الشيخ صالح الحصين.. المفكّر الإسلامي الحقوقي المصلح
في تلك المناقشة العلمية حصل موقف لفت انتباهنا نحن الطلاب، فقد ورد ذكر للاستاذ عبد الرزاق السنهوري وانتقادًا حادًا له قبل ما يقارب عشرين عامًا حضرت مناقشة أطروحة علمية في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كان الشيخ الجليل صالح بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله أحد المناقشين فيها، وكانت هذه أول مرّة أرى فيها الشيخ صالح رأي العين، وكنت قبلها أسمع به فقط.
الشيخ صالح الحصين رحمه الله
في تلك المناقشة العلمية حصل موقف لفت انتباهنا نحن الطلاب، فقد ورد ذكر للاستاذ عبد الرزاق السنهوري وانتقادًا حادًا له قبل ما يقارب عشرين عامًا حضرت مناقشة أطروحة علمية في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كان الشيخ الجليل صالح بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله أحد المناقشين فيها، وكانت هذه أول مرّة أرى فيها الشيخ صالح رأي العين، وكنت قبلها أسمع به فقط..
وفي تلك المناقشة العلمية حصل موقف لفت انتباهنا نحن الطلاب، فقد ورد ذكر للأستاذ عبد الرزاق السنهوري وانتقاد حادّ له، مما حمل تلميذه الشيخ صالح الحصين على الدفاع عنه مستشهدًا ببعض مواقف السنهوري باشا الأخيرة من الشريعة الإسلامية، ودعوته لاستقاء القوانين العربية منها ومن الفقه الإسلامي؛ لكن المشرف على الرسالة ومقرّر الجلسة أستاذنا د. (عباس حسني) نائب رئيس هيئة قضايا الدولة بمصر سابقًا كان له موقف آخر من السنهوري باشا، دوَّنه فيما بعد في مقالات مطوّلة نُشر بعضها، ضمنها جملةَ انتقادات ما بين عامّة وخاصّة؛ وخلاصته: "أنه يرى أن السنهوري قد أساء للشريعة الإسلامية بوضعه للقانون المدني المصري، الذي قدّم فيه نصوص القانون الوضعي وفحواها على العرف، ثم يقدم العرف على الشريعة، ثم يفترض النص -المادة الأولى من القانون المدني المصري الذي وضعه السنهوري- أن الشريعة ناقصة فلا تفي بالغرض فيأمر بالرجوع إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة، ولا ريب أن هذا إنما هو ازدراء بالشريعة، وهو أمر يتعارض مع ما أمر به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باللجوء أولًا وآخرًا إلى الشريعة في كل الأمور صغيرها وكبيرها، وفي كل حال سواء في المنشط أو المكره".
قلت: ومن درس تاريخ السنهوري باشا يجد أنَّه مرّ بمراحل مختلفة، كانت في مرحلة منها قاصرة عن العلم بشمول الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي في جانب ما يعرف بالقانون المدني، وهو ما أثار غيرة أستاذنا الدكتور عبّاس حسني أجزل الله مثوبته؛ وكانت المرحلة الأخيرة والله أعلم مرحلة عناية السنهوري بالفقه الإسلامي واكتشافه لشموله وثروته وثرائه، وهذه المرحلة الأخيرة من حياة السنهوري هي التي تتلمذ فيها الشيخ صالح الحصين على السنهوري باشا؛ وقد ذكر لي الشيخ صالح رحمه الله شيئًا من تلك المرحلة؛ فقبل وفاته بما يقارب الشهر، سألته عن أستاذه السنهوري فقال: "استفدت منه كثيرًا، وكان له لقاء بنا وكنا سبعة أو ستة أشخاص في معهد جامعة الدول العربية، وهو شخص عبقري".
قلت: ويظهر من كلام الشيخ صالح رحمه الله أنَّ هذا اللقاء الذي يعنيه لقاءٌ خاص غير لقاء الدراسة الرسمي، وهو ما يشير إلى تنبّه السنهوري لشخصية الشيخ صالح وإلى علمه الشرعي وجديته وعبقريته؛ فقد كان للسنهوري تلميذ آخر، صار له شأن في الإصلاح الشرعي وكانت له مبادرات في المشاريع الإسلامية تشابه الجانب الإصلاحي عند الشيخ صالح وهو الشيخ الدكتور (توفيق الشاوي) رحمه الله، الذي بلغت علاقته بالسنهوري باشا أن زوَّجة السنهوري ابنتَه رحمهم الله جميعًا، وسبق أن كتبت عن شيء من إصلاحات الشيخ توفيق الشاوي رحمه الله على مستوى العالم الإسلامي، وأشرت فيها إلى شيء من تديّن السنهوري رحمه الله..
غير أنَّ مما يميز الشيخ صالح الحصين رحمه الله إضافة إلى عبادته و زهده الفريد مع تعدد ما كُلّف به المناصب الرسمية: سبق تحصيله للعلم الشرعي على تحصيله لعلم القانون! وهذه ميزة كبيرة؛ فمن الملاحظ أنَّ من يجمع بين علم الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، يكون أعمق فكرًا وأوسع أثرًا ممن اكتفى بعلم القانون دون الشريعة، فإنَّ الجمع بين علم الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، يؤهل صاحبه للتمييز بين المقبول والمرفوض من القانون، كما يؤهل صاحبه للإصلاح المؤصّل بالعلم المتين والفكر الرشيد، مع ازدياد تعظيم صاحبه للشريعة الإسلامية وحسن توظيفه للقانون في خدمة الشريعة، ومناعته ضد داء الانبهار بالقانون الوضعي الذي يعصف بضحاياه بعيدًا عن الإصلاح العام احتسابًا.. وهو ما سبق الإشارة إليه وذكر نماذج من شخصياته في مقالات سابقة..
ومن واقع تجربة الشيخ صالح رحمه الله في دراسته للشريعة الإسلامية قبل دراسته للقانون الوضعي، إضافة إلى تأصيله الشرعي كان يرى أنَّ دراسة طالب الشريعة للقانون لا يحتاج إلى طول مدّة، فربما كان يكفيه في علم القانون دبلوم ونحوه، بعكس دراسة طالب القانون للشريعة، فلا يكفيه مثل ذلك البتة.. فدراسة الشريعة تتطلب دراسة شاملة في جانبي الفقه وفقه النصوص الشرعية ومقاصدها، وأصول الفقه وقواعده إلخ..
وأمَّا إصلاحات الشيخ صالح الحصين رحمه الله؛ فهي كثيرة وعميقة، منها ما كان في الجانب العلمي، ومنها ما كان في الجانب العملي، ومنها ما كان في الجانب الفكري، وتظهر جهود الشيخ صالح الحصين رحمه الله وإصلاحاته العلمية والعملية، على نحو نوعي في توظيف خلفيته الشرعية والقانونية المحكومة بالشريعة في خدمة الشريعة الإسلامية علميًا وعمليًا وتنمويًا..
وقد أشار الشيخ صالح الحصين رحمه الله إلى تاريخ تجربته ومجالات توظيفها الإصلاحي، في قوله: "خلال مدة تزيد عن خمس وخمسين سنة قامت صلتي بالقانون دراسة، وتدريسًا، ومستشارًا قانونيًا في الإدارة العامة، ومشاركًا في كتابة عدد من الأنظمة ومشرفًا على تطبيقها.."؛ ولم يذكر الشيخ ذلك مفاخرة ومباهاة فهو من أبعد من رأت عيني عن ذلك، وإنما ذكره تمهيدًا وتأكيدًا لطرح رؤية إدارية إصلاحية مهمّة، سيأتي الحديث عنها لاحقا إن شاء الله.. وتوظيف الشيخ لعلم القانون في خدمة الشريعة يتجلى في الجانب العلمي التعليمي والعملي والفكري بوجه عام.
فأمَّا الجانب العلمي التعليمي، فيظهر في صور، منها:
تدريسه في وقت مبكرٍ لمقررات مهمّة، غير مألوفة التدريس في المؤسسات العلمية الشرعية حينها، ومثال ذلك: تدريس الشيخ في شبابه، لمقرر (العقود الإدارية) بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لا سيما أنَّ المعهد يُعدّ أوّل وحدة علمية أكاديمية للدراسات العليا في المملكة؛ وقد علمتُ بتدريس الشيخ في المعهد العالي للقضاء من شيخنا الجليل الدكتور (عبد الرحمن الدرويش) حفظه الله، فقد سمعت منه أنَّ الشيخ صالح الحصين أوّل سعودي درسهم موضوعات تتعلق بالأنظمة في المملكة؛ ثم سألت الشيخ صالح الحصين رحمه الله عن ذلك، فأخبرني أنَّه درس (العقود الإدارية) بالمعهد آنذاك، وكان حينها مستشارًا في وزارة المالية.
كما درّس الشيخ رحمه الله مقرّر "القانون الدولي الخاص" بكلية التجارة في جامعة الرياض، المعروفة اليوم بجامعة الملك سعود؛ وكان ذلك على إثر سحب رئيس (مصر جمال عبد الناصر) للأساتذة المصريين الذين كان عدد منهم يدرس مقررات القانون والأنظمة في الجامعة؛ إذ أوجد سحبهم فراغًا في تدريس بعض هذه المقررات، فكان للشيخ صالح الحصين رحمه نصيب من سدّ ذلك الفراغ، إذ كُلّف بذلك مع وظيفته الأصلية، وقد رأيت الشيخ رحمه الله وهو يتحسّر على فقد مذكرة محاضراته في (القانون الدولي الخاص)! ومن عانى فقْد بعض ما كتَب من علم جمعه ثم حلله ثم قارنه وحرّره، يدرك سبب حسرة الشيخ، فقد كان الشيخ باحثًا مبدعًا متأمّلًا محرّرًا لما يكتب، ولم يكن قصّاصًا لصّاقًا!
كما أنَّ طريقة الشيخ صالح الحصين رحمه الله في تدريس القانون لا تخلو من المقارنة الشرعية التي يظهر جهده الخاص فيها، ولعلي أشير إلى شيء من ذلك في الحديث عن الجانب الفكري الإسلامي للشيخ رحمه الله؛ ولعلّ الله ييسر العثور على نسخة من مذكرة محاضرات الشيخ في القانون الدولي الخاص..
وقد درّس الشيخ رحمه الله أيضًا بعض المقررات في معهد الإدارة العامة، منها : مقرّر "القانون الإداري"، وقد تميزت محاضراته في هذا المقرر بالاختصار المفيد، والمقارنات النافعة، وقراءة التراث الفقهي الإداري بعمق وتقدير..
وأمَّا الجانب العملي فيظهر جليًا في أهمّ عملٍ إصلاحي شارك فيه الشيخ رحمه الله على مستوى سنّ وصياغة الأنظمة العليا في المملكة العربية السعودية؛ فقد كان رحمه الله أبرز من جمع بين الشريعة والقانون في لجنة إعداد مشروع النظام الأساسي في تشكيلها الأول والثاني، الأول: الذي جاء في بيان الديوان الملكي بهذا الشأن عام 1400هـ، إذ نصّ البيان على تعيين الشيخ صالح الحصين ضمن مجموعة التسعة لإعداد مشروعات: النظام الأساسي، ونظام مجلس الشورى، ونظام المقاطعات -المناطق-، وكذا في تشكيلها الثاني، الذي جاء بعد إجراء تعديلٍ على التشكيل الأول، بلغ فيه عدد أعضاء اللجنة النهائي عشرة، ولذا يُعبّر عنهم بمجموعة العشرة..
ويُعدّ النظام الأساسي للحكم عند فقهاء الدستور الإسلامي نموذجًا إسلاميًا عصريًا مهمًا في عنايته بسيادة الشريعة الإسلامية، ودقة صياغة المواد التي تؤكّد هذه السيادة وتلزم جميع سلطات الدولة بالتزامها.. وقد كتبت عن ذلك في أكثر من موضع ومن آخرها مقالات (الدستور الإسلامي)، وكذا مشاركة الشيخ رحمه الله في صياغة ومراجعة عدد من الأنظمة والإشراف على تطبيق بعضها كما سبق، إضافة إلى جملة من الجهود الاحتسابية في موضوعات عديدة، ومن ذلك مراسلاته بمقترحات وتوصيات ونصائح لعدد من الجهات والوجهاء وغيرهم..
وثمة جهود مهمّة بدأها الشيخ رحمه الله ولم ينهها إذ أدركه الأجل سائرًا في سبيل مشاريع ترمي لمصلحة الإسلام والمسلمين في العالم الإسلامي والعربي، والحديث في هذا ذو شجون!
كتب الله للشيخ أجر ما بدأ وما نوى من عمل صالح وأعمال إصلاحية..
وأمَّا الجانب الفكري فهو موضوع المقالة التالية إن شاء الله تعالى.
- التصنيف:
- المصدر: