سلسلة رحلة البحث عن الواقع (2)
في هذا الجزء سنُبحِر في واقعنا المعاصر؛ ولا سيما كما وعدنا نبدأ من الحدث الحالي ونمرّ عبر تلك الدوائر السابقة حتى تتكون لدينا رؤيةٌ متكاملة أو بمعنى أشمل نظرة شاملة من عدة زوايا وليست الزاوية التي ندفع إليها دفعاً ونحاصر فيها دائماً وهي زاوية رد الفعل الوقتي العشوائي.
ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسة آليات فهم الواقع تكتيكياً؛ وِفق عدة دوائر مرتبطة ارتباط عضوي وهي تُمثِّل بيئة صناعة الحدث. ولا يمكن فصل دائرة منها عند محاولة تكوين رؤية الحدث؛ وهي تصاعدياً:
الدائرة الأولى: (المحلية).
الدائرة الثانية: (إقليمية).
الدائرة الثالثة: (عالمية).
الدائرة الرابعة: (كونية تاريخية قدرية).
ويمكن الرجوع لتفصيلاتها بالرجوع إلى الجزء الأول من سلسلة رحلة البحث عن الواقع (1) المنشور في موقع طريق الإسلام.
أما في هذا الجزء سنُبحِر في واقعنا المعاصر؛ ولا سيما كما وعدنا نبدأ من الحدث الحالي ونمرّ عبر تلك الدوائر السابقة حتى تتكون لدينا رؤيةٌ متكاملة أو بمعنى أشمل نظرة شاملة من عدة زوايا وليست الزاوية التي ندفع إليها دفعاً ونحاصر فيها دائماً وهي زاوية رد الفعل الوقتي العشوائي.
فالتجربة التي تعرّضت لها المنطقة العربية والدول الإسلامية في الفترة القصيرة الماضية؛ تُعد بكل المقاييس أحداث جوهرية عميقة، وخلخلة لمفاهيم تم ترسيخها في اللاوعي العربي، ولم أجد مصطلح يُعبِّر عنها تعبيراً سليماً إلا تعبير السيدة (كونداليزارايز): "الفوضى الخلاقة".
فبكل الأشكال يمكن وصف المنطقة بأنها تعيش فوضى بكل ما تحمله كلمة فوضى من معاني، وقد نكون الآن في ذروة منحنى تلك الفوضى، سياسية، أمنية، اجتماعية، اقتصادية، سلوكية، اصطلاحية؛ فوضى بكل المعاني.
وربما أن تلك الفوضى بالفعل كانت مطلوبة للجميع لتحريك المياه الراكدة التي ركدت تحت ظل أنظمة ديكتاتورية جمّدت كل شيء تقريباً؛ جمّدت العقول، والقلوب، والقوانين، والحياه الإنسانية بصفةٍ عامة؛ وكوّنت شكلٌ له تركيبة شديدة التعقيد مكّون من تراكمات تاريخية منتقاه بعناية تلك التراكمات كونت بدورها حالة (تكلُّس كاملة) جمود في كل شيء.
فكانت تلك الفوضى -كما قلنا- مطلوبة للجميع لتفتيت حالة التكلُّس والجمود الحضاري والتاريخي الذي أحاط بمكونات المنطقة؛ إلا أننا إذا انتقلنا إلى الجزء الثاني مما قالته كونداليزارايز: "الخلاقة"؛ هنا يأتي المهم ويأتي الاختلاف، وتتضح النِّيات، والأهداف، بل والتكتيكات.
حدثت الفوضى، وحدث التفتيت فعلاً؛ وعادت التركيبة إلى مكوناتها الأصلية، ولم يبقى إلا إعادة ترتيب الأوراق لتدشين الصورة الجديدة، وسارَع الجميع إلى محاولة فرض رؤيته عن التصور الجديد.
إلا أنه من خطط لتلك الفوضى ويملك أدواتها تحسّب لكل شيء (بالطبع إلا شيء واحد قطعاً هو مشكلتهم الأساسية الأزلية؛ وهو قدر الله الذي هو غائبٌ دائماً في اللاورائياتهم، أو الميتافيزقياتهم).
الشاهد:
تحسّب محدِثي الفوضى الخلاقة لخلق نظامهم الجديد؛ بالطبع استناداً إلى دراسات عميقة عن ما وصل إليه مستوى الإدراك العربي والإسلامي، ومستوى نجاح عمليات التأهيل النفسي التي كانت جارية للمكونات أثناء فترة الجمود والتخدير والتكلُّس، كنا كلنا نعيش حالة الجمود تلك مستسلمين إلى الأنظمة بينما كانوا هم يعملون على قدمٍ وساق في عمق الجسد، حتى وصلوا إلى مستوى كافٍ من النجاحات، مطمئنة لعملية فك حالة الجمود والتكلُّس الحضاري عبر حالة الفوضى الخلاقة لخلق ما هو جديد ويتماشى مع حضارة معينة تم رسم معالمها بليل، بل بليالي، بل بسنواتٍ ظلماء، حضارة جديدة لا مثيل لها تاريخياً؛ عالم واحد تحكمه قيم وتقاليد الفئة المتغلبة عالمياً أيٍّ كانت مصادر ثقافتها ونظرتها للحياة،
لا فرق إذا كانت تلك المصادر سياسية برجماتية نفعية، أم توراتية، أم إنجيلية، أم بائسة أم خزعبلات فلاسفة القرون البائدة.
أيٍّ كانت ولكن تلك هي الحقيقة نحن سنؤمن بما يؤمن به النظام العالمي الجديد، ما دام الإصرار على اللعب بنفس الأدوات وفي نفس الملعب، ورضينا بنفس الحكام، إذاً سنرضى بالنتيجة أيٍّ كانت حتى وإن كانت ظالمة، وإلا سيتم شطبنا تماماً من اللعب في مثل تلك الدورات.
كما حدث بالضبط في انقلاب 3 يوليو 2013م الذي يُعتبَر هدفاً خاطئاً أحرزته أيديولوجية معينة. ولكن تم احتسابه وها هو حكم الصفارة أوباما يحسبه هدفاً صحيحاً؛ برغم أن الكرة لم تدخل المرمى من الأساس ولكن على الشعوب أن تقبل قرار الحكم وإلا.
نعم أيها الإخوة؛ الفوضى الخلاقة لقد انقضى ثلاث سنوات ونيف على ثورات الربيع. وتم تفتيت حالة التكلُّس والجمود الحضاري بالفعل وتركت لنا فرصة مباغتة للعب دون إعدادٍ يذكر أو كان الإعداد ليس لمثل هذا النوع من اللعب ولكن في كل الأحوال تركونا وأعطوا لنا الفرصة كاملة، وكأنهم يقولون (أرونا آخر ما عندكم). لنريكم نحن ليس آخر ما عندنا.
نعم؛ وأريناهم آخر ما عندنا فعلاً خلال عامٍ كامل من اللعب والمجهود الخارق ولكن بقوانينهم وملاعبهم وحكامهم؛ ثم ماذا حدث؟
كانت مشاركة الإسلاميين في السلطة مباراة ودية لتدرس جميع نقاط الضعف والقوة حتى تؤخذ في الاعتبار أثناء المباراة الحقيقية.
عامٌ كامل يتم دراسة كافة تشكيلات الإخوان المسلمين، كافة مراكز قوتهم، اتصالاتهم الخارجية، آلية عمل قواعدهم متابعةً دقيقةً لمشجعيهم من التيارات الإسلامية الأخرى. قياس قوة المشجعين وتنظيمهم ومستويات إدراكهم ونظرتهم للأمور وعناصر قوتهم بل وكوادرهم عام كامل في مباراة ودية. كافٍ لحصر خطط اللعب جميعها.
حتى أحداث الانقلاب العسكري في مصر 3 يوليو 2013م؛ والحقيقة حتى نستكمل ما اتفقنا عليه من رؤية الأحداث في سياق الدوائر المشار إليها في الجزء الأول من هذه السلسلة وأيضاً ما نوّهنا عنه من إسقاط قواعد فهم الواقع على النموذج المصري لأهميته في المنطقة بل وأهميته تاريخياً.
نسير هنا إلى آلية ما موقع مؤخراً بخصوص انقلاب 3 يوليو؛ مع ملاحظة أن مفهوم وتعريف كلمة انقلاب تحتاج إلى تحرير لأن ليس كل انقلاب يكون ذو نتائج سلبية، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون الانقلاب ثورة كما أننا لابد من تحديد مفهوم كلمة الثورة في ذاتها. وهذا ما سنتطرّق له عبر هذه السلسة في البحث عن الواقع.
دعونا هنا نُسلِّط الضوء على خطاب الانقلاب العسكري في مصر من خلال الدوائر المشروحة سابقاً.
فالمراقب لخطاب الفريق عبد الفتاح السيسي 3 يوليو وما تبعه من أحداث سيفهم القضية برمَّتها حيث لم يكن هناك أي ربط ولا اتساق ولا منطق فيما جاء في الخطاب من تصريحات سياسية، سواءً:
- نُصْح الفريق السيسي للرئيس.
- وحِرصه على استيعاب حالة البلاد.
- ومن الشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه نشوب حربٍ أهليةٍ وانقسام.
تلك الجمل بالتدقيق فيها يمكن وضع تصور للأحداث التالية لهذا الخطاب في كل الأحوال بل حتى لأكثر الناس تربصاً وتشاءماً لن يصل إلى توقع 1% مما حدث من أحداث بعد هذا الخطاب الانقلابية. هذا يعكس ما ذكرناه سابقاً عن أن المسألة أبعد ما تكون عن ردود أفعالٍ وقتيةٍ لحالةٍ سياسيةٍ تمرّ بالبلاد بل أعمق من ذلك، وتأتي في سياقِ تسلسلٍ زمنيٍ لتطورات الفوضى الخلاقة.
لذا دعونا أولاً نرجع لآلية التكتيك، والاستراتيجية (يُرجى الرجوع إلى الجزء الأول لشرح المصطلحين).
أولاً:
يجب وضع المفردات التي يُعاد ترتيبها أو التي تُمثِّل المكون الحالي للمشهد في المنطقة والتي ممكن أن تُنتِج عدة مشاهد أو صور والتي تم تفكيكها. لإعادة بنائها وإخراجها من حالة تركيبة الجمود التي أشرنا إليها عبر منطق الفوضى الخلاقة: فهي بالفعل ستخلق شكل الأنظمة الجديدة ولكن وفقا لطريقة تركيبها مرة أخرى كما أرادت (كونداليزا رايز) وتلك المكونات هي: (الجيوش، الشعوب، الأيدولوجيات).
بالطبع كل قسم من الأقسام السابقة لا يكفي فيه كتاباً كاملاً لسرد خصائصه ومؤثراته ومتغيراته؛ ولكن دعونا في الأول نبدأ كما قلنا من الحدث الراهن لأن الفوضى الخلاقة كان هدفها إعادة تركيب المكونات السابقة مجملة في تركيبة جديدة. ولكن أيضاً هنا وقبل استكمال التكتيكات للوقوف على حجم وحقيقة الحدث لنضع بعض القواعد التي نكررها دائماً عند الخوض في أي تحليل حتى نكن موضوعيين وهي:
1- من يضع معاني المصطلحات هو من يرسم حدود الإدراك.
2- الفوارق أصبحت كبيرة جداً بين المصطلح أو الشعار وبين مضمونه.
3- أن القوة المادية هي من تقوم بتنفيذ مضمون المعاني سواءً صحيحة أو خاطئة.
4- أن هناك فجوة أزلية بين النظرية والتطبيق أو بين القوانين والممارسات.
5- أن الأيديولوجيات والمعتقدات هي العامل والدافع الأقوى حتى الآن لبني البشر؛ فعلى سبيل المثال المصلحة العليا تُغيّر مضمونها من المصلحة العليا للوطن إلى المصلحة العليا لحاملي تلك الأيديولوجية المستخدمة للمصطلح (هام جداً).
وبناءاً على ما سبق وبالعودة إلى مكونات المشهد المفكك بعد ثورات الربيع العربي (الجيوش، والشعوب، والأيديولوجيات) (المعتقدات) وفي سياق القواعد سابقة الذكر يمكن إعادة صياغة المكونات كالتالي:
- مكونات أساسية (الجيوش، والشعوب).
- عوامل دافعة ومحفزة (الأيديولوجيات – والمعتقدات).
وهنا سنجد أنفسنا وصلنا دون أن ندري إلى أسس الدراسة الكبيرة (شكل العالم بعد 15 عاماً) المشار إليها في الجزء الأول الصادرة عن عدة مراكز بحثية أمريكية 2005م (يُرجى الرجوع إليها في الجزء الأول)؛ بل سنصل إلى ما قبلها من دراسات تُعد أحد مصادر تلك الدراسة وهي دراسات ومقالات البروفيسور (برنارد لويس) العرّاب الأمريكي يهودي الديانة أمريكي الجنسية وأستاذ قسم التاريخ في الجامعات الأمريكية الذي وضع عدة رؤى للشرق الأوسط مبنية على فكرة التفكك الأيديولوجية والطائفي لإعادة صياغة المنطقة وِفق رؤى النظام العالمي الجديد للمنطقة وِفق منطلقات توراتية معروفة.
(ليست من باب فكرة المؤامرة) بقدر ما هي وثائق تاريخية ومعلومات لا يمكن إنكارها ووثائق حكومية لازالت محفوظة في الأجهزة الأمريكية بعد اعتماد الكونجرس لها في عهد الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر.
الشاهد:
وعودة إلى الأحداث ووِفق ما ذكرناه آنفاً عن المكونات؛ الآن بعد تفكك حالة الجمود الحضاري في المنطقة والقوى الدافعة وباستحضار الحالة المصرية سنجد قضية الصراع المعلن هو صراع كاذب تماماً وكل شعاراته مفرّغة المضمون من جميع الأطراف، ويخضع إلى أحد القواعد السابقة. الفوارق أصبحت كبيرة جداً بين المصطلح أو الشعار وبين مضمونه، وهذا يتضح تماماً كما ذكرنا من خطاب الفريق السيسي عن دوافع الانقلاب وبين ممارسات الفريق السيسي نفسه عقب ذلك الخطاب فشتان بين مدلول الخطاب وبين تلك الممارسات العنيفة جداً التي كان يلزمها خطاب آخر يحمل مصطلحات تعكس مدلول الممارسات التالية له.
ولكن كما قلنا أن الفوضى الخلاقة طالت حتى المصطلحات والكلمات والمعاني. والشعارات لها علاقة فقط بما وصل إليه الشعب من خرابٍ فكريٍ ومعرفيٍ ولا علاقة لها بالممارسات؛ المهم هنا هو محاولتنا لفهم الدوافع الحقيقية حتى نضع الحلول المنطقية القابلة للتطبيق أو على الأقل تقليل الخسائر المرحلية على قدر المستطاع.
الدافع الحقيقي للانقلاب ليس كما ورد في خطاب الفريق عبد الفتاح السيسي؛ بل هو الدافع العام والقوة المحرِّكة سابقة الذكر وِفق حالة التفكيك وهي الأيديولوجيات والمعتقدات؛ وهنا يجب الإشارة أن أي إنسانٍ على وجه الأرض يحمل روح ونفس وجسد يكونوا في النهاية تركيبة نفسية شاملة يطلق عليها الأيديولوجية؛ وهي (النظارة) التي من خلالها يرى الإنسان ما يدور من حوله ويكون بالتالي ردود أفعاله، وبالتالي تكون هي الدافع والمُحرِّك له؛ واذا دققنا النظر في المرحلة التاريخية الحديثة سنجد أنه كان المستهدف الأساسي هو تلك الأيديولوجيا.
وبالفعل تم تغيير أيديولوجيات عدد مؤثر من شعوب هذه المنطقة وهو العنصر الأول من مكونات المشهد إلا أنه لم يكن كافياً لتوليد قوة كافية لتغيير المنطقة برمتها وهذا باعتراف خبراء السياسة الأمريكية نفسها كما جاء في دراسة (السيد جون بي الترمان) مدير المعهد الأمريكي لدراسات الشرق الأوسط بعنوان (الليبراليين الجدد عمالة تحت الطلب) يمكن الرجوع لها في موقع المعهد باللغة العربية.
الشاهد:
كان رأي الباحث الأمريكي أن فكرة تغيير شعوب المنطقة إلى الأيديولوجية الليبرالية مسألة غاية في الصعوبة وأن الجزء المتغير حتى الآن غير كافي وغير مؤثر ولا يمكن الاعتماد عليه؛ ولذا كان من الضروري الاتجاه نحو المكون الثاني (جيوش المنطقة)، وبنظرةٍ سريعة على هذا المكون في المنطقة سنجد أنه في الحقيقة هناك خدعة اصطلاحية اشتهرت في الآونة الأخيرة ربما من وجهة نظري فيها كمين وتزييف والدفع بعيداً عن الحقيقة وخصوصاً في الحالة المصرية.
وتلك الخديعة هي: (تحويل الشخصية العسكرية إلى أيديولوجية في ذاتها. ذات خصائص معينة ليست في غيرها وهذا تزييف كبير ويتضح ذلك من تكرار مفهوم صراع العسكر مع الإخوان أو مصطلح الحكم العسكري أو يسقط حكم العسكر... إلخ).
والخديعة هنا هي؛ أن الشخصية العسكرية هي تركيبة نفسية مثلها مثل أي تركيبة ربما تتأثر في السلوكيات بفعل وطبيعة عملها مثل الطبيب والمهندس والسائق وكافة المهن الأخرى؛ إلا أنها في النهاية تخضع إلى التراكيب النفسية الأيديولوجية التاريخية والحضارية العلمانية، الليبرالية، الاشتراكية، الإسلامية... إلخ، ولا يوجد ما يُسمّى أيديولوجية عسكرية إذاً هي لا تُمثِّل خطاً منفرداً ولا نسق فكري متكامل ذو فلسفة مميزة لمكونات الحياه ولا يختلف عن سياق الصراعات الحقيقية الحضارية.
وأدلِّل هنا ببعض الأمثلة في العصر الحديث لبعض جيوش المنطقة الجيش العراقي مثلاً؛ كانت أغلبيته تنتمي إلى فكرة القومية ويميل إلى الفكر الاشتراكي، وحزب البعث السوري مثلاً معروف انتمائه للطائفة العلوية الإيراني مثلاً الاثني عشرية. الليبي جيش قبلي تحكمه النزعة القبلية الجيش الجزائري ينتمي إلى النزعة العلمانية ذات الصبغة الفرانكفونية بسبب الاحتلال الفرنسي بل إذا تذكرنا الجيش الباكستاني قبل نجاح تحويل أيديولوجيته الجزئي كان جيشاً ينتمي إلى الفكر والعقيدة الإسلامية... وهكذا.
إذاً نستنتج هنا قاعدتان هامتان جداً وهما:
1- أنه لا يوجد ما يُسمّى أيديولوجية عسكرية ذاتية خاصة بمجموعة العاملين في المؤسسات العسكرية.
2- أنه لا يوجد جيش يتكون من أفراد ليس لهم تراكيب نفسية أو ينتمون إلى أحد الأيديولوجيات التاريخية والحضارية.
وعليه وبالعودة على ذي بِدءٍ وبنظرة عميقة إلى المؤسسة العسكرية المصرية سنجد انه أيضاً يخضع إلى هاتين القاعدتين.
وكما هو معروف في الحقبة الماضية كانت أشبه بالحرب الباردة فكانت محاولات اختراق الجيش المصري أيديولوجياً على قدمٍ وساق لصبغ عدد مؤثر من القادة بأيديولوجية تتوافق بشكلٍ طبيعي مع فكرة إعادة صياغة المنطقة؛ ولا سيما أن الجيش المصري لم يكن مثله مثل جيوش المنطقة المصبوغة أيديولوجيات يصعب تغييرها.
لذا كان قرار تفتيت تلك الجيوش وتدميرها ثم إعادة بنائها هو القرار المحسوم، وبقاء الجيش المصري مرهوناً بنجاح تغيير أنماط تفكير قادته أو العدد المؤثر منهم؛ إلا أن الجيش المصري كان له تركيبة مميزة وفريدة إلى حدٍ كبير وهو تعدد الأيديولوجيات والتراكيب النفسية داخله بحيث لم تطغى واحدة على الأخرى مما جعله متوازن إلى حدٍ كبير في حين أنه لم تتوقف المحاولات التاريخية لاختراقه بحيث تطغى الفكرة العلمانية طغياناً كاملاً كما في تركيا مثلاً.
ولم تكن تلك المحاولات خفية؛ بل أشهرها محاولات اختراق نوادي الليونز، والروتاري إبَّان عهد جمال عبد الناصر لقيادات الجيش آنذاك الذي دفع الناصر إلى إصدار قراراتٍ حاسمة لمنع تلك الاختراقات بل قام بتصفية تلك النوادي (وهذا الأمر من الأشياء القليلة التي تُحسب لناصر).
واستمرت المحاولات وزادت حدتها في عصر الرئيس مبارك؛ الذي كان يتميز بالتهلُّهل الكامل وخصوصاً آخر أيامه بل واختراق أسرة الرئيس نفسه من تلك النوادي وتم بالفعل اصطياد عدد ليس بالقليل من قيادات الجيش المصري وتغيير أيديولوجيته بشكلٍ واضح، وأصبح تصعيد القيادات والترقي يعتمد على مدى الاختراق.
الأيدولوجية للقائد؛ وبالطبع كان على الجانب الآخر تحجيم دائم وممنهج لأصحاب الميل الفطري للأيديولوجية الإسلامية بل وإحالتهم المبكرة إلى المعاش هذا لمن هو في الخدمة.
أما الالتحاق إلى المؤسسة العسكرية كان له شروط تنطلق من هذه الفكرة ولا سيما بعد توظيف فلسفة الإسلاموفوبيا والحرب على الإرهاب (الخدعة الاصطلاحية التاريخية).
الشاهد:
بغض النظر عن فكرة العمالة والاختراق الأمني لمؤسسة الجيش يمكن قبول الأحداث في سياق الفكرة السابقة؛ وبنظرةٍ أكثر عمقاً سنجد أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي هو من كان مسؤولاً مباشرةً عن تلك الفكرة خلال أواخر حكم الرئيس السابق مبارك. بمعنى أنه كان يرأس جهاز المخابرات الحربية المسؤول عن أعداد التقارير ومتابعة القادة والترشيح لقيادة مراكز الجيش المختلفة بل حتى التقارير الأمنية لراغبي الالتحاق بالكليات العسكرية... إلخ.
وهذا بالضرورة أمرٌ لافت للنظر؛ ويمكن تفهم روابط الأحداث السابقة انطلاقاً من هذه الشخصية وِفق ما ذكر من تسلسل تحليلي في هذا الجزء من رحلة البحث عن الواقع.
مع ملاحظة أن الجيش المصري كان انعكاسٍ مباشر لتعدد الأيديولوجية في نسيج الشعب المصري ومن المعروف أن تغيير أنماط التفكير لدى المجموعات البشرية يستلزمها جدول زمني من 10–30 عاماً وفق جميع الدراسات التي جاءت في هذا الشأن هذا في حالة ممارسة منهجية دقيقة لعملية التغيير ومن ثم يمكن القول أننا الآن نعيش مرحلة قياس نجاح تلك الممارسة وخصوصاً في المكون الثاني وهو الجيش المصري؛ لأن قياس المكون الأول جاء بنتائج سلبية لعملية التغيير وفق دراسة السيد جون بي الترمان.
(الليبراليين الجدد عمالة تحت الطلب):
ولكن حتى الآن يبدو أن نتائج تغيير أنماط التفكير أو تغليب إحداها داخل المؤسسة العسكرية هي نتائج إيجابية إلى حدٍ كبير بالنسبة للنظام العالمي أو المعنيين بالتغيير؛ ومن هنا يمكن وضع عدة أسئلة لعمل الترابط اللازم لهذا الجزء من الرحلة وأيضاً بمثابة محاور انطلاقة الجزء التالي من سلسلة البحث عن الواقع (3) وهي:
1- مادام شخص واحد هو من بيده تغيير تركيبة الجيش المصري وتغليب أيديولوجية معينة لأكبر جيوش المنطقة فما أهمية تلك الشخصية بالنسبة للنظام العالمي المهيمن الآن على مجريات الأمور؟ وكيف ستتعامل معه؟
2- إذا جزمنا بأن آخر خمسة عشر عاماً من حكم مبارك هي أكثر الفترات التي مرّت بمصر من حيث خلخلة المؤسسات وانتشار الفساد وهلهلة الأجهزة الأمنية فكيف يمكن تصوّر إمكانية تلك الشخصية في السيطرة البطيئة على مراكز ومفاصل المؤسسة العسكرية؟
3- لماذا أصرَّ المجلس العسكري على اختيار تلك الشخصية كوزير للدفاع خلفاً لطنطاوي والاشتراط على الرئيس بذلك؟
4- كيف يمكن تفسير انقسام الدائرة الثانية (الإقليمية) في مواقفها بالنسبة للانقلاب العسكري وحتى انقسامها حول تلك الشخصية؟
5- كيف نُفسِّر غموض موقف الدائرة الثالثة (أمريكا ونظامها الجديد) من هذا الانقلاب والقبول التدريجي له ونظرة تلك الدائرة لهذه الشخصية مع الاعتراف بالتواصل اليومي بين البنتاجون وتلك الشخصية؟
6- كيف يمكن قبول أو تفسير إعلان الدعم المطلق لإسرائيل لتلك الشخصية بشكلٍ واضح مع أن هذا الدعم من المفروض أن نتائجه سلبية وهل يُعد إشارةً واضحةً بنجاح تلك الشخصية في تغيير العدد المؤثر من قيادات الجيش إيديولوجياً؟
7- لماذا تم اختيار جماعة الإخوان المسلمين تحديداً لقيادة مرحلة العام السياسي الانتقالي الاختباري كمباراة ودية؟
8- لماذا حدث انقلاب على النموذج التونسي (مشاركة علمانية مع إسلامية مقلَّمة الأظافر) وإظهار نية إقصاء الإسلامية تماماً من المشهد برغم خطورة هذا التصور؟ وما هي مدلولاته؟
9- ما هي علاقة الانقلاب العسكري في مصر بالجدول الزمني للأحداث من منطقة الشرق الأوسط ولا سيما معضلة سوريا التي لم تحسم بعد؟
وما هي العلاقة الحاكمة بين القوى العظمى اللاعبة في المنطقة برغم اختلاف منطلقاتها الأيديولوجية. الشيوعية الروسية ممزوجة بالكاثوليكية المتوحدة مع الصين الإلحادية. والأمريكية التوراتية المغطاة بالبرجماتية العلمانية الميكافيلية متصلة بأوروبا الجديدة العلمانية وبعض الهوامش كإيران الفارسية جسد الفلسفة الشيعية المجوسية؟ وكل ذلك يأتي في سياق الدائرة الثالثة أيضاً (النظام العالمي الجديد).
10- تصريحات كيسنجر الأخيرة حول ضرورة احتلال سبع دول عربية، وكذلك تصريحات السفيرة الأمريكية السابقة في مصر عن المفهوم التوراتي للشرق الأوسط الجديد ودور إسرائيل المقبل في المنطقة وعلاقة المسيحيين الجدد في الإدارة الأمريكية بتلك الرؤية وربطها التاريخي بما ورد في الدراسة التي أسّسنا عليها هذه الرحلة (شكل العالم بعد 15 عاماً) وكذلك ربطها بمحطات تاريخية أهمها كما قلنا دراسات برنارد لويس والذي يتتبعها اجتماع تاريخي فاصل مشترك بين المجلس اليهودي العالمي في نيويورك، ومنظمة أيباك الصهيونية عام 1982م حضره رئيس الوزراء الصهيوني السابق إسحق رابين. وتم في هذا الاجتماع، الاتفاق على خطة لتقسيم 7 دول عربية. خمس منها حُدِّدَ العام 2020م للانتهاء من تقسيمها. وهي السودان والصومال والعراق وسوريا ولبنان واثنتان، حُدِّدَ العام 2030م للانتهاء من تقسيمها، وهي مصر والسعودية.
وقد اقترح رابين في ذلك الاجتماع؛ دمج المرحلتين والانتهاء من مشروع تفتيت تلك الدول عام 2025م. كيف يمكن تجاهل تناسق واندماج التواريخ وثباتها منذ الثمانينات مروراً بدراسة 2005م وليس نهاية بتصريحات كيسنجر والسفيرة الأمريكية والعديد من القيادات الأمريكية والإسرائيلية؟
وهذا بالطبع سيتم تفهمه في سياق الدائرة الرابعة.
(الكونية التاريخية والقدرية).
الإخوة الأحبة؛ إلى اللقاء قريباً في سلسلة رحلة البحث عن الواقع (3) إذا قدّر لنا الله اللقاء والبقاء.
- التصنيف: