من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له

منذ 2013-09-04

هل فكر أحدنا في التوفير للدعوة، نعم التوفير للدعوة، ألسنا كلنا اعتدنا التوفير لأمور مادية بحتة وقد تكون ليست ذات بال، فبعضنا يقتر على نفسه أحياناً ويصنع ما يسمى بترشيد الإنفاق من أجل أن يجمع مبلغاً من المال لشراء سيارة جديدة وربما لشراء شيء من الأثاث، والكثير يعمل ذلك من أجل أن يشيد بيتاً يؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، ومع هذا لم نفكر في تشييد مستقبلنا السرمدي..




قال الجصاص: "إن عارية هذه الآلات -يعني القدر والفأس ونحوها- قد تكون واجبة في حال الضرورة إليها، ومانعها مذموم مستحق للذم، وقد يمنعها المانع لغير الضرورة، فينبئ ذلك عن لؤم، ومجانبة أخلاق المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (أحكام القرآن للجصاص 3/ 584).

وعند المالكية: في أحكام القرآن لابن العربي: "وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء".

وقد قال مالك: "يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر أصحها عندي وجوب ذلك عليهم" (أحكام القرآن 1/59-60).

وقال القرطبي: "واتفق علماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع، وهو يقوي ما اخترناه" (تفسير القرطبي 2/ 242).
وفي الشرح الكبير لمختصر خليل: "وقاتل المضطر جوازاً، رب الطعام، ولو مسلماً، إن امتنع من دفعه له، عليه، أي على أخذه منه، بعد أن يعلم ربه، أنه إن لم يعطه قاتله، فإن قتل ربه -رب الطعام- فهدر" (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/116 بتصرف يسير).

الشافعية:


في كتاب الأطعمة: قال في مغني المحتاج: "أو وجد طعام حاضر غير مضطر له لزمه أي غير المضطر إطعام مضطر معصوم مسلم أو ذمي أو نحوه كمعاهد، ولو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح للضرورة الناجزة بخلاف غير المعصوم كالحربي، فإن امتنع وهو أو وليه غير مضطر في الحال، من بذله بعوض لمضطر محترم، فله أي المضطر قهره على أخذه، وإن احتاج إليه المانع في المستقبل، وإن قتله" (4/ 308-309).

وفي نهاية المحتاج: "ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، على القادرين وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم، وهل المراد من نفع ضرر من ذكر: ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان، أصحهما ثانيهما، فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على ما يليق بالحال من شتاء أو صيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما من أجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح" (نهاية المحتاج 7/ 149).

الحنابلة:


بحثت في عدة مواطن من كتبهم: في كتاب الصيد والذبائح، فعند المغني: "وجملته أنه إذا اضطر فلم يجد إلا طعاماً لغيره، نظرنا فإن كان صاحبه مضطراً إليه، فهو أحق به ولم يجزئ لأحد أخذه منه، لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه الضرورة، وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه، لأنه قتله بغير حق، وإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه، لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم، فلزمه بذله كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لأنه مستحق له دون مالكه، فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد، وعلى قاتله ضمانة، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر، لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكنه أخذه بشراء أو استرضاء.." (المغني مع الشرح 11/80).

وفي منار السبيل: "ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه كثياب لدفع برد، ودلو، وحبل لاستقاء ماء، وجب على ربه بذله مجاناً بلا عوض؛ لأنه تعالى ذم على منعه بقوله: {ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون:7]، فإن احتاج ربه إليه فهو أحق بالملك من غيره لتميزه بالملك" (انظر منار السبيل كتاب الأطعمة 2/419).

في كتاب الديات: "وإن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منهم فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحالة، فمات بذلك، ضمنه المطلوب منه لما روي عن عمر أنه قضى بذلك، ولأنه اضطر إليه فصار أحق به ممن هو في يده وله أخذه قهراً، فإذا منعه إياه تسبب إلى إهلاكه بمنعه ما يستحقه، فلزمه ضمانه، كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك" (المغني مع الشرح 8/580، وانظر منار السبيل كتاب الديات 2/335).

وفي قواعد ابن رجب الحنبلي: "القاعدة التاسعة والتسعون: ما يدعو إلى الانتفاع به من الأعيان ولا ضرر في بذله لتيسيره وكثرة وجوده أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجاناً بغير عوض في الأظهر.. ثم نقل عن شيخ الإسلام أن المضطر إلى الطعام إن كان فقيراً وجب بذله له مجاناً لأن إطعامه فرض كفاية لا يجوز أخذ العوض عنه بخلاف الغني.. " (قواعد ابن رجب 228).

قول ابن حزم: كما مر فإن ابن حزم نافح عن هذا الأمر بقوة، وحشد له جملة من الأدلة، وقد قال رحمه الله تعالى: "وفرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بذلك، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف وأعين المارة".

قول ابن تيمية: قال رحمه الله: "فأما إذا قدر أن قوم اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه، إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون بها من البرد، أو إلى الآت يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون يبذل هذا مجاناً، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يستقون به أو قدراً يطبخون فيها، أو فأسا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون:4-7] وفي السنن عن ابن مسعود قال كنا نعد الماعون عارية الدلو والقدر والفأس" (مجموع الفتاوى 28/98).

تنبيهان:

الأول: قد يتساءل البعض فيقول هذه شيوعية أو اشتراكية؟

والجواب: شتان ما بين الثرى والثريا، وكما قال الشاعر:


 

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصى


إن النظام المالي للشيوعية يقوم على أسس منها:

1- إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتاً وإحلال الملكية الجماعية بدلاً منها.

2- المساواة في الأجور.

3- تطبيق مبدأ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.

وهذه أسس خيالية تصادم الفطرة ولذلك فشلت فشلاً ذريعاً كما هو الواقع. أما النظام الإسلامي، فيما سبق الحديث عنه، فيرمى إلى أن لا يوجد في المجتمع الإسلامي مضطرون لا يجدون حاجاتهم الأساسية، مع تمكن البعض من سد حاجاتهم وإزالة الضرورة عنهم، ولا يرى الإسلام مانعاً من أن توجد فوارق بين أبناء المجتمع وهذا ما نص عليه القرآن في مواطن عدة (للتوسع انظر: فصل الشيوعية من كتاب مذاهب فكرية معاصرة، للأستاذ محمد قطب)، قال تعالى: {ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا} [الزخرف:32].

الثاني: لا يقولن قائل أن وجوب سد حاجة الفقراء، مقصورة على الأغنياء، ذوي المال الوفير، بل إن وجوب ذلك منوط بكل من وجد فضلاً من المال كما مر آنفاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الآثار المروية عن عمر.

الخاتمة:

وبعد هذه الأدلة الناصعة، وكلام العلماء الجلي: أقول: أيها المسلمون ويا أيها الدعاة، ألسنا نرى بأم أعيننا ونسمع بآذاننا عن إخوان لنا في الدين يموتون كل يوم جوعاً، ومرضاً، وخوفاً وتشريداً، أفلا نقول لأنفسنا كما قال عمر بن الخطاب: "هل نرى هؤلاء يموتون، ونعيش نحن، بل ونتنعم، ونتلذذ بكل ما لذ وطاب، ولا يفوتنا من الكماليات شيء؟"، إننا بحق في حاجة إلى الأخوة الإسلامية كما جاء بها الإسلام.





 

المصدر: مجلة البيان