعليمه:
نشأ سماحة الشيخ عبد العزيز في بيئة عطرة بأنفاس العلم والهدى والصلاح، بعيدة كل البعد عن مظاهر الدنيا ومفاتنها، وحضاراتها المزيفة، إذ الرياض كانت في ذلك الوقت بلدة علم وهدى فيها كبار العلماء، وأئمة الدين، من أئمة هذه الدعوة المباركة التي قامت على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعني بها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفي بيئة غلب عليها الأمن والاستقرار وراحة البال، بعد أن استعاد الملك عبد العزيز رحمه الله الرياض ووطد فيها الحكم العادل المبني على الشريعة الإسلامية السمحة بعد أن كانت الرياض تعيش في فوضى لا نهاية لها، واضطراب بين حكامها ومحكوميها. ففي هذه البيئة العلمية نشأ سماحته حفظه الله.
ولا شك ولا ريب أن القرآن العظيم هو النور الذي يضيء حياته، وهو عنوان الفوز والفلاح، فبالقرآن الكريم بدأ الشيخ دراسته كما هي عادة علماء السلف رحمهم الله إذ يجعلون القرآن الكريم أول المصادر العلمية، فيحفظونه ويتدبرونه أشد التدبر، ويعون أحكامه وتفاسيره، ومن ثمَّ ينطلقون إلى العلوم الشرعية الأخرى، فحفظ الشيخ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، فوعاه وحفظه تمام الحفظ، وأتقن سوره وآياته أشد الإتقان، ثم بعد حفظه لكتاب الله، ابتدأ سماحته في طلب العلم على يد العلماء بجد وجلد وطول نفس وصبر.
ومن الجدير بالذكر والتنويه في أمر نشأته، أن لوالدته رحمها الله أثرا بالغا، ودورا بارزا في اتجاهه للعلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه، فكانت تحثه وتشد من أزره، وتحضه على الاستمرار في طلب العلم والسعي وراءه بكل جد واجتهاد كما ذكر ذلك سماحته في محاضرته النافعة (رحلتي مع الكتاب) وهي رحلة ممتعة ذكر فيها الشيخ في نهاية المحاضرة، وبالخصوص في باب الأسئلة بعض الجوانب المضيئة من حياته. ثم تلقى العلوم العربية والشرعية على أيدي عدد من علماء الرياض، وخاصة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى فقد قرأ عليه الحديث الشريف، والعقيدة، والفقه، والنحو، والفرائض، والتفسير، والتاريخ، والسيرة النبوية. نحواً من عشر سنين (1347 - 1357هـ).
ومن أعلام من أخذ العلم منهم أيضا:
1 - الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله.
2 - الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله.
3 - الشيخ سعد بن حمد بن عتيق (قاضي الرياض).
4 - الشيخ حمد بن فارس (وكيل بيت المال بالرياض).
5 - الشيخ سعد وقاص البخاري (من علماء مكة).
وتابع الشيخ عبد العزيز تحصيله العلمي ذاتياً، حتى صار واحداً من كبار العلماء، بإجماع كبار علماء المسلمين في العالم. وكان الشيخ عبد العزيز فقيهاً حنبلياً في أول طلبه العلم، ولكنه كان واسع الأفق، يأخذ بالرأي الأرجح ذي الدليل الأقوى، كما يأخذ بأقوال الفقهاء، ما دامت أدلتهم من الكتاب والسنة هي الأقوى.
الأعمال والمناصب التي سندت الى سماحته:
1 - القضاء في منطقة الخرج سنة (1357هـ) لأكثر من أربعة عشر عاماً.
2 - التدريس في المعهد العلمي بالرياض سنة (1372هـ)، وكلية الشريعة بالرياض سنة (1381هـ)، في علوم الفقة والتوحيد والحديث.
3 - عُيّن في عام (1381هـ) نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
4 - تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة (1390هـ).
5 - وفي عام (1395هـ) صدر الأمر الملكي بتعينه في منصب الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
6 - عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
7 - رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هيئة كبار العلماء بالمملكة.
8 - عضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
9 - رئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
10 -رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي.
11 -عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
12 -عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
كان الشيخ عالماً من علماء العصر الذي يحيا فيه، يطالع الصحف، وينقل إليه مساعدوه ملفاً كاملاً عن أخبار العالم الإسلامي، فما كان يفوته حدث مهم، وكان يطلع على ما تنشره وسائل الإعلام، وإذا رأى ما يوجب الردّ عليه، بادر إلى الردّ، لا يخشى في الله لومة لائم، مهما كان صاحب الرأي كبيراً، وهذا ما عرفناه في عدد من الوقائع، مثل رسالته إلى الكاتب الكبير محب الدين الخطيب، رئيس تحرير مجلة الأزهر التي رأى الشيخ عبد العزيز أنها نشرت ما يستوجب الرد، لأن فيه ما يخالف ما دلّ عليه الكتاب والسنة. والذي يطالع كتابه (نقد القومية العربية) يعرف مدى اطلاع الشيخ على ما يجري حوله وما يضطرب من أفكار خارجة على الإسلام، وفيها من الضلال ما يستوجب الردّ عليه وفضحه.
استفاد الشيخ، في كتابه هذا، من كتب الشيخ محمد الغزالي، والشيخ أبي الحسن الندوي، ومن رسالة التعاليم للشيخ حسن البنا، رحمهم الله جميعاً، بل لم يكتف بكتب الفكر الإسلامي، فنقل بعض النقول عن الفكر الغربي، مما يدلّ على اطلاعه على ما يترجم من تلك الكتب. وهذا ما نراه في مطالبته العلماء والمسؤولين، من إعادة النظر في المناهج التي رآها متأثرة بالفكر القومي. تصدّى لتلك المناهج، وعمل على تغييرها بحيث تكون متفقة مع عقيدة الأمة وإسلامها.
ميادينه العلمية:
كانت العقيدة على رأس اهتماماته، صال في ميدانها وجال، دروساً، وخطباً، ومحاضرات، وكتابات، لتكون عقيدة المسلمين هي عقيدة السلف الصالح، المستمدة من الكتاب والسنة فالعلم بها وتعليمها، هما العمل المفضَّل لديه، فعليها تقوم سائر العلوم الشرعية الأخرى، وفي صحتها صحة لسائر علوم الدين، وفي فسادها فساد كل تلك العلوم.
وبعدها تأتي علوم التفسير، والحديث، والفقه الحنبلي، غير أنه -كما تقدم- لا يتقيد بالمذهب إذا ظهر له الدليل على خلافه، فالاجتهاد في تقصي الأدلة مفضل عنده، لأن واجب العلماء أن يأخذوا بالدليل من الكتاب والسنة، وفي هذا طمأنينة للقلب، وراحة للضمير، لأنه يأخذ الحكم عن الله ورسوله، لا عن الرجال.
ومنهج الشيخ في بحوثه، يعتمد على ظاهر النص، والتزامه في كل ما يتصل به، ويرى أن النصوص قد تتفاوت في دلالاتها، وهذا يعطيه، كما يعطي غيره من العلماء، حقّ الاجتهاد فيه. ولهذا نرى الشيخ يحترم رأي مخالفيه، ويقرر أنه لا يجوز للمسائل الخلافية الصغيرة أن تكون عامل تفريق بين المسلمين.
الثمرات:
لقد تفوّق الشيخ على نفسه في كثير من الأمور، فلم يستكن للعاهة التي ألمت به، بل تجاوزها كما تجاوز غيرها، ولم تمنعه عاهة العمى عن الخوض في المضامير التي يخوضها المبصرون، ومنها تأليف الكتب، ألف الشيخ وكتب ونشر، ولكنه لم ينشر كل ما كتبه - على أهمية ما كتب وألّف - لأنه يرى أن قيمة النتاج عائدة إلى مدى خدمته للشريعة، ومن ثم للأمة والعباد.
ومن أشهر مؤلفاته:
1 - الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
2 - التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك).
3 - التحذير من البدع.
4 - رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
5 - العقيدة الصحيحة وما يضادها.
6 - وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها.
7 - الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة.
8 - وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
9 - حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار.
10 - نفد القومية العربية.
11 - الجواب المفيد في حكم التصوير.
12 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب(دعوته وسيرته).
13 - ثلاث رسائل في الصلاة.
14 - حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
15 - حاشية مفيدة على فتح الباري.
16 - رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب.
17 - إقامة البرهان على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين.
18 - الجهاد في سبيل الله.
19 - الدروس المهمة لعامة الأمة.
20 - فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.
21 - وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة.
يقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي: "ويغلب على مؤلفاته وضوح المعنى، وسهولة العبارة، وحسن الاختيار، مع قوة الحجة والاستدلال، وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع، وحدة الذكاء، وسيلان الذهن، وبالجملة فالشيخ قد وهب نفسه للعلم والمتعلمين، وبذل جهده في تحقيق المصالح لمن قصده أو عرف به، مع رحابة صدر، وسماحة خاطر".
الشيخ خطيباً:
من سمع الشيخ يخطب، شهد له بالبلاغة، والتأثير في سامعيه الذين يقرؤون الصدق والإخلاص والعلم والثقافة الأدبية واللغوية فيما يسمعون، فلديه قدرة كبيرة على ترتيب أفكاره، بحيث لا يشذّ عنها في استطرادات غير مفيدة، ويلحظون ضبطه لعواطفه، حتى لا تطغى على عقله، فتضيع بعض المعاني التي يريد أن يبثّها لجمهور مستمعيه، ولا يتجاوز في سائر خطبه مفهوم الحكمة والموعظة الحسنة، فيراعي مشاعر المخالفين له في لين، ولا يكون من المنفّرين. ويلحظ سامعه سلامة لغته وأسلوبه من الخطأ الذي ابتلي به كثير من الخطباء والوعاظ وحملة الشهادات العليا الذين تدور الأخطاء النحوية على ألسنتهم ما دارت ألسنتهم. ومن أجمل ما اتصفت به خطابته، بُعدها عن التكلف المقيت، فكان أسلوبه الخطابيّ سلساً عذباً، وبليغاً مسدداً. وكذلك كان الشيخ في محاضراته التي كان يركز فيها على الموضوعات الحيوية التي يمسّ بها القلوب والعقول معاً، وكان عقب كل محاضرة يجيب على أسئلة السائلين إجابات واضحات تكون مكملات للمحاضرة.
صفاته الخلقية:
تفرد سماحة الإمام عبدالعزيز رحمه الله بصفات عديدة لا تكاد تجتمع في رجل واحد إلا في القليل النادر، ومن أبرز تلك الصفات ما يلي:
1 - الإخلاص لله ولا نزكي على الله أحداً فهو لا يبتغي بعمله حمداً من أحد ولا جزاءً، ولا شكوراً.
2 - التواضع الجم، مع مكانته العالية، ومنزلته العلمية. حين مدحه الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله-وكان مما قاله:
إمام الهدى عبد العزيز الذي *** بدا بعلم وأخلاق أمام الورى بدرا
تراه إذا ما جئته متهللاً *** ينيلك ترحيباً ويمنحك البِشْرى
وأما قِرى الأضياف فهو أمامُه *** فحاتم لم يتْرك له في الورى ذكرا
إلى آخر تلك القصيدة .
فكتب الشيخ عبد العزيز رحمه الله مستنكرا:
"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه. أما بعد فقد اطلعت على قصيدة نشرت في العدد التاسع من مجلة الجامعة السلفية في بناس – الهند – لفضيلة الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي، وقد كدرتني كثيراً، وأسفت أن تصدر من مثله، وذلك لما تضمنته من الغلو في المدح لي ولعموم قبيلتي، وتنقصه للزاهد المشهور إبراهيم بن أدهم رحمه الله وتفضيلي عليه في الزهد، وعلى حاتم في الكرم، وتسويتي بشريح في القضاء إلى غير ذلك من المدح المذموم الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحث تراب في وجوه من يستعمله. وإني أبرأ إلى الله من الرضا بذلك، ويعلم الله كراهيتي له، وامتعاضي من القصيدة لما سمعت فيها ما سمعت.
وإني أنصح فضيلته من العود إلى مثل ذلك، وأن يستغفر الله من ما صدر منه، ونسأل الله أن يحفظنا وإياه وسائر إخواننا من زلات اللسان، ووسواس الشيطان، وأن يعاملنا جميعاً بعفوه، ورحمه، وأن يختم للجميع بالخاتمة الحسنة؛ إنه خير مسؤول.
ولإعلان الحقيقة وإشعار من اطلع على ذلك بعدم رضائي بالمدح المذكور جرى نشره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين".
3 - الحلم العجيب الذي يصل فيه إلى حد لا يصدقه إلا من رآه عليه.
دخل عليه في مجلس القضاء في الدلم، رجل كثير السباب فسبَّ الشيخ وشتمه، والشيخ لا يرد عليه، وعندما سافر الشيخ عبد العزيز بن باز إلى الحج توفي هذا الرجل فجهّز للصلاة عليه، في جامع العذار، وكان إمامه آنذاك الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن هليل، فلما علم أنه ذلك الرجل تنحى وامتنع عن الصلاة عليه، وقال: لا أصلي على شخص يشتم الشيخ ابن باز، بل صلوا عليه أنتم؛ فلما عاد الشيخ عبد العزيز من الحج وأخبر بموت ذلك الرجل ترحم عليه، وعندما علم برفض الشيخ ابن هليل الصلاة عليه، قال: "إنه مخطئ في ذلك، ثم قال دلوني على قبره فصلى عليه وترحم عليه ودعا له".
ودخل عليه رجل آخر عنده قضية في الصباح الباكر، والشيخ يدرس الطلاب في الجامع - جامع الدلم - فوقف هذا الرجل عليهم، وأخذ ينادي بصوت مرتفع قائلا: "قم افصل بين الناس، قم افصل بين الناس، واترك القراءة"، فلم يزد الشيخ على أن قال: "قم يا عبد الله بن رشيد، وأخبره يأتينا عندما نجلس للقضاء بعد الدرس".
4 - الجلد، والتحمل، والطاقة العجيبة حتى مع كبر سنه.
5 - الأدب المتناهي، والذوق المرهف.
6 - الكرم والسخاء الذي لا يدانيه فيه أحد في زمانه فيما أعلم، وذلك في شتى أنواع الكرم والسخاء، سواء بالمال أو بالوقت، أو الراحة، أو العلم، أو الإحسان، أو الشفاعات، أو العفو، أو الخُلُق، ونحو ذلك.
احتاج أحد الطلاب من الجامعة إلى مساعدة (مائتي ريال) فكأن كاتب الشيخ قرأها خطأ ألفين ريال، فأمر الشيخ بصرف المبلغ له، وعند مراجعة الأوراق اتضح أن الطالب طلب مائتي ريال، فأراد الكاتب تصحيح الأمر، فنهاه الشيخ قائلا: لعله كان محتاجا للألفين واستحيا، فرزقه الله، أعطه الألفين.
7 - السكينة العجيبة التي تغشاه، وتغشى مجلسه، ومن يخالطه.
8 - الذاكرة القوية التي تزيد مع تقدمه في السن.
9 - الهمة العالية، والعزيمة القوية التي لا تستصعب شيئاً، ولا يهولها أمر من الأمور.
زاره رجل من أهل موريتانيا فاستضافه الشيخ أياما، وقال الرجل: "عجبت من دأب الشيخ وجلده على حوائج الناس والكتابة لهم وضيافتهم والجلوس في حلق العلم وتعليم الطلاب ومذاكرة المسائل"، فقلت للشيخ: "سألتك بالله يا شيخ وأنت قاربت التسعين كيف تصبر على مالا يصبر عليه أبناء الثلاثين والأربعين". فأعرض عني ثم سألته ثانية وثالثة حتى شددت عليه في السؤال فرد علي قائلا:
"إن كانت الروح تعمل فالجوارح لا تكل".
10 - العدل في الأحكام سواء مع المخالفين، أو الموافقين.
11 - الثبات على المبدأ، وعلى الحق.
12 - سعة الأفق.
13 - بُعْد النظر.
14 - التجدد؛ فهو دائماً يتجدد، ويواكب الأحداث، ويحسن التعامل مع المتغيرات.
15 - الثقة العظيمة بالله جل وعلا.
16 - الزهد بالدنيا، سواء بالمال أو الجاه، أو المنصب، أو الثناء، أو غير ذلك.. لم تشغله الدنيا بزخرفها.. ولا ألهته عن تلك المكارم بزهرتها.. وأنى للدنيا أن تملك قلباَ ملكه الزهد. والورع وحب الصالحات؟!
في سنة (1402هـ) قررت هيئة جائزة الملك فيصل العالمية منح الجائزة للإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهي جائزة عظيمة، ليست بالسهلة! ولعل النفوس تحدثت يومها: أين سيضع هذا الإمام هذه الجائزة ؟! ولكن الجواب كان سريعاً! فها هو الإمام يقف شامخاً في الحقل الذي أقيم بهذه المناسبة، والكل يومها متشوق إلى معرفة مصير تلك الجائزة! وإذا بالإمام الزاهد يعلنها بأريحية بازية، وزهادة عمرية: "..فإني أبذلها أيضاً، وأهديها أيضاً إلى دار الحديث الخيرية الأهلية المكية؛ معونة لها على ما تقوم به للخدمة الإسلامية، فإن دار الحديث الخيرية الأهلية بمكة تخدم المسلمين أيضاً، وتخدم أبناءهم في سائر أرجاء المعمورة من أفريقيا وآسيا وغيرهما..".
يقول الشيخ ناصر الزهراني: "أتيته في يومٍ من الأيام فأخذت أتوسل إليه، وأترجاه وأحاول معه أن يوافق لي على السعي في شراء هذا المنزل الذي يسكنه بمكة، فهو ليس له؛ بل هو مستأجر!.
فحاولت إقناعه، وقلت له: لا أريد منك إلا الموافقة، والباقي عليَ".
فقال لي: "اصرف النظر عن هذا الأمر، أي شيء تحتاجه مني في مساعدة، أو شفاعة للمسمين فلا تتردد، أما لي أنا فلا!!".
17 - الحرص على تطبيق السنة بحذافيرها، فلا يكاد يعلم سنة ثابتة إلا عمل بها.
18 - بشاشة الوجه، وطلاقة المحيا.
19 - الصبر بأنواعه المتعددة من صبر على الناس، وصبر على المرض، وصبر على تحمل الأعباء إلى غير ذلك.
20 - المراعاة التامة لأدب الحديث، والمجلس، ونحوها من الآداب.
21 - الوفاء المنقطع النظير لمشايخه، وأصدقائه، ومعارفه.
22 - صلة الأرحام.
23 - القيام بحقوق الجيران.
24 - عفة اللسان.
25 - لم يسمع عنه أنه مدح نفسه، أو انتقص أحداً، أو عاب طعاماً، أو استكثر شيئاً قدمه للناس، أو نهر خادماً.
26 - كان لا يقبل الخبر إلا من ثقة.
27 - يحسن الظن بالناس.
28 - قليل الكلام، كثير الصمت.
29 - كثير الذكر والدعاء.
30 - لا يرفع صوته بالضحك.
31 - كثير البكاء إذا سمع القرآن، أو قرئ عليه سيرة لأحد العلماء، أو شيء يتعلق بتعظيم القرآن أو السنة.
32 - يقبل الهدية، ويكافئ عليها.
33 - يحب المساكين، ويحنو عليهم، ويتلذذ بالأكل معهم.
ها هي رسالة تأتي ذات مرة من الفلبين إلى مكتب سند المحتاجين، والرسالة من امرأة تقول فيها: "إن زوجي مسلم أخذوه النصارى، وألقوه في بئر، وأصبحت أرملة، وأطفالي يتامى، وليس لي أحد بعد الله عز وجل، فقلت: لمن أكتب له في هذه الأرض لكي يساعدني؟ قال الناس لي: لا يوجد إلا الشيخ عبد العزيز بن باز! فآمل أن تساعدني".
فكتب الشيخ إلى الجهات المسؤولة لمساعدتها؛ فجاءت الإجابة: "إنه لا يوجد بند لمساعدة امرأة ألقي زوجها في بئر، فالبنود المالية محددة.
ولكن السماحة، والجود، وإغاثة الملهوف كانت فوق ذلك؛ فأتت الإجابة من ذاك الإمام إلى أمين الصندوق: "اخصم من راتبي عشرة آلاف ريال وأرسله إلى هذه المرأة!". وهنالك وفي أدغال أفريقيا؛ ذهب وفد سعودي في إحدى المهمات، فجاءت إلى الوفد امرأة عجوز، وقالت لأحدهم: "أنتم من السعودية؟"
فقال: "نعم!"
فقالت: "أبلغ سلامي إلى الشيخ ابن باز!"
فقال: "كيف عرفتيه؟!"
فقالت: "لقد كنت أنا وزوجي عائلة نصرانية وأسلمنا، ولكن طاردنا أقرباؤنا وضاقت بنا الدنيا، فسألت عن مساعد بعد الله، فقالوا: مالك بعد الله إلا ابن باز! فكتبت إليه وكنت لا أتوقع وصول الرسالة، ولكن فجأة إذا بالسفارة السعودية تتصل بي وتطلبني بمراجعتها، وإذا بسماحته قد أرسل لها بمساعدة عشرة آلاف ريال، فهذا الرجل كان له فضل بعد الله في ذلك، بعد أن عرف أننا في بلاء ونحن مسلمون!".
وذات مرة دخل أحد الناس على هذا الإمام فقال له: "يا سماحة الشيخ، بعض الفضلاء يرون أنك إذا جلست مع الناس وقت الغداء والعشاء وغيرها؛ أنه يجلس معك العاملون والموظفون والعرب والعجم والفقراء ودهماء الناس، وأن في هذا حرجٌ من بعض كبار الضيوف والزوار، فنحن لا نقترح عليك ترك إطعام الناس، وفتح المنزل لهم، ولكن ليكن لهم مجلس خاص، ومكان خاص لأكلهم وشربهم، وأنت وخواص ضيوفك يوضع طعامكم في مكان خاص!" فتغير وجه الشيخ من هذه المقولة، فقال: "مسكين! مسكين! صاحب هذا الرأي، هذا لم يتلذذ بالجلوس مع المساكين والأكل مع الفقراء! أنا سأستمر على هذا، وليس عندي خصوصيات، والذي يستطيع أن يجلس معي أنا وهؤلاء الفقراء والمساكين يجلس، والذي لا يعجبه وتأبى نفسه فليس مجبوراً على ذلك !".
34 - يحافظ على الوقت أشد المحافظة.
35 - يشجع على الخير، ويحض عليه.
36 - لا يحسد أحداً على نعمة ساقها الله إليه.
37 - لا يحقد على أحد بل يقابل الإساءة بالإحسان.
38 - معتدل في مأكله ومشربه.
39 - دقيق في المواعيد.
40 - كان متفائلاً، ومحباً للفأل.
هذه نبذة عن بعض أخلاقه (موقع الشيخ ابن باز الرسمي على الإنترنت بتصرف وإضافات(.
شمائله:
كان الشيخ من العبّاد، يحافظ على السنن، ويؤدي من النوافل ما شاء الله له أن يؤدي، صلاة، وقياماً، وصياماً. كان يقوم الليل إلى قريب الفجر، يصلّي، ويستغفر، ويدعو، ويبكي، فقد كان سخي الدمعة، ويقرأ أوراده، ويبقى لسانه رطباً بذكر الله، وكذلك عيناه المطفأتان. وكان آية في حسن العبادة والتهجد، لا تفتر عزيمته، ولا تنثني همته، وأعجب لرجلٍ لم يدع التهجد في سفر ولا في حضر.
وها هي السيارة تنطلق ذات مرة بهذا الإمام من الرياض إلى مكة أو العكس، ولما أشارت عقارب الساعة إلى الثانية عشر من منتصف الليل، قال الشيخ: "ما رأيكم لو نِمنَا هنا ثم في الصباح نكمل السفر؟" فوافق الجميع، إذ إن التعب قد بلغ منهم غايته، والكل يريد أن يستريح، وما أحلى النوم بعد التعب! فارتمى الجميع، ليستسلموا لنومٍ هادئ، ولكن هنالك رجل التمس راحةً غير راحة النوم، ولذةً غير لذة النوم!. إنه الإمام ابن باز!. فها هو يطلب ماءً، ويتوضأ، ثم يقوم متهجداً في صلاة يرجو ذخرها غداً، ويصلي الإمام العابد ما شاء الله له من الليل، ثم ينام بعدها.. وكان العجب من نصيب أولئك النفر عندما قاموا إلى صلاة الفجر، ليجدوا ذلك الإمام الذي تركوه قائماً يصلي؛ فإذا بهم يرونه أيضاً مرة أخرى قائماً يصلي!! كان آخرهم نوماً وأولهم قياماً!!.
وكان عالماً يعمل بما علم، يخاف الله في سرّه وعلنه، فلا يترخّص لنفسه، بل يأخذها بالعزائم. وكان الشيخ يكثر من الذكر والدعاء والبكاء لدى سماعه القرآن، أو سيرة أحد الصالحين، ويطيل البكاء وهو يروي أو يسمع حديث الخليفة الصديق: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات". وحديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك، وحديث أبي عبيدة والتمرات والحوت، وسواها من الحوادث في سيرة السلف الصالح.
وكان الشيخ تقياً، ورعاً، مسارعاً إلى فعل الخيرات، مواظباً على الطاعات منذ الصغر، وكان المسجد مكانه المحبّب إليه منذ أن بلغ الثالثة عشرة، وكان مخلصاً دينه لله وحده، لا يرجو حمداً وشكراً من أحد لعمل عمله، أو خدمة أداها، فلم يكن الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، ولا بما فعلوا، وكان حليماً، جلداً على العمل، يتحمل من الأعباء ما تضوى له وتنوء به أجساد الشباب، همته العالية تتجاوز ضعف الشيخوخة والشيبة، ويتمتع بذوق رفيع، ما أحوج العلماء والدعاة، والمشايخ إليه حتى لا يكونوا منفّرين، وبإحساس مرهف، وكان جواداً من الأجواد، يجود بماله، ووقت راحته، من أجل قضاء حوائج طلبة العلم الذين يفدون إليه من كل فج عميق، يجيب على أسئلتهم، ويحل لهم إشكالاتهم العلمية، ومن أجل قضاء حوائج الفقراء والمساكين، فيكتب شفاعة لهذا، ويعفو عن ذاك، ويقدم المال إلى المحتاج إليه، ومن عنايته بالفقراء، أنه كان يخصص لبعضهم رواتب ومساعدات من ماله الخاص حتى بلغ به الأمر أن يخصص مبلغ ألف ريال يرسلها إلى امرأة فقيرة في مجاهل إفريقية، فإذا لم يجد المال، استلف راتباً أو أكثر من رواتبه من أجل ذلك، أو ردهم رداً جميلاً.
ومن تواضعه أنه كان يعنى بالعوام الذين يقبلون عليه، ولا يكادون يفارقونه حتى في طعامه الذي يشاركونه فيه، بل في سائر أحواله، وهو صابر عليهم، ولكلٍّ مشكلته، فهذا يستفتي، وذاك يستجدي، وكان يغضب من أصحابه إذا زجروهم، ويذكرهم بالحديث العظيم «»(ونص الحديث «»صحيح/الترمذي بتحقيق الألباني برقم 1702)، حتى وهو على فراش الموت، كتب شفاعة لواحد منهم.
وكان مجلسه مجلس أنس وعلم وذكر، وهو ملتقى الخواص من طلبة العلم، يأتونه لحل ما يشكل عليهم من المعضلات العلمية، فيجيبهم، ويستفيدون من إجاباته، كما يفيدون من سكينته ووقاره، وكثرة صمته، وقلة كلامه ومراعاته لأدب الحديث، وأدب المجلس، فلا يرفع صوتاً، ولا يقهقه، ومن مكارم الأخلاق التي حباه الله إياها، كالعدل مع مخالفيه في الرأي، وثباته على المبدأ، واستقامته على الحق، وسعة أفقه، وبعد نظره، وثقته العظيمة بالله تعالى، وزهده بالثناء، وتقشفه، وحرصه على السنن، وبشاشة وجهه، وطلاقة محياه، وعفة يده ولسانه، فلم يسمعوه ينتقص أحداً، ولا يعيب طعاماً، ولا ينهر خادماً، ولا يمدح نفسه، ولا يحب أن يمدحه أحد بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟
يحسن الظنّ بالناس، ويشتدّ في وفائه لمشايخه وأصدقائه وذوي رحمه، يتفقد أحوالهم، ويقوم بحقوقهم، ويعينهم على متاعب الحياة، لا يعرف الحسد والحقد، ويقابل الإساءة بالإحسان، وغيرته على الدين شديدة، يثور لانتهاك حرمات الله، ولوقوع الظلم على المسلمين ويحب أهل العلم، ويسأل عن أحوالهم، ويكاتبهم، ويتناصح معهم. وهو دقيق في مواعيده، وهذه الخصلة قلّ من يحافظ عليها من المشايخ والعلماء، وهذا مما يؤسف له جداً، وهو متفائل دائماً، حتى عندما كانت دموعه تخضل لحيته لسماع خبر مفجع نزل بالمسلمين في أقصى الأرض.
وكان يؤمن بالشورى، وينفذها مع العاملين معه، وليست مجرد ادعاء، كما هي عند كثير من العلماء والزعماء والقادة. وينكر البدع، ويعدّها عدواناً على حقائق الوحي، وتغييراً لدين الله، وفيها إبعاد للمسلمين عن حقيقة الإسلام العظيم. وللشيخ ذاكرة قوية أعانته كثيراً في حياته العلمية والعملية. ومن شمائل الشيخ: دفاعه عن الدعاة حيث كانوا، ولو كان على خلاف معهم في الرأي.
حتى الصوفية، كان منصفاً معهم، وكان يقول عنهم: "هم مسلمون فيهم خير وفيهم شر، ونحن نأخذ ما عندهم من خير ونشجعهم على فعله، وننكر ما عندهم من شر ونحذرهم منه". وكان الشيخ جريئاً في انتقاد الظلم والانحراف، ومواقفه مشهودة في استنكاره إعدام سيد قطب، رحمه الله تعالى، وفي إنكاره على القذافي تطاوله على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك موقفه الجريء من الظالم الهالك (سياد بري) الذي أحرق عشرة علماء لأنهم استنكروا تطاوله وتطاول زبانيته الشيوعيين في الصومال على شريعة الله.
ولا ينسى العلماء، والطلاب خطبته الجريئة أمام الملك فيصل رحمه الله تعالى عندما زار الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ومعه مجموعة من الأمراء، تحدث الشيخ عن الإعلام السعودي، ودعا إلى ضرورة صيانته من المزالق التي زلق فيها الآخرون الذين لا يستشعرون أي مسؤولية نحو الإسلام، وقد سلك في خطبته هذه مسلكاً حكيماً، عندما جمع بين اللطف والقوة في صراحته المعهودة.
معالم تربوية من سيرة الإمام عبد العزيز ابن باز:
- نشرت مجلة الدعوة فتوى لسماحة الشيخ، لكن وقع فيها خطأ، فقد صُدِّر الجواب بِـ: أن في المذهب كذا وكذا ( وهذه ليست من ألفاظ الشيخ ). فدعى الشيخ كاتب الفتوى، وقال له: "اقرأ علي!"
فقرأ عليه وإذا فيها: "في المذهب كذا وكذا"، قال الشيخ: "نحن لا نقول جاء في المذهب كذا وكذا!! نحن نقول قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم".
- سأله أحد طلبة العلم: "يا شيخ أنتم دائماً تكثرون القراءة في كتب الحديث وتعتـنون بالحديث"، فقال رحمه الله: "وهل العلم إلا الحديث! هل العلم إلا الحديث!! يا فلان التقليد ليس بعلم! التقليد ليس بعلم!!"
- قرر الشيخ رحمه الله في الدرس نكاح الكتابيات بشرطه، فقال بعض الطلبة الذين في الدرس: "يا شيخ بعض الصحابة كان ينهى عن ذلك! فالتـفت الشيخ إليه وقد احمرّ وجهه وقال: "هل قول الصحابي يضاد الكتاب والسنة؟!! ليس لأحد قول بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم".
- ألقى الشيخ محاضرة، فقيل له في المحاضرة: "إن الشيخ فلان يقول عنك إنك مبتدع"، فقال الشيخ رحمه الله: "هو مجتهد هو مجتهد"، السؤال الذي بعده. ما زاد على ذلك رحمه الله.
- جاء رجل واستفتى الشيخ رحمه الله أثناء الدرس، وكان الشيخ يفتي الذين خارج الدرس حتى أثناء الدرس؛ يقول: "هم أصحاب حاجات"، يعني لا علاقة لهم بالدرس، فهذا الرجل استفتى الشيخ، فقال الشيخ: "لا أدري، لا أعرف". فقال الرجل: "أنت تقول لا أعرف". قال الشيخ: "أّذّن في الآفاق أن ابن باز لا يعرف".
- لما قرأ عليه الشيخ ابن قاسم في زاد المعاد قصة عائشة رضي الله عنها في الإفك الذي حصل لها، بكى الشيخ وانقطع الدرس بالبكاء.
- عند قول أبي بكر في حادثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات"، بكى الشيخ بكاء شديداً.
- لما زار الملك فيصل رحمه الله المدينة وكان الشيخ رئيس الجامعة الإسلامية زار الشيخ في بيته فقال للشيخ: "إنا سنعمر قصراً لكم". فالشيخ تركه ولم يرد؛ وعمر القصر، فلما أرادوا أن يسجلوا صكاً باسم الشيخ، قال الشيخ: "لا، سجلوه باسم رئيس الجامعة الإسلامية، حتى إذا جاء رئيس مكاني يكون في هذا البيت".
- الشيخ رحمه الله عنده ذاكرة قوية، فإذا سلمت عليه وقد سلمت عليه قبل سنوات عرفك، حدثني أحدهم، يقول: "سلمت عليه بعد خمسة عشر سنة، فأخبرني باسمي!!"، لكن اعجب أنه يحفظ الجزء والصفحة!! ويصحح الكتب من حفظه رحمه الله، بل وأعجب من ذلك في مقام العلم والعلماء .الإمام الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى هو شيخ الشيخ ابن باز، كان إماماً لا يضاهى في حفظه، وكان الشيخ عبد العزيز يحضر عنده في المحاضرات، ويتعجب لسرعته في إلقائه، فكان الشيخ في أحد الأشرطة يقول: "ما شاء الله .. ما شاء الله. الشيخ الشنقيطي كان يبحث من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الضحى عن حديث ذكر ابن كثير في تفسيره أنه في سنن أبي داود، ويبحث في سنن أبي داود وما وجده"، يقول الشيخ الشنقيطي: "أنا لا أتهم ابن كثير، لكني لم أجده"، قال: "وأنا أبحث فإذا الباب يطرق، فقمت وفتحت الباب، فإذا الشيخ عبد العزيز جاء يسلم، وهو عند الباب لم يدخل قال: يا شيخ عبد العزيز إن ابن كثير ذكر أن حديث كذا في سنن أبي داود، وأنا من الفجر أبحث ولم أجده, أين هو؟ قال الشيخ ابن باز: هو موجود .. هو موجود، في كتاب كذا في صفحة كذا، فقال: الآن تفضل يا شيخ".
فقوة حافظة الشيخ عظيمة، والسبب في ذلك يرجع إلى توفيق الله أولاً، ثم أن الشيخ لا ينفك عن الأذكار، لا يزال لسانه رطب من ذكر الله، دائم الأذكار، وهذا يلحظه من شاهد الشيخ ولو للحظة.
- الشيخ رحمه الله له نظرة حول القضاء، فهو لا يرى أن القاضي يكتفي بما يأتيه في المحكمة فقط، ويفصل المنازعات فقط، فهو يستهجن أن يكتفي القاضي بذلك، قال رحمه الله تعالى: "أما اقتصار القضاء على بعير وحمار وبقرة وشاة ونحوها، فلا خير فيه، بل من أهم أعمال القاضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله على بصيرة، والإصلاح، وقضاء مصالح المسلمين، والشفاعة لهم". ولما كان الشيخ قاضي في الدلم، كان له كرسي من طين في السوق، يجلس فيه لقضاء حوائج الناس.
- يحدث الشيخ عن موقف تربوي عجيب حصل له في شبابه في أول طلبه للعلم رحمه الله تعالى، وهذا له ميزة أنه من كلام الشيخ نفسه، يقول رحمه الله تعالى: "قصة حصلت لي لا أزال متأثراً بها إلى اليوم، حدثت أيام شبابي، فقد كنت من المحافظين على الصف الأول في الصلاة، وفي يوم من الأيام تأخرت عن الحضور مبكراً لسبب القراءة في بعض الكتب لبعض المسائل الهامة التي شغلتني عن الصلاة، فلم أدرك الصف الأول وفاتني بعض الشيء من الصلاة، وحينما سلم الإمام، وهو قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وكان أحد مشائخي رحمه الله، حينما رآني أصلي في طرف الصف، وقد فاتـني شيء من الصلاة، تأثر لذلك كثيراً، فحمد الله وأثنى عليه ثم بدأ يتكلم وقال: بعض الناس يجلس في سواليف ومشاغل حتى تفوته الصلاة، يقول سماحته فعرفت أنه يعنيني بذلك الكلام، فلم أتأخر بعدها أبداً، وذلك الموقف الذي حصل لي لن أنساه أبداً".
- كان رحمه الله تعالى يستدين من راتبه للشهر القادم حتى يساعد المحتاجين، وما ذكر له أمر إلا وسعى إلى المساعدة فيه، حتى أن امرأة أرسلت إليه وقالت: "أنها امرأة معاقة، ولا أحد يرغب فيها في الزواج، فلو أنك ساعدتها في شراء بيت، وإذا كانت امرأة عندها بيت، قد يرغب فيها لأجل البيت". فقال الشيخ: "لا بأس"، فأمر لها، وبعث لها بأكثر من أربعمائة ألف ريال يشترى لها بيت حتى يرغب فيها، لعلها تـتـزوج.
- حدّث مرة سائقه شاهين عبد الرحمن، وطباخه نصير أحمد خليفه: أن الشيخ رحمه الله تعالى لما ذهب إلى مسكنه في مكة، دخل البيت وقت الغداء، فلم يسمع أصوات الناس، الذين يأتون إليه ويتغدون عنده ويتعشون! فسأل أحد مرافقيه: "ما بال الناس اليوم ما أتوا!! ما أسمع أصوات!!" فقال له: "إن الحرس قد منعوهم!" فغضب رحمه الله وخرج إلى الحرس وزجرهم، وأمر بإدخال الناس كلهم إلى الغداء.
- في عام 1417هـ، حين سافر رحمه الله إلى الطائف، ودخل في مسكنه، فلم يفد إليه الناس! الأبواب مفتوحة والناس لم يفدوا إليه!! فالشيخ تعب من هذا الموقف وضاق صدره! وسأل لماذا الناس لا يأتون ؟ فقالوا له: "إن الناس ما علموا أنك أتيت، والذين علموا أرادوا أن ترتاح يوم أو يومين أو ثلاثة، ثم يأتون"، قال الشيخ: "لا، لا، اذهبوا، وأمر من عنده أن يخرجوا إلى السوق وإلى الجيران ويخبروهم بأن الشيخ موجود، وأنه سوف يغديكم هذا اليوم!!" يدعو الناس كلهم!.
- في مجمع الفقه الإسلامي وكان يضم العديد من العلماء على شتى المذاهب الفقهية المعاصرة: فهذا مالكي وهذا شافعي وهذا حنفي وهذا حنبلي، فقام أحد علماء المالكية وتهجم على الشيخ، وتكلم عليه وقال أنتم يا الوهابية تقولون كذا وكذا، فقال الشيخ له: "سبح، سبح"، لكن الشيخ الآخر أصبح يزيد كلما قال له الشيخ: سبح سبح يزيد، فالشيخ رحمه الله ما تكلم ولا بكلمة، ولما انتهى قال الشيخ رحمه الله لأحد مرافقيه أحضر ثلاثين نسخة من الكتاب الفلاني غداً، ووزعها على أصحاب الفضيلة المشايخ، فمن الغد أتوا بثلاثين نسخة ووزعوها على المشائخ الموجودين في مجمع الفقه الإسلامي، ثم قال الشيخ رحمه الله: "هذا الكتاب الذي معكم مؤلفه مالكي، فإن وجدتم فيه ما يخالف مذهبنا، أو يخالف مذهب مالك، فأخبرونا ونحن نرجع إلى الحق إن شاء الله، هذا الذي في الكتاب هو من أئمتكم وهو يوافق ما نحن عليه والذي عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب". فانظر إلى علمه رحمه الله، وحسن تأدبه مع العلماء، ما قال أنت جاهل أو غير ذلك.
- الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وهو من تعرفون في الدعوة إلى الله، وقد أثير حوله ما أثير وكُتِب ما كتب، ونحن لا نقول أنه معصوم ولكن حسبه أنه من الدعاة. الشيخ رحمه الله تعالى، كُلِّمَ عن الغزالي كثيراً، لكن هل الشيخ شُحن؟، لا. جاء الغزالي إلى الشيخ عبد العزيز رحمهما الله، ودخل عليه، فأراد بعض الحضور أن يثير بعض المسائل المنتـقدة على الغزالي، لكن الشيخ صرف النظر عنها كلها، وأصبح يتحدث في واقع المسلمين وفضل الدعوة إلى الله عز وجل.
فلما قام الشيخ الغزالي، قام معه الشيخ يمشي إلى السيارة ويودعه، فقال الغزالي: أشهد بالله إن كان هناك أحد من السلف فهو هذا الرجل! ثم قال يا شيخ عبد العزيز: إذا رأيتم شيئا في كتاباتي يخالف الدليل، بلغوني والله أعدله.
- جاء إليه بعض طلبة العلم وقالوا: "يا شيخ إن الشيخ فلان عنده مخالفات في كذا وكذا"، وأثبتوا المخالفات فعلاً، فهَمَّ الشيخ أن يكتب له نصيحة، وطلب الكاتب وكتب النصيحة كاملة، فلما جاء في آخر النصيحة، قال له أحد الحضور: "يا شيخ وإنه يقول فيك كذا وكذا، أنت يا شيخ"، فأخذ الشيخ الورقة ومزقها، قال: "لا، لا يظن أنني أنتصر لنفسي!!"(معالم تربوية من سيرة الإمام عبد العزيز ابن باز ..... للشيخ محمد الدحيم).
بناء الأجيال:
كان الشيخ يرى أن الأجيال المعاصرة تتعرض لأخطار عظيمة لم ينهض العلماء لتلافيها، مثل مناهج الدراسة التي لا ترتكز على قواعد الإسلام، ولهذا كان لابد من إصلاح هذه المناهج بتحويلها إلى منطلقات إسلامية تتولى بناء شخصية الطالب، وتحصينه من الغزو الفكري وما يعقبه من ضياع عقدي وثقافي، وبالتصور السديد لمهمته في هذه الحياة، والتي من أجلها خُلق. وعلى تحقيقها يجب أن يقف حياته، ألا وهي إعلان حقائق الإسلام، فهي النور الذي لا سلام ولا سعادة إلا في تحققها في المجتمع.
ويؤكد هنا على المعلم الصالح الذي يجب اختباره بعناية. ويرى أن مسؤولية العلماء تجاه الأجيال الجديدة مسؤولية كبيرة، تفرض عليهم أن يبذلوا كل ما لديهم من طاقات لهذه الغاية، ويؤكد الشيخ على الجانب الإعلامي من وظيفة العلماء الذين يجب أن يكونوا على علم بشتى التيارات الحديثة، وعلى إلمام باللغات التي تحمل هذه التيارات، على أن يسبق ذلك، التضلّع من علوم القرآن، والتزود بمختلف الأدلة العقلية والنقلية، والقرآن العظيم أنجع وسائل الدعوة إطلاقاً، لأنه يخاطب الإنسان كله، عقله وعواطفه ونفسه، وفيه الأدلة المقنعة للفطرة، بأن النظام الإسلامي هو وحده الموصل إلى السعادة في الدارين. ويرى الشيخ تحصين الأجيال من أخطار البدع والخرافات التي لا تقل أثراً عن أخطر التيارات الهدامة، لأنها تحجب حقيقة الإسلام، وتشوّه ملامحه، فتنفر منه النفوس التي تجهله.
مع المسلمين:
كان الشيخ مهتماً بأمور المسلمين في سائر أنحاء الأرض، محباً لهم، متابعاً لأخبارهم، ويمدّهم بالمال، وينصحهم، ويحاول حل مشكلاتهم، وكان يصطفي المتفوقين والأذكياء من المدرسين والخريجين، وينتدبهم لخدمة الدعوة في بلادهم وغير بلادهم، وخاصة في الهند، وباكستان، والبلدان الإفريقية، ويمدّهم بالكتب التي يراها ضرورية لهم، وبالمصاحف.
وعندما كان رئيساً للجامعة الإسلامية، كان يجمع الطلاب في مجموعات، ويطلب من كل مجموعة أن تتحدث عما يجري في بلادها، ثم يتساءل عن العمل لحل مشكلاتهم، والتخفيف عنهم.
وكان يستقدم كبار الدعاة في العالم الإسلامي، ليدرّسوا في الجامعة الإسلامية، ويختار منهم أعضاء في رابطة العالم الإسلامي، وفي مجلس الأمناء.
وكان يتألم ويبكي لما يجري في كوسفو، وفي الفلبين، وكشمير، فقد كان يواكب الأحداث، ويتعامل مع المستجدات بجرأة يفتقر إليها كثير من العلماء والعاملين في الحقل العام. ويشهد كل من عرفه، أنه لم يقصّر تجاه أحبائه المسلمين الذين أحبوه، وكانوا يسألون عنه، لما عرفوا من علمه، وإخلاصه، وحبه الخير لهم، والجهاد من أجل نصرتهم. رحم الله الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقد كان فذاً بين الدعاة والعلماء العاملين.
كيف كان يقضي وقته:
يبدأ يوم هذا الإمام قبل الفجر. حيث يستيقظ في الثلث الأخير من الليل، ويأخذ حظه من الصلاة والذكر، ثم يصلي الفجر وبعد الصلاة يأتي بأوراد وأذكار الصباح، ولا يجيب أحداً حتى يفرغ منها، ثم يبدأ الدرس، حيث يقرأ عليه عدة كتب، ويذيلها رحمه الله بشروحاته وفوائده، حتى قبيل الساعة السابعة صباحاً، وهذا في أيام الدروس، وأما إذا كان في المنزل، فيجلس إلى الاستفتاءات الواردة إلى مكتب البيت من مختلف أرجاء المعمورة، ثم ينظر في طلبات أصحاب الحاجات، حتى موعد دوامه الرسمي في الساعة التاسعة صباحاً.
وإذا وصل إلى مقر الرئاسة، وجد المراجعين قد أخذوا أمكنتهم، فتعرض عليه المعاملات قراءة، ثم يأتي توجيهه في الرد على المعاملة فوراً، وخلال عرض المعاملات يستقبل رحمه الله الاتصالات الهاتفية، والتي غالباً تكون في الرد على فتوى، أو استفسار في أمور الدين، وبين الحين والآخر يدخل عليه أناس يريدون الدخول في الإسلام على يديه، وتعليمهم أمور دينهم، وإذا كانت هنالك اجتماعات للَّجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حرص على رئاستها، فإذا كانت صباحاً؛ استقبل المراجعين ظهراً، وإذا كانت ظهراً استقبل المراجعين صباحاً.
وإذا أذن المؤذن للظهر ذهب للصلاة في المسجد القريب من المكتب، وربما ألقى بعد الصلاة كلمةً من كلمات وعظه الصادق، ثم يعود إلى المكتب، ويقضي بقية الدوام في المعاملات الرسمية، والنظر في فتاوى الطلاق، وطلب الشفاعة منه من المحتاجين، واستقبال الوفود من الدول الإسلامية وغير ذلك، حتى الساعة الثانية والربع ظهراً، ويحرص رحمة الله على دعوة كل من يحضره إلى تناول الغداء معه في بيته.
وفي منزله العامر يجلس ضيوفه الذين يلقون كل الحفاوة والكرم من تلك الطلعة البهية، وبعد الطعام يدعو بالقهوة والطيب، ويتحدث إلى ضيوفه وجلسائه، حتى وقت أذان العصر، فيصلي في المسجد القريب من منزله، ثم يقرأ عليه شيئاً من الأحاديث؛ ليعلق عليها تعليقات يسيرة، مجلياً لفقهها وفوائدها، ثم يذهب إلى منزله لأخذ قسط من الراحة، حتى وقت صلاة المغرب، فإن كان هنالك درس أو محاضرة أو غير ذلك؛ توجه إلى مجلسه العام؛ لعامة الناس وخاصتهم، المقبلين للسلام عليه، أو استفتائه في أمور دينهم ودنياهم، وهو مجلس تملأه بهجة هذا الإمام، وصدق حبه ووفائه للمسلمين. ويستمر المجلس حتى وقت صلاة العشاء، فيتأهب رحمه الله ومن معه للصلاة، وفي المسجد وبين الأذان والإقامة يقرأ عليه من بلوغ المرام، فيشرحه شرحاً دقيقاً، وبعد الصلاة يرجع إلى منزله للنظر في بعض المعاملات الخاصة، ولقاء بعض المهتمين بأمور الدعوة، ثم يتناول مع ضيوفه طعام العشاء، ثم يدخل مكتبته العامرة؛ فلا يزال بين قراءةٍ وإملاءٍ؛ حتى وقتٍ متأخر من الليل!!.
قال الشيخ سلمان العودة: لقد عُرف عن الشيخ ابن باز رحمه الله خدمته للإسلام والمسلمين ما يعجز عنه الأشداء حتى قيل: "لو أن رجلا من أهل الرياض انقطعت عنه الكهرباء للجأ للشيخ ابن باز في حلها".
وقد علم الناس أن الشيخ ابن باز لا يكفيه راتبه الذي يستلمه من الدولة إلا أياما ثم يتسلف من إخوانه وقد ذكر ذلك العالم الجليل عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أنه كان يتسلف منه حتى يسد دينا أو يعين محتاجا. ولا أنسى هنا أن أذكر أن الرد على فتاوى المستفتين يأخذ من الشيخ الوقت والجهد العظيم وقد شهدت أنا شيئا منه ولو كنت مكان الشيخ وأستغفر الله من هذا لأغلقت السماعة في وجه المتصلين! لكن الشيخ بصبره وحلمه يساعد هذا ويعين هذا، ومن الغرائب أن الشيخ لا يكتفي بالإجابة بل أنه يسعى بحلها تماما كما سأله أحدهم عن دية القتل غير المتعمد فقال له الشيخ: "عتق رقبة" فقال السائل عبر الهاتف: "ما فيه رقبة هذه الأيام"، فقال الشيخ: "بلى يوجد تعال عندي وأنا أشتري لك من... وذكر أحد البلدان التي فيها هذا الأمر".
قال أحد الملازمين لسماحته في سر توفيق الشيخ ونجاحه وبصيرته الثاقبة في كثير من المعاملات والآراء والمواقف:
"ما ظنك برجل يبيت يناجي ربه ويدعو ويرجو ويهتف ويبكي ثم إذا ارتفع النداء بادر إلى المسجد ثم صلى صلاة الفجر في خشوع وخضوع ثم أتى بالأوراد كاملة ثم عاد إلى بيته وأوتي له بالأوراق كلها ثم يبدأ بقراءة المعاملات والنظر في حاجات الناس ثم قراءة بعض مسائل العلم ثم قبل أن يخرج من بيته وهو في كامل طهره ووضوئه متطهرا متطيبا متسوكا يتجه إلى الله تعالى ويدعوه أن يحفظه وأن يعينه وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين. أليس مثل هذا حريا بأن يكون التوفيق حليفه والنصر ربيبه، واجزم لو أن الشيخ رحمه الله علم أنه سيموت في اليوم المحدد والوقت المحدد ما زاد في عمله شيء فكل وقته كان لله وبالله وفي الله ومع الله".
الرحيل:
وفاة الإمام القدوة المجدد شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد الله بن باز صفحة ما أزهاها قد طويت، وعين ما أعذبها قد غارت، لقد كان هذا الإمام قوياً على حادثات الزمان، لا تضعضعه الآلام، ولا تهزه الأوجاع، اجتمع عليه ضعف الكبر، ووخزات الآلام والمرض، وهو ماضٍ في طريقه، أنسته آلام المسلمين آلامه، وأنسته أوجاع المسلمين أوجاعه، ولكن!!
رأيت المرء تأكلهُ الليالي *** كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبغي المنية حين تأتي *** على نفسِ ابن آدم من مزيد
أكثر من ثمانين عاماً؛ ملئت بالأعمال الهائلة لو كلفت بها الجبال الراسيات لتضعضعت لها!! لقد كان هذا الإمام صبوراً لا يشتكي أوجاعه لأحد ولا يبدو عليه ألم المرض وشكواه، وظل رحمه الله إلى آخر يوم في حياته؛ يعلم الخير ويقضي حوائج المسلمين حتى وهو على سرير المستشفى العسكري في (الهدا) في مرضه الأخير!.
وتبدأ معنا رحلة الفراق لهذا الإمام وهو بالطائف إذا أحس بإجهاد المرض، ورفض رحمه الله السفر إلى الخارج للعلاج، وحزن رحمه الله لعدم تمكنه من حج عام (1419هـ)، إذ إن الأطباء نصحوه أن صحته لا تسمح له بذلك، وحزن الكثير لعدم رؤيته بينهم في حج ذلك العام، فلقد كان لوجوده رحمه الله بين المسلمين بهاءً يزاد على بهاء تلك الأيام المباركة؛ التي يتوافد فيها العباد لحج بيت الله الحرام،
ولكن بعد الحج أصر رحمه الله على الذهاب إلى مكة، فمكث فيها عشرة أيام، بدأت معه وعكة المرض، فنقل إلى مستشفى الهدا العسكري بالطائف، ومكث به أياماً ثم خرج ليواصل مشواره الطاهر!
بعد خروجه من المستشفى مساء الثلاثاء، لم يسكن إلى الراحة! بل عقد مجلسه بمنزله يوم الأربعاء، وباشر لقاءه مع المراجعين، وتابع المعاملات والفتاوى، ولم يلاحظ عليه أي تغير في ذاكرته واستيعابه؛ وكانت تلك الجلسة هي الجلسة الأخيرة؛ التي جلس فيها كعادته في مجلسه العامر يوجه بكلمات نصحه الغالية، ويستقبل الفتاوى عبر الهاتف!.
ثم صلى بعدها صلاة العشاء مع أسرته، وتحدث معهم في مجلس أسري يزينه سماحته رحمه الله تعالى، وفي تمام الساعة الثانية عشر ليلاً شعر ببعض الآلام في القلب، وضيق في التنفس، وفي الثالثة صباحاً اشتدت به الوعكة؛ فنقل إلى مستشفى الملك فيصل بالطائف؛ ليفارق بعدها الحياة. وقبل وفاته كان يردد: سبحان الله؛ والحمدلله، والله أكبر، كلمات لطالما ملأ بها ليله ونهاره، ولطالما رطب بها لسانه، لقد كان صباح الخميس صباحاً شديداً على المسلمين!
وفي مكة تم غسله وتكفينه بمنزله في العزيزية، وشارك في غسله مجموعة من المشايخ والمحبين، ورؤي وجهه وقد اكتسى بعلامات من الضياء، والنور الساطع، فكان بياضه شديداً يأخذ بالأبصار، ويبهر الألباب!. وهنالك وفي الحرم الطاهر حيث بيت الله الحرام؛ توافد المسلمون من كل مكان ليشهدوا تشييع جنازة الإمام شيخ الإسلام الذي شهد له بالعلم الموافق والمخالف!. فيا الله! من يوم ما أشد الزحام فيه! امتلأ المسجد الحرام بالخلق! وضاقت ساحاته عن حمل الناس! وقد قدر عدد من شهده بمليونين! الكل يلهج بالدعاء والاستغفار لهذا الإمام.
يوم الجنائز أنت أكبر شاهدٍ *** للمفترى والعالم الرباني
تروي جنازتكم جنازة أحمد *** أعني ابن حنبل أو فتى حرَّانِ
وكانت الصلاة على الجنازة بعد صلاة الجمعة من يوم ثمان وعشرين من شهر الله المحرم من سنة ألف وأربعمائة وعشرين. فرحم الله ابن باز في المرحومين، وأنزله منازل الشهداء والصديقين، وأعلى مقامه بمرافقة النبيين.
قراءة تحليلية لسيرة ومسيرة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (خالد بن عبد الله الغليقة):
أولا:
صحيح أنه أعمى، لكن إذا عرضت مشكلة تجد المبصرين يبحثون عنه. وصحيح أنه كفيف، لكن لا يكف عند النازلة ذو العقول والأحلام في التنقيب عنه. وصحيح أنه لا يرى لكن تجد من يرى لا يطمئن حتى يفتش عنه ويستفتيه، هو الشيخ عبد العزيز بن باز تفسيراً لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحـج: 46].
وسبب التفتيش والبحث والتنقيب ما يملكه رحمه الله من الإدراك، القوي للأمور، والأعمى يشترك مع البصير في قوة الإدراك، وقد يفوقه، كما قيل لبشار بن برد: "إنك تأتي بالمعجب والتشبيه القريب مع أنك أعمى؟!" فقال: "عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل"(بشار بن برد شعره وأخباره [96]).
بل هناك من يرى أن المشاهدة قد تكون في بعض الأحيان سبباً في عدم إتاحة المجال للتدبر والتفكر الهادف إلى تنمية ملكات العقل والإبداع، يقول د. ناجي حلواني: "لا يتيح التليفزيون مجالاً للتخيل، لأنه يشغل حواس المشاهد، ولا يسمح له بأن ُيحَلَّق في خياله، وذلك بعكس الراديو الذي يتيح للإنسان فرصة للتخيل، وكذلك الكتاب الذي يجعل القارئ يسبح في أحداث رواية من الروايات، فالمطلوب هنا الخيال الهادف إلى تنمية ملكات العقل في التخيل والإبداع، وإثارة التطلعات نحو حياة أفضل، والعمل الجاد على تحقيقها"(وسائل الاتصال" ناجي حلواني وآخرون [ص. 314]).
ومَنْ تدبر حياةَ هذا الإمام، واستقرأَ أحوالَه تبين كيف كتب الله له أن يعيشَ محبوباً، وليس له أعداء مع تميزه على غيره ومخالفته لهم، وهذا من النادر جدًّا؛ لأن التميزَ سببٌ في خلق الأعداء وعلة للبغضاء، كما يقول الفيلسوف الفرنسي: "إذا أردتَ أن تخلق الأعداء فتميز على أصدقائك، وإذا أردتَ الأصدقاء فدعهم يتميزون عنك"([مجلة المعرفة] - رمضان 1418هـ).
وكيف استطاع ذلك مع أن المعاصرة سبب للمنافرة، وكيف استطاع أن يبقى متمسكاً بمبادئه لا يتنازل عنها مع شدة النوازل وقوة الأزمات فمن كان عنده قوة إدراك ولديه تدبر قوي كان باستطاعته إدارة الأزمات، ووصف دوائها. فليست العبرة بالبصر والمشاهدة، بل العبرة بالإبصار القلبي، الذي هو محل الإدراك والتفكر العقلي في إدارة الأزمات وتشخيص القضايا وحلّ المعضلات، ووصف الدواء وتحضير العلاج.
والسمع كاف للإبصار القلبي لذلك كان من شروط النبوة، والعلماء ورثة الأنبياء. قال الصفدي رحمه الله: "فضل كثير من العلماء السمعَ على البصر، وقالوا: إنَّ السمع شرط في النبوة بخلاف البصر، ولذلك لم يأت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كان أصم، وجاء فيهم من طرأ عليه العمى، وقالوا: بالسمع تصل نتائج العقول، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل. قلت: ولا شك أن أدلة فضيلة السمع أقوى من أدلة فضيلة البصر"(نكت الهميان [ص 17])ا هـ.
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله بمعنى كلامه: "إنَّ كثيراً ممن ينظرون للقضايا، ويقومون بإدارة الأزمات كالعلماء وفلاسفة السياسة والاقتصاد والاجتماع أناس منغلقون في غرف وقابعون في دور". أي أنهم لم ينتقلوا إلى مسرح الأحداث، ولم يرحلوا إلى مواقع الأزمات، ولم يشاهدوها وجهاً لوجه، بل نقلت إليهم الأخبار، لذلك لم يكن الصحفي الذي يتنقل، ويرحل، ويشاهد هو المشخص للقضايا، والمخطط لإدارة الأزمات والأحداث، بل غيره أفضل منه، وله اعتبار أكبر، ولديه حلُ للقضية والمخرج من الأزمة.
فالإمام عبد العزيز بن باز كفيف لكن فهم القاصي أنه قادر على حل مشكلته، وعرف الداني أنه باستطاعته أن يرفع حرجه، وعرف مَنْ في الشرق والغرب أن لديه إدراكاً لحل الأزمة. يقول د. سعد الشويعر مستشار الشيخ: "المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عندما يختلفون في أمر وتكثر أمامهم الآراء يلجئون بالهاتف من أي أرض لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فيرضون بما يوجههم إليه، والجاليات الإسلامية في أنحاء المعمورة رغم أنه لم يغادر المملكة طوال عمره لا يحل قضاياهم، ولا يريح قلوبهم في أي أمر يريدون، ولا يبذل الجاه لبناء مساجدهم ومراكزهم أو يمدهم بالكتب إلا الشيخ عبد العزيز بن باز"(جريدة الشرق الأوسط 11/ صفر 1420 هـ).
يقول د. عثمان الرواف: "عندما كنتُ رئيساً لقسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود زارنا في القسم أستاذ السياسة في جامعة كونيز في كندا - باكستاني الأصل - فأبدى رغبة في زيارة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله". قال الدكتور عثمان واصفاً الزيارة: "فصوت رنين الهواتف العديدة الموجودة في مكتبه لا ينقطع ما دام الشيخ يعمل، ومساعدوه يردون على المخاطبين، ويطلبون منهم الانتظار حتى ينتهي الشيخ من مخاطبة المتحدث الآخر في المكالمة الأخرى، المسئولون يسألون الشيخ عن قضية مهمة تواجههم، وعامة الناس يستفتونه في أمورهم الصغيرة والكبيرة، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء من المدن والقرى، من داخل المملكة وخارجها يستفتون مفتي المملكة، أو يكتبون إليه لكي يسألوه عن أمور عديدة متنوعة" (مجلة اليمامة "السبت 14/صفر 1420هـ مقال د/الرواف).
فكون الشخص لا يرى بسبب العمى أو بعلة الانغلاق في الدور لا يدل على عدم قدرته على إدارة الأزمات. فما بالك بمن كان إدراكه القوي وقوة تدبره يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]. ويشرح قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
ثانيا:
ينقل الإمام أحمد قوله لأهل البدع والمخالفين: "بيننا وبينكم الجنائز"، في الحقيقة ليس التجمهر وحده حول الجنازة كافياً في صدق ذاك الميت في المجتمع، وليس التزاحم فقط حول تلك الجثة برهاناً على قوة مبادئ وصحة أفكار ذاك المتوفى، بل العبرة في نوعية المزاحمين، وإلى أي طبقة من المجتمع ينتمي المتجمهرون، فقد يتزاحم العامة وحدهم حول جنازة ما، وقد يتجمهر العامة وأمراؤهم فقط وهذه أعلى من التي قبلها، وأعلى منهما أن يتزاحم العامة ويتجمهر الأمراء ويلتف حولها العلماء. ومثال ذلك جنازة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
فالعلماء هم أولى الناس بالدخول في حديث: «» عندما مرت جنازة فأثنى عليها الصحابة رضي الله عنهم خيراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «» ومرت أخرى فأثنى عليها الصحابة شرًّا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «» ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «» (أخرجه البخاري [1367]، ومسلم [949] من حديث أنس).
فالعلماء هم أول من يدخل في معنى هذا الحديث، وعليهم التعويل في الشهادة، ولذلك أشهدهم الله على وحدانيته، فقال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
فإذا التف العلماء حول جنازة ما فهم أصل في صدق ذاك الميت، ودليل على صحة مبادئه، وعلامة على قوة أفكاره، وبرهان على استقامة منهجه، وطريق إلى متانة مسلكه، وإن لم نجعل العلماء الفارق بين الجنائز، وإن لم نصيرهم قاعدة التمييز بين الجثث، يختلط علينا جنازة الثرى بالثريا، وجنازة الصالح بالطالح، ولا نستطيع التمييز بين جنازة التبر من جنازة الترب. وهذا الاختلاط في الجنائز يؤثر في بناء المجتمع بناءً قويًّا، وعدم التمييز يصعب عملية إقامة مجتمع سليم ومعافى من الآفات والأزمات والبلايا.
ومن أمثلة هذا الأمر ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على من كان عليه ديَّن والعلماء ورثة الأنبياء لماذا لم يصل عليه؟! لأن في موته وعليه دينُ دليل على أنه لم يراع حق مجتمعه، وبرهان على عدم حرصه على إيفاء حقوق الآخرين وإن كان هناك تفصيل لكن هذا مؤشر من الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر، وأصل في قضية مهمة وهي أنه يجب على مَنْ تولى أمراً من أمور المجتمع أن يكون صاحب ذمة، ويهتم بإبراء ذمته، وإيفاء حقوق الآخرين.
ولذلك تقول العامة: "فلان ليس له ذمة"، عندما يكرهون توليه أمراً من أمور المجتمع، وعندما يخشون أكل حقوقهم، وممن ورث هذا الأصل من الرسول صلى الله عليه وسلم وحاول توضيح هذا المؤشر في المجتمع سفيان الثوري رحمه الله فقد ترك الصلاة على بعض أهل البدع، بل كان يحضر في بعض الأحيان الجنازة فإذا أرادوا التكبير يخرج من بين الصفوف علانيةً، حتى يتبين للناس عدم استقامة منهج هذا الرجل، وأن مبادئه وأفكاره تهدم المجتمع.
وكما قلت أولاً: إنَّ العامة تقول عن بعض من كرهوا توليه أمراً من أمور المجتمع أو يخشون أن يأكل حقوقهم: "فلان ليس له ذمة"، ومع ذلك قد يتجمهر العامة حول جنازته، وقد تتزاحم حول جثته في الوقت الذي يترك التجمهرَ العلماءُ، ويدع التزاحمَ المشايخُ. فالعبرة في التمييز بين الجنائز هم العلماء، والتعويل في ذلك على المشايخ. ولذلك في الوقت الذي يسافر فيه العلماء إلى الحرم للصلاة على الشيخ عبد العزيز بن باز، ويتوافد المشايخ على المسجد الحرام للصلاة عليه، ويحرص على تشييعه هؤلاء العلماء الذين هم شهداء الله في أرضه أنفسهم يخرجون من الحرم، وينفرون من المسجد الحرام عند إعلان صلاة الغائب على بعض الناس!
لماذا خرجوا؟ لأنهم يعرفون عدم صدق ما تبناه؟! ولماذا نفروا؟ لأنهم يعرفون ضعف أفكاره، وخطرها على المجتمع، ويلاحظون عواقب مسلكه على المسلمين، ويملكون براهين على هشاشة مبادئه، وعندهم أدلة على ضعف منهجه، لابد أن هناك من عاتبهم على نفورهم من المسجد الحرام، وأنبهَّم على ترك الصلاة على الغائب، وعلة إنكار هؤلاء على العلماء أنهم لم يعرفوا، ولم يفهموا ولم يلاحظوا ما لاحظه وما عرفه وما فهمه العلماء، ولهذا لما لاحظوا ما لاحظه العلماء وعرفوا ما عرفه المشايخ، وقرءوا كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (في نبذ القومية العربية)، وجدتهم في مقدمة من نثر، ومن أوائل من نظم في تأبين صاحب هذا الكتاب، ولما فهموا ما فهمه العلماء رأيتهم يكتبون في ذم القومية العربية، ويسعون لكشف الحقائق الصحيحة التي تخالف ظاهر الدعوة لدى زعيمها عبد الناصر، فمن ذلك وهو أمر بسيط يستطيع هذا الزعيم المزعوم أن يتمسك به ظاهراً، ولا يضره تمسكه به، أنه في نفس الوقت الذي يدعو فيه إلى القومية العربية إذا جلس مع خاصته أو جلس مع من لا يتقنون التحدث باللغة الإنجليزية تكلم بها متفاخراً بها ومتعالياً عليهم! فأين العروبة في هذا الأمر الذي هو من السهل التمسك به؟! ولا يفقده التمسك به لذة ولا منصباً ولا جاهاً، بل يزيده منصباً وجاهاً وشهرة.
فما بالك بما هو أكبر ويرتبط بالمنصب والجاه؟
فقد ترجم أحدهم من كتاب أحدهم وهو (ينابيع الذاكرة)، تقول الترجمة: "أن عبد الناصر سأل حاكم دبي الشيخ راشد بن سعيد المكتوم رحمهما الله عند لقائهما في القاهرة سنة 1959م عن الإدارة الحكومية في دبي". ردّ الشيخ راشد قائلاً: "إن كل الخدمات الرئيسة تدار بمعرفة مسئولين بريطانيين"، كان جواب عبد الناصر، كما يرويه عيسى مفاجأة غريبة: "أشكرك لأنك أخبرتني الحقيقة، لديَّ ملفات عن هؤلاء، عليك الاحتفاظ بالإنجليز على الدوام، بوسعك أن تستند على أكتافهم، وأن تستخدمهم لتعليم الأولاد والشبان الانضباط، أنا لست ضد الإنجليز لا تسمع لما يقوله صوت العرب"(صحيفة "الشرق الأوسط" 18/11/1998م).
وبهذا تعلم أنه ليس التجمهر وحده كافياً في صدق الميت المحمول مع مبادئه، وليس التزاحم على الجنازة وحده يبين استقامة مسلكه ومنهجه، وليس الالتفاف حول الجثة وحده قادراً على إقناعنا بصحة أفكاره، بل الذي يقنعنا بصحة أفكاره، ويزيدنا قناعة بصدقه مع مبادئه واستقامة منهجه ومسلكه هو نوعية المتجمهرين، وسمة المتزاحمين، وصفة الملتفين حول تلك الجنازة، وباعتبار النوعية، والسمة.
ثالثا:
الشيخ عبد العزيز بن باز كان تفسيراً لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فمن آيات الله قوله صلى الله عليه وسلم: «»[15] في الحقيقة شهد القاصي وأقر الداني على تواضع الشيخ ابن باز، وفي الحقيقة لا يوصف من لا يملك جاهاً بأنه متواضع، كما أنه لا يوصف شخص لا يملك دنيا بالزهد، ولا يوصف من لم يملك مالاً بأنه بخيل.
فشهادة القاصي وإقرار الداني على تواضع الشيخ لأنه يملك جاهاً عريضاً ظهر من خلاله التواضع ناصعاً، وسمعة واسعة اتضح منها التواضع جليًّا، ومنصباً رفيعاً بأن منه التواضع ساطعاً. وبما أن هذا الداني، وذاك القاصي يعلمان علماً يقيناً أن الشيخ لم ينل الجاه العريض بثراء مادي، ولم يكسب السمعة الواسعة بنسب، ولم يحصل على المنصب بشهادة. ومع ذلك تجدهما يقرَّان بمنصبه، ويشهدان على جاهه، ويعترفان بسمعته. فما سبب ذلك؟!
السبب هو أن الشيخ رحمه الله كان يملك يقيناً قويًّا، وعنده قوة يقين تجاه حديث: «» (أخرجه أحمد في المسند [3/76] من رواية جابر بن عبد الله). وهذا اليقين القوي وقوة اليقين هي التي يفقدها الذين يبحثون عما يبحث عنه الشيخ رحمه الله من منصب رفيع ليتسنى لهم أمر الناس بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ومن جاه عريض ليستطيعوا به التوسل والشفاعة في أعمال الخير، وسمعة واسعة ليزاولوا بها تعليم الناس وإرشادهم.
فمن تدبر أحوال الشيخ في بداية حياته الوظيفية ومع الناس عرف بأن الشيخ يملك قوة يقين بأنه لا يمكن أن يطاع أمره بالمعروف، ولا يمكن أن يسمع نهيه عن المنكر إلا من طريق المنصب الرفيع، وأيقن بأنه لا ينال هذا المنصب الرفيع إلا عن طريق اليقين القوي بهذا الحديث وقوة يقين بذاك الأثر.
ومن استقرأ أفعاله في أوائل أيامه في التعليم والتوجيه علم بأن الشيخ جعل هذا الحديث واليقين القوي به نصب عينيه، وأنه لا يمكن تعليم الناس في أقصى الشرق، وإرشادهم في أقصى الغرب إلا عن طريق السمعة الواسعة، وأنه لا وسيلة إلى هذه السمعة إلا هذا الحديث واليقين فيه.
ومَنْ سبرَ أمورَ الشيخ في الخمسينيات والستينيات، وحوله مَنْ يريدُ الشفاعةَ والوسيلةَ وهو لم يملك الجاه العريض بعد، وقارنها بحاله قبل وفاته وهو ذو جاه عريض، وعريض الجاه أيقن بأن الشيخ نصب هذا الحديث واليقين فيه أمام ناظريه، وأنه لا يمكن الشفاعة لمن أرادها ولا الوسيلة لمن ابتغاها إلا بالجاه العريض، ولا يمكن الحصول على هذا الجاه إلا بسبيل اليقين بهذا الحديث.
فالشيخ عبد العزيز إمام في منصبه وجاهه وسمعته التي لولا توفيق الله له بالصبر على هذا الخُلُق العظيم التواضع وتصبيره على امتثال اليقين بمفعوله لم ينل الإمامة، كما قال الإمام أحمد: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" وتلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
رابعا:
لا تنسجم أفعال الإنسان وأقواله إلا إذا حدد الهدف بدقة، ولا تتناسق سكناته مع حركاته إلا إذا اتضحت لـه الغاية غاية الوضوح، ومن ليس كذلك تجده متخبطاً، فتجد منه تواضعاً في محل كبر، وكبراً في محل تواضع، ومن لم يكن كذلك تجده يضع السيف في موضع الندى، ويضع الندى في موضع السيف. في الحقيقة تذكرت هذا الأمر عند قراءة كتابات لبعض من عاشر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في أول حياته، وفي وسطها، وفي آخرها، فتجد بعضهم يصفه بالتواضع في موضع المصلحة فيه التواضع، وآخر يصفه بالشدة في موضع لولاها لضاعت المصلحة، وهناك من يصفونه باللين الدافع لمفسدة متحققة لو استخدمت القوة.
وهذه الصفات تجدها مجتمعة في أول حياته، وفي وسطها، وفي آخرها، وهذا أمر صعب، وصعوبته تكمن في أول حياته، ووسطها وقت التنافس الشخصي، والتطلع إلى المادة، والبحث عن الذات، بخلاف آخر الحياة فالأمر يسير، لذا كتب الشاعر الرصافي إلى نوري السعيد قائلاً: "أظنك لا تتهمني بشيء فيما قلتُ في هذه الأبيات، وأزيدك أنني اليوم واقف على شفير القبر أعيش آخر أيامي مجرداً من الأهل والسكن، ولا ولد لي أخشى ضياعه، ولا عقار أخاف انهدامه، فمن السفه أن أتكلم عن هوى أريده أو عن غاية خاصة أقصدها وإنما غايتي فيما أقوله المصلحة العامة"(رسائل الرصافي [ص115] بتصرف).
وقال الأستاذ عصام العطار: "لم أذكر هنا ما ذكرته من حديثي مع الأستاذ علي الطنطاوي للتفاخر، فقد جاوزت الآن السبعين من العمر"(صحيفة الشرق الأوسط 20/3/1420هـ)
وعوداً على بدء لم يكتمل هذا الجانب من شخصية الشيخ بهذا الأمر، بل هناك مكمل ومتمم يكمن فيه كون الهدف محدداً بدقة، ويتضح منه كون الغاية واضحة غاية الوضوح، وهو أن مَنْ يصف الشيخ باللين لا ينكر على من يصفه بالشدة، ومن ينعته بالتواضع لا يستنكر نعت الآخرين له بالحزم، بل تجد المخالط له يصفه باللين مرة، ومرة ينعته بعدم المرونة، ومع ذلك لا يرى في نفسه تناقضاً ولا في كلامه تعارضاً. فهذا الانسجام التام في أفعال الشيخ وأقواله، وذاك التناسق الكامل لا يتأتى إلا لمن حددَ الهدفَ من حياته بدقة متناهية، واتضحت له الغاية من خلقه غاية الوضوح.
فكلما حُدد الهدف بدقة انسجمت هذه المعاني وحلت في موضعها، فلا الندى في محل السيف، ولا السيف في موضع الندى، وكلما كانت الغاية واضحةً تناسقت هذه الصفات، فلا تواضع في مكان لا تواضع فيه ولا كبر في محل التواضع. وهذا الانسجام وذاك التناسق ليس بمقدور شخص يبحث عن ذاته في ملف المصلحة العامة، وليس بإمكان شخص يفتش عن حظوظ شخصية على حساب حظ الناس، وبعيدة هذه المعاني الكبيرة والحكمة في استخدامها، وتلك الصفات والحكمة في استعمالها عن إنسان ينقب عن المادة في أرضية العامة.
فالشيخ عبد العزيز أنكر ذاته أمام ما ينفع المسلمين، ونسي حظه الشخصي في غمرة حظ الناس، وذوَّب المادة على أرضية العامة. لذلك انسجمت أفعاله طوال حياته مع أقواله، وتناسقت أقواله مع أفعاله، لذا فلا غرو أن تجد من لان معه الشيخ وعامله بالمرونة يناديه بـ(الوالد)، وفي نفس الوقت من استخدم معه الشيخ الشدة والحزم يصفه بـ(سماحة الوالد). لأن هذا وذاك يعلمان أن الشيخ هدفه المحدد (الآخرة)، وأن غايته النهائية (المصلحة العامة)، فمثله ومثلهم كأب لأبناء نسباً لا يَشُكُّون في حبّ والدهم لمصلحتهم، ولا يرتابون في حرصه على منفعتهم.
يعجبك مَنْ يتمسك بمقولة: "الاعتراف بالحق فضيلة"، وبعبارة: "رحم الله رجلاً عرف قدر نفسه"، فهناك من لا يرى من نفسه الأهلية لمنصب (الأبوة) وعرف أنه التزام صعب بأخلاق صعب التمسك بها في جميع المقامات، وفي مختلف الأحوال، فتنازل عن هذا المنصب مشكوراً بقوله: "عندما كنت عميداً لكلية التجارة أقول للطلبة: لستم أبنائي فلي أولادي، ولكم آباؤكم، ولكن اعتبروني إذا استحققت ذلك أخاً كبيراً ولا أزال أقرر هذه لكل من يقرر أنني أبوه" (من كتاب صوت من الخليج).
إذًا فلا غضاضة بعد تنازله هذا أن لا تنسجم أفعاله مع أقواله، وأيضا لا غضاضة بأن لا تتناسق أقواله مع أفعاله. حيث قال: "استدركت على أبي عبد الرحمن بن عقيل جزئية من جزئيات محاضرته التي ألقاها في مؤتمر الطلبة الخليجيين في لندن حيث قال أبو عبد الرحمن: "إنه لا يصدق ما يقوله العلماء المختصون: من أن بعض الصخور يرجع عمرها إلى ملايين السنين لأنه استنبط من القرآن أن عمر الأرض لا يزيد على خمسين ألف عام". الاستدراك: أن مواهب أبي عبد الرحمن - وهي بفضل الله عديدة - لا تشمل علوم الجيولوجيا والكوزمولوجيا، وأنه من الخير له ولسائله أن يترك هذا الفن لأربابه"(صوت من الخليج [ص 154]).
فمن الخطأ أن لا نقدر شخصاً قدَّر نفسه فتنازل عن منصب (الأبوة) مثل أن نخطئه في قوله عن كتاب (رفع الحرج في الشريعة الإسلامية) للشيخ صالح بن حميد: "ما أبيح لنفسي في عجالة كهذه أن أناقش بحثاً موسعاً مفصلاً مثل هذا البحث" (صوت من الخليج [ص 108]).
فلا نخطئه قائلين: كيف يستدرك على ابن عقيل دخوله في علوم ليست من تخصصه؟ مع أنه ارتكب ما ارتكبه ابن عقيل من دخوله في غير تخصصه - وذلك بمحاولة تقييم كتاب الشيخ صالح بن حميد لولا الانشغال وعدم التفرغ -. فكون استدراكه على ابن عقيل لا ينسجم مع قوله لا يؤاخذ عليه لأنه تنازل عن منصب (الأبوة) الذي يدعو إلى انسجام الأقوال مع الأفعال، وتناسق الأفعال مع الأقوال.
خامسا:
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] وذلك بمعاملته للمسلمين من غير العرب، ويبين معناها برميه للعنصرية، ويشرحها بنبذه للعصبية لإقليم أو نسب أو لون.
فالشيخ رحمه الله يؤمن بأن الدين لم ينزل على العرب فقط، بل هو عام، ولم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم للون واحد بل إلى جميع الألوان، ولم يرسل لنسب واحد بل إلى كافة الأنساب.
فإيمان الشيخ بهذه القطعيات جعله يفهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
ويفسرها بما تقدم، ويشرحها بما سبق، وبما أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الله أخذ على الأنبياء عهدًا بأن يبينوا هذا الدين للناس، فعلى هذا يجب على العلماء التبيين وتبليغ هذا الدين، فإيمان الشيخ بهذا الواجب أداه إلى أن يفهم بأنه لا يمكن تبليغ هذا الدين مع العنصرية، وأنه لا يستطيع أن يأمر بمعروف من في أقصى الشرق أو أن ينهي عن منكر من في أقصى الغرب مع العصبية.
وأثناء قراءة الشخص عن حياة الشيخ عبد العزيز كأنه يسمع الشيخ ينادي بأن من أراد أن يكون وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم فليبين للناس هذا الدين، وليبلَّغ هذا الشرع لجميع الخلق، ومن أراد أن يقوم بهذه الوظيفة فعليه أن ينبذ العصبية التي تحجم العالم أو طالب العلم وعليه أن يرمي العنصرية التي تمنع الآخرين من قبول الحق لأنه مشوب بباطل، وكلما حرص العالم أو طالب العلم على تطهير أمره بالمعروف من نتن العصبية وتنظيف نهيه عن المنكر من قذر العنصرية صار إلى القبول أقرب وإلى القلوب أوصل.
فسبب تخلف بعض طلبة العلم عن وراثة النبي صلى الله عليه وسلم في التبيين والتبليغ: الإقليمية، وسبب الإقليمية العصبية والعنصرية، وسبب العنصرية والعصبية قلة توفيق من الله.
سادسا:
تشتمه فيتحرك لسان حاله بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وتسبه فيحرك لسان مقاله بقوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء: 147-148].
فالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كما أعرف ويعرف الشاتم يستطيع أن يرد الشتمة بمثلها، والشيخ كما أعرف ويعرف الساب قادر على أن يأخذ بثأره، لكنه رحمه الله لم يرد مع استطاعته ولم يأخذ مع قدرته، وهذه هندسة في علم الاجتماع وتكتيك في العلاقات، فليست غفلة كما يظن البعض، وليست بلاهة كما يعتقد آخرون.
فالشيخ لا يريد أن يهابه الناس فيتمنوا زواله، ويخافه المجتمع فيرجو إزاحته، بل يريد أن يحبوه فيتمنوا بقاءه، ويحترموه فيدعو له بطول العمر. وقد نال الشيخ هذه المرتبة، وحاز على هذه المزية، فتجد الشاتم بجوار المحب، والساب قريباً من الصديق في مجلسه أيام حياته، وفي المسجد وقت الصلاة عليه، وفي الصحف لتأبينه ورثائه.
والشيخ لا يريد أن يبغضه الناس فيحاولوا عرقلة مشاريعه الخيرية، ولا يريد أن يمقتوه فيحاولوا غربلة إسهاماته الطيبة، بل استطاع بتلك الهندسة أن يستخدم شاتمه في إنهاء إجراءات مشاريعه الخيرية بدل عرقلتها، وبذاك التكتيك قدر أن يستعمل سابه بتخليص إسهاماته الطيبة.
كيف استطاع أن يُحَوَّل الشاتم إلى رجل من رجالاته القائمين على خدمته؟ وإلى أحد الحاضرين في مجلسه لسماع فتواه واستشارته؟ وإلى واحد من المصلين عليه تقرباً إلى الله؟ وإلى كاتب تأبين ورثاء مفتخراً بقربه إليه؟ وكيف قدر على قلب الساب إلى عضو فعال في إسهاماته؟ وإلى تلميذ؟ وإلى داع له؟ وإلى شاعر معتز بمهاتفة ومراسلة ومحادثة الشيخ له؟ فليست البلاهة تستطيع التحويل، ولا الغفلة قادرة على القلب، بل هندسة وتكتيك مملوءان باليقين بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «» (أخرجه مسلم [2637] من حديث أبي هريرة).
فالشيخ لديه يقين بأنه إذا كظم غيظه وعفا عن المسيء صار من المحسنين الذين يحبهم الله، وعنده يقين بأنه إذا أحبه الله أحبه الناس، وهذا الكظم من الشيخ، وطلب التعويض من الله من اليقين بحديث: «» (أخرجه أحمد في المسند [5/78] من رواية أعرابي).
وبهذا استطاع الشيخ أن يُحوَّل الشاتم كما تقدم، وأن يقلب الساب كما سبق. وهناك عملية أخرى يقوم بها رحمه الله للتحويل والقلب وهي أن الشيخ مهما نزلت أخلاق الآخرين عند التنافس، وهبطت عند الأطماع، وانخفضت عند الاختلاف تبقى أخلاقه عالية لا يتنازل عنها، ولا ينزل بها مع ذاك المنافس والطامع والمختلف، وسبب عدم تنازله عن أخلاقه ونزوله بها هو أن الشيخ يتعبد بها، وبها يتقرب إلى الله فلم يتخلق بها لينال منصباً وبنيله له تزول، ولم يتمسك بها طمعاً بزائل فلما زال زالت، ولم يعض عليها بالنواجذ لكون الآخرين موافقين له فلما اختلفوا عليه انخفضت أخلاقه وهبطت آدابه. بل هي دائماً عالية، وسبب علوها أن الشيخ مواظب على سقياها في جميع الأحوال، ومختلف الحالات، وذلك بماء المكرمات كما قال الشاعر:
هي الأخلاق تنبت كالنبات *** إذا سقيت بماء المكرمات
فماء المكرمات النية الصالحة والمقصد الحسن، فالمحافظة على علو الأخلاق، والمداومة على الأخلاق العالية في جميع الأحوال ومختلف الحالات صعب جدًّا، ويحتاج إلى همة عالية ويقين قوي، فلولا قوة يقين وعلو همة الشيخ بأن المداومة والمحافظة على الأخلاق ترفع الشخص في الآخرة كما ورد في الأحاديث لما استطاع أن يتمسك بها أمام نزول أخلاق المنافس، ولما قدر أن يصبر على هبوط سلوك الطامع، ولما تمكن من الصمود أمام انخفاض آداب المختلف، فبصموده وصبره وتمسكه لا بالبلاهة والغفلة استطاع أن يكسب احترام المنافس، وينال محبة الطامع، ويفوز بتوقير المختلف، وأن يحَوَّلهم إلى أعوان وأصدقاء.
سابعا:
لو سأل أحد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في أوائل قبضه للراتب: "كيف تنفق نفقة من لا يخشى غوائل المستقبل ولا يخاف الفقر؟" لأجاب الشيخ بكل يقين بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
ولو سأله آخر: "كيف تقرض من لا تأمن إيفاءه، ولا تضمن تسديده؟" لأجاب بكل تأكيد بقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
أنا أجزم بأن الشيخ يعلم علماً يقيناً في أوائل قبضه للراتب بأن راتبه بهذا الإنفاق سيزيد إنفاقه، وأن ماله بذاك القرض سيضاعف وسيضاعف الإقراض، وإذا كان هناك احتمال السؤال فكذلك اللوم والمؤاخذة واردان، فقد يكون هناك من لام الشيخ على إنفاقه، وأخذ عليه إقراضه لكن مثل الشيخ ويقينه بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] لا يلومه إلا من قل يقينه، ومثل الشيخ وتسليمه بقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] لا يؤاخذه إلا من ضعف تسليمه بوعد الله. فضعف التسليم وقلة اليقين يمنعان من فهم أعمال المنفقين، ويحجبان عن قراءة مستقبل أفعالهم.
يقول الأستاذ إبراهيم الفقي: "إن القائد يتمتع بحاسة ممتازة في عمله، فهو يستطيع أن يرى أشياء لا يراها ولا يفهمها الآخرون، كما أنه مبدع ومعروف بأفكاره النيرة على الرغم من أن النقد قد يوجه إلى خيالاته، إلا أن مع الوقت يستطيع الناس أخيراً أن يتفهموا لماذا يرى القائد الأشياء بهذا الشكل؟" (مجلة عالم الإدارة - العدد 4 [ص 14]).
فالشيخ إمام في الإنفاق، ويتمتع بيقين ممتاز أعلى من الحاسة الممتازة، وما يقينه وتسليمه إلا من الأفكار النيرة، لكن ليس كل الناس يستطيع أن يعرف أبعاد اليقين ويقرأ مستقبل التسليم إلا من رزقه الله يقيناً يعرف به وتسليماً يقرأ من خلاله، ومن لا يدرك ذلك يقال له بأن الشيخ يعلم علماً يقيناً أنه لولا إنفاق الألف الأولى على شخص واحد لما جاءت الألف الثانية ومن ثم إنفاقها على شخص آخر، وما إلى ذلكK ولما صار الأجر أجرين، وبهذه المعادلة زاد الراتب، وزاد عدد المنفق عليهم وتضاعف الأجر.
ثامنا:
الإمام أحمد رحمه الله إمام في الزهد، وإمام في الورع والتقى، وإمام في العلم، فحياته رحمه الله تفسير لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فمثله إمام في عدة جوانب قد تصدر منه كلمات أو أفعال لها عدة معانٍ، فقد قال رحمه الله: "بيننا وبينكم الجنائز" يقصد أهل البدع والمخالفين له، لشدة يقينه بصحة معتقده واتباعه وسلوكه، وإذا كانت إمامة الإمام أحمد تفسر الآية فإمامة الشيخ عبد العزيز بن باز تترجم هذه المقولة، فليس في هذا العصر جنازة صلي عليها في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب مثل جنازته رحمه الله، ولا أعرف ميتاً رثي بحق كما رثي هذا الشيخ، وسبب هذا وذاك صحة معتقده، وحسن اتباعه للشرع واستقامة سلوكه ومنهجه رحمه الله.
فهنا عبرة وفائدة من هذه المقولة وتلك الترجمة، وهي للمخالف للشيخ أحوج منها للموافق له في حياته، فيجب على المخالف أن يسأل نفسه عن سبب تجمع المصلين على جنازته في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ويضع استفهاماً حول تلك المراثي وتلك التعازي التي شملت جميع مستويات الناس من الحاكم إلى المحكومين، ومن الرئيس إلى المرؤوسين، فلا يمكن أن يقبل الناس على شخص، أو يتأثر جمع عظيم بوفاته إلا لسر مكنون لا يمكن يناله إلا مخالف أراد الله له التوفيق فيما بعد وفاة الشيخ، وجذر عميق لا يمكن الوصول إليه إلا مخالف أراد الله أن يحبه بعد وفاة الشيخ، وهذا السر المكنون، وذاك الجذر العميق هو أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يطرح لرجل القبول في الأرض، وينشر محبته لشخص بين الناس إلا شخص يحبه ورجل قبله. ولا يمكن أن يحب الله رجلاً أو يقبل شخصاً إلا إذا كان معتقده بالله صحيحاً، فلا تجهم، ولا اعتزال، ولا غيرها. واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم سليم، فلا تعصب لحنبلي، أو شافعي، أو مالكي، أو حنفي.
وسلوكه مستقيم فلا نقشبندية، ولا تيجانية وغيرها من الطرقية، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «» (سبق تخريجه قريبا).
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
فمن وَدَّه الله فبسبب كون أعماله صالحة، فصلاح الأعمال طريق إلى ود الرحمن. فجنازة الشيخ ابن باز ومثلها جنائز الأئمة قبله طريق لتصحيح العقيدة، والصلاة عليها في الشرق والغرب والشمال والجنوب طريق الاتباع الصحيح، والتعازي فيه طريق لمعرفة أي مسلك صحيح يسلكه المسلم، وهذا الاعتبار بهذه الجنازة لا يحصل إلا لمن أراد الله له التوفيق للهداية وسلوك طريق الأنبياء الذين العلماء ورثتهم، وهذه الجنازة لا يعتبر بها إلا من أراد الله له الخير والسداد في الحياة وبعد الممات.
من المصادر والمراجع الإضافية:
- جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز. رواية للشيخ محمد الموسى، وإعداد محمد بن إبراهيم الحمد.
- الصداقة بين العلماء: محمد بن إبراهيم الحمد.
- علماء مفكرون لقيتهم -الجزء الأول- محمد المجذوب.
- حديث تلفزيوني للداعية الدكتور: محمد بن موسى الشريف في فضائية (اقرأ).
- الإمام القدوة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: