في بلاط صاحبة الضلالة!

منذ 2013-09-29

لم يتورع معارضون لنظام مبارك وثوار سابقون عن التحالف مع المنظومة الإعلامية الجديدة، التي تنتمي لرجال أعمال يرتبطون بمبارك وحزبه الوطني ولجنة سياساته ارتباطًا مباشرًا، ويملك بعضهم عشرات المحطات التليفزيونية إضافة إلى الجرائد والمواقع الإلكترونية الإخبارية، والثائر يعلم ذلك علم اليقين وما زال يسلم لهم نفسه، ويقبل أن يكون أداة طيعة بين أيديهم.

 

لم أكن أحلم يومًا أن أكتب تحت هذا العنوان، وأصف معشوقتي الأولى التي قضيت سنوات عمري بها، غير أن ما آل إليه الحال اليوم من إمعان في صناعة التضليل الإعلامي قد فاق كل التصورات والتوقعات، حتى بات صحفيون وإعلاميون يتحدثون كذبًا ويتنفسون كذبًا، وصدق فيهم قول (جوزيف جوبلز) وزير الدعاية السياسية النازية في عهد هتلر: "أعطني إعلاميين بلا ضمير أعطك شعبًا بلا وعي".

جوزيف جوبلز الذي يعد إحدى الأساطير في مجال الحرب النفسية، وأشهر من استخدموا الإعلام في الحرب، ووظفوا الكذب الممنهج في تزييف وعي الشعب، وصاحب شعار: "اكذب حتى يصدقك الناس"، كان يهدف لتحطيم خصومه والتسويق للنازية، صحيح أنه مات واندثرت نازيته لكن مدرسته بقيت وترعرعت في العديد من الدول والمجتمعات، وللأسف انتشرت في مصر مبادئ هذه المدرسة منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير! فلم يتورع البعض عن الكذب والاستمرار فيه والمبالغة فيه حتى أصبح دأبهم وديدنهم.

إن تضليل عقول البشر يعد على حد قول باولو فريري (أداة للقهر)، باعتباره يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى: "تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة" كما يقول الكاتب الأمريكي (هربرت شيللر) في كتابه (المتلاعبون بالعقول)، وقد يكون من المنطقي ومن المتعارف عليه أن التضليل الإعلامي وتزييف الوعي غالبًا يصدر من قبل الحكومات، إلا أن الجديد الذي ابتدعته المدرسة المصرية أن يصدر التضليل من المعارضة أو بالأدق من رموز النظام السابق، التي تحولت إلى الصف المقابل ولبست ثوب المعارضة واستغلت معارضين حقيقيين لأغراضها الخبيثة، ووقع هؤلاء في براثنها بكل يسر وسهولة وتوحدت كل الجهود لإسقاط الدولة وإفشال الثورة، وبدلًا من أن تقوم الحكومة بتزييف وعي الجماهير لشيطنة المعارضة، أصبحت المعارضة هي التي تقوم بهذا الدور لشيطنة الحكومات.

لم يتورع معارضون لنظام مبارك وثوار سابقون عن التحالف مع المنظومة الإعلامية الجديدة، التي تنتمي لرجال أعمال يرتبطون بمبارك وحزبه الوطني ولجنة سياساته ارتباطًا مباشرًا، ويملك بعضهم عشرات المحطات التليفزيونية إضافة إلى الجرائد والمواقع الإلكترونية الإخبارية، والثائر يعلم ذلك علم اليقين وما زال يسلم لهم نفسه، ويقبل أن يكون أداة طيعة بين أيديهم.

إعلاميون وصحفيون معلوم بوضوح ارتباطهم بالنظام السابق واستماتتهم في الدفاع عنه، ورأينا جميعًا دورهم المخزي والمحرض على الثوار خلال أحداث الثورة (موثقة بالصوت والصورة) ومع ذلك يضع ثوار سابقون أيديهم في أيدي هؤلاء طالما التقت المصلحة ولو على حساب إفشال الثورة أو إعادة حكم العسكر أو حتى إعادة النظام السابق نفسه! كثيرا ما كنت أسمع حديث رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا وَعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» (صحيح مسلم). لكني لم أكن أتصور كيف يتحرى الرجل الكذب؟ حتى رأيته عيانًا بيانًا في الصحافة المصرية، وفي سائر وسائل الإعلام.

إنه الإعلام الأسود الذي قال عنه ألفريد براود المحلل الإعلامي في المؤسسة البريطانية، إنه نوع جديد من الإعلام ظهر بعد أحداث 11 سبتمبر وموقعة الخرطوم والتي قصد بها ما حدث عقب أحداث الشغب في مباراة مصر والجزائر في العاصمة السودانية، وكيف أدار إعلام كلا الدولتين كافة الوسائل الإعلامية للتحريض لإيجاد بديل ومتنفس عن حالة القمع التي تعيش فيها الدولتان، لو على حساب افتعال أزمة كروية.

وإذا كان أيجور بانارين عميد الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية قال يومًا إن قناة بي بي سي تلعب دور حصان طروادة في تخريب الشرق الأوسط وإشعال فتيل الحروب الأهلية الدموية فيها، فإنه لم يخبر بعد قدرة صحف وقنوات مصرية على إشعال الحرائق والفتن في سائر أنحاء الجمهورية.

كيف يزيفون الحقائق؟ يمتهن هؤلاء التحريف والتضليل، ويشير التضليل  Manipulationإلى التأثير في شخص أو مجموعة بطريقة تنطوي على التمويه والتلاعب والخديعة، ويتم ذلك بأساليب متنوعة يراد بها لي عنق الحقيقة وإخراجها عن مسارها الطبيعي.

ومن بين هذه الأساليب، ما كان يحترفه أهل الكتاب من اليهود والنصارى من تحريف كلام الله وهم يعلمون، ومن أمثلة قيام صاحبة الضلالة بهذا التحريف: قيام صحيفة (المصري اليوم) بتزوير حوار المستشار طارق البشري بصحيفة الشروق حين أكد البشري للشروق أن نسبة 50% هي المقررة لتمرير الدستور، في حين نشرت (المصري اليوم) أن نسبة 50%  تصلح لتعديل الدستور وليس تمريره، وهو عكس ما قاله تمامًا.

أو قيام جريدة (الدستور) بفبركة تصريحات لوزير العدل السابق عن الجمعية التأسيسية للدستور، وقيام جريدة (الوطن) بنشر صورة من تونس ونسبتها للسلفيين بالإسكندرية، أو نسبة تصريحات للدكتورة باكينام الشرقاوي من خلال حساب مزيف على مواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك آلاف الأكاذيب في أسابيع قليلة، وليس أدل على ذلك من اعتراف واعتذار صحفيي الدستور للرأي العام عن فبركة الأخبار.

وهناك طبعًا وسائل أخرى؛ كنسبة الخبر (المكذوب غالبًا) لمصادر مطلعة أو مصادر سيادية أو مصدر مقرب رفض البوح باسمه... فيمكنك أن تكذب كما تشاء بهذا المخرج الخبيث، وهناك التنبؤ السياسي وشغل العرافين كنشر أخبار بحرق المجمع العلمي أو اقتحام وزارة الداخلية... قبل أن تحدث بساعات قد تصل إلى 24 ساعة! ناهيك عن التحريض المباشر على العنف والدعوة لاقتحام الجهات الحكومية والاعتصام أمامها ومباركة دعوات العصيان المدني بل وتبنيها والحض عليها، والدعوة لقطع الطرق وإيقاف حركة القطارات والمترو، ومنع الحركة المرورية في أكبر ميادين العاصمة ومنع الموظفين من دخول مكاتبهم وتعطيل مصالح المواطنين، وكلها لم ندرس أو نعلم أنها من مهمات المراسلين أو الصحفيين أو الإعلاميين.

ثم هناك الكذب والتشويه المتعمد لشخصيات وجهات، وتلفيق أخبار كاذبة، أو قلب الصور والحقائق فيصير البلطجي ثوريًا والمعتدي بطلًا والمعتدَى عليه إرهابيًا، وحاملو المولوتوف ثوارًا أحرارًا، أما السخرية فهي من الأساليب المستحدثة لتضليل الرأي العام وتزييف الوعي، فتحت ذريعة الضحك والفرفشة اكذب كما تشاء ودس السم في العسل، واجتزأ الكلمات وأخرجها من سياقها، وتتبع الزلات وقص والصق! وقم بتشويه الشخصيات المحترمة والدعاة بل وازدرِد الأديان كما تريد، فأنت في بلد حرية الرأي والتعبير! وهناك حرب الشائعات التي باتت تصاحب فترات معينة كالانتخابات والاستفتاءات، فتجد شائعات مثل: ظهور جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منتقبة تقص شعر المسيحيات في المترو، ملتحون يضربون السياح على الشواطئ، سلفيون يهدمون الأضرحة، ويقطعون أذن قبطي ويقيمون الحد على طالب...

وهناك اختلاق وقائع لا أصل لها لكن تنتشر كما لو كانت حقائق، ولا مانع من مصاحبتها بمستندات أو وثائق مفبركة والفوتوشوب يقوم بعمله خير قيام، ما بين بيع قناة السويس وتأجير الأهرامات وبيع ماسبيرو، ورهن النيل، وزواج ذات التسع سنين، وتعيين البلتاجي رئيسًا للمخابرات! ومن وسائل التضليل أيضا التعتيم على الأخبار التي تبعث على التفاؤل كتعمد إغفال ذكر معلومات حقيقية يمكن أن تنسب كإنجازات للرئيس أو للحكومة من مثل:

إلغاء الجمارك على البذور والتقاوي والأعلاف مما سيعمل على تخفيض أسعار الخضروات والفاكهة واللحوم الحمراء والبيضاء، أو 25 مصنعًا إيطاليًا تنقل استثماراتها إلى مصر وتقيم 2000 مصنعًا جديدًا، أو أنه تم الاتفاق على إنشاء أول مدينة صناعية عربية على أرض مصر في مدينة العاشر من رمضان، بدأت مرحلتها الأولى بإنشاء 50 مصنعًا سوريًا، باستثمارات 7 مليارات جنيه، وتستوعب أكثر من 50 ألف فرصة عمل، أو بدء التأمين الصحي لـ5 ملايين امرأة معيلة، أو نجاح تجربة تصنيع مانع لحوادث المزلقانات بقيمة تقل عن مثيلها الأجنبي بـ 70%، أو أن العراق يوقع مشاريع بـ 600 مليون جنيه تنفذها شركة بتروجيت، ويمد مصر بـ4 ملايين برميل بترول شهريا لتكريرها في مصر، أو أن تركيا تقوم بالاتفاق على إنشاء مصنع لتصنيع 30 ألف طن قطن مصري طويل التيلة بدلا من تصديره خامً..، وغير ذلك من المبشرات التي لا تنقلها الصحف المصرية لتظل الدنيا سوداء في عيون المواطنين.

ثم يرددون أنهم في عصر الكبت وانتقاص الحريات وقصف الأقلام والتضييق على الرأي، لكن إليك الحقيقة المرة التي يعرفها خبراء الإعلام، أن التضليل الجماهيري لا يوجد إلا إذا أصبحت لدى الجماهير إرادة اجتماعية وحرية، وأنه لا حاجة للتضليل في وجود اضطهاد أو مضطهدين، فلماذا يلجأون للتضليل إذا كان هناك تضييق واضطهاد؟ ولماذا يزيفون الحقائق ويروجون الإشاعات إذا كان هناك وقائع حقيقية يمكن أن تثبت كلامهم؟ إن أي مجتمع ينتشر فيه التضليل الإعلامي هو مجتمع منقسم بين فئة نخبوية قليلة جدًا تسعى للسيطرة عبر آليات التضليل وفئة أخرى من جماهير الشعب التي تعلم علم اليقين أن هؤلاء يكذبون..

لكن ما زال لدى بعضهم القابلية للتصديق، فهم من نوع المتلقي السلبي الذي يشتري الجريدة فيقرأ أخبارها الكاذبة ثم يطيح بها بمد ذراعه قائلا باستنكار: "كاذبون أخبار كلها كذب في كذب"، ثم يعود في اليوم التالي ليشتريها مرة أخرى، أو يشاهد الفضائيات ويستمع لفلانة التي بكت على مبارك أو فلان الذي سب الثوار، ثم يلبسون اليوم ثوب الثورية فيقول "كاذبون، فلول"، ثم يعود لمشاهدتهم في اليوم التالي..!

يجد شائعات على الفيس بوك وتويتر وهو يعلم أنها ربما تكون شائعات، فيسهم في نشرها ثم يتبين كذبها فتأتي شائعات أخرى من نفس المصادر فلا يكلف نفسه عناء التأكد من صحتها، ولا يحدث نفسه أن كل ما نشره مسبقا ظهر كذبه بل يعود للتصديق مرة أخرى، كل هذا يحدث في بلاط صاحبة الضلالة.

 

 

أمل خيري