الربانيّة في العشر من ذي الحجة

منذ 2014-09-27

التعرّض لنفحات رحمة الله يكون بكثرة الدعاء والسؤال في هذه الأوقات الفاضلة باعتبارها أوقات إجابة، كما أنها فرصة للتقرب إلى الله تعالى بصنوف العبادة التى ينال بها العبد الأجر وشرف القرب من ربه سبحانه وتعالى.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

أيّامٌ قلائل ويهلّ علينا هلال شهر ذي الحجة، وبه يَحلُّ علينا موسمٌ من مواسم الخير المتجدّدة، هذا الشهر الميمون المبارك الذي يزخر بفريضة من أعظم فرائض الدين، وهي فريضة الحج بمناسكها ومواقفها الإيمانيّة والتعبديّة، وبمعانيها في التضحية والفِداء والجهاد والمجاهدة.

وحياة المسلم تمتاز دائماً بأنها زاخرةٌ بالأعمال الصالحة، والعبادات المشروعة التي تجعل المسلم في عبادةٍ مُستمرةٍ، وطاعة دائمة، وعملٍ صالحٍ، وسعيٍ دؤوبٍ إلى الله عز وجل، دونما كللٍ أو مللٍ أو فتورٍ أو انقطاع. والمعنى أن حياة الإنسان المسلم يجب أن تكون كلَّها عبادةٌ وطاعةٌ وعملٌ صالحٌ يُقربه من الله تعالى. وها نحن نتعرض لنفحة من نفحات الله فى أيامِ دهره وهي أيام العشر من ذي الحجة. عَنْ مُحَمَّدِ ابن مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَش?قَوْنَ بَعْدَهَا أَبَداً» (رواه الطبراني فى الكبير).

والتعرّض لنفحات رحمة الله يكون بكثرة الدعاء والسؤال في هذه الأوقات الفاضلة باعتبارها أوقات إجابة، كما أنها فرصة للتقرب إلى الله تعالى بصنوف العبادة التى ينال بها العبد الأجر وشرف القرب من ربه سبحانه وتعالى.

فضل الأيام العشر من ذي الحجة:

وردت أحاديث كثيرة توضح فضل هذه الأيام منها، أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

وفي رواية عند الطبراني في الكبير: «مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ». وفي رواية عند الدارمي: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عز وجل وَلاَ أَعْظَمَ أَجْراً مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى».

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم قد استقر عندهم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعظم الأعمال، فقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الصالح في هذه الأيام هل يسبق في الأجر والدرجة تلك الفريضة الكريمة السامية؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد لا يسبق العمل الصالح في هذه الأيام إلا في حالة واحدة، وهي أن يخرج المجاهد بماله ونفسه فينال الشهادة ويفقد المال ولا يرجع بشيء.

حاجتنا للربانيّة:

إن الأمة تمرُّ في هذه الأيام بمخاض يُبشّر بميلاد فجر جديد لها، تُشرق فيه شمس عزّتها وكرامتها، الأمر الذي يُوجب علينا مزيداً من الربانيّة وحسن الصلة بالله، حتى نؤهل لاستحقاق نصر الله عز وجل وتأييده. بمعني أننا بشكلٍ عام وفي هذه المرحلة بشكلٍ خاصّ نحتاج إلي مزيد من القرب إلى الله، والاستعانة به سبحانه، والتذلّل إليه فهو المستعان وعليه التكلان، نستمدُّ منه سبحانه زاد المسير إليه، نقبل عليه بقلوبنا وجوارحنا. وعندئذٍ وعلي طريق العبادة نقوى على قيادة الناس الى الله، مُستمدين القوة من خالقنا سبحانه، القيادة الربانيّة التي نتمثّل فيها القدوة، ونتعبّد بها لخالقنا سبحانه وتعالى. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

واجباتٍ عمليّة لإحياء الربانيّة خلال العشر من ذي الحجة:

من هذا المنطلق نعرِض مجموعة من الأعمال والبرامج العمليّة يقوم بها المسلم خلال هذه الأيام المباركة، ويدعو غيره للعمل بها، فيتّسع نطاق الطاعة ويقبل الناس على الله في هذه الأيام المباركة، عندها تتنزل رحمات الله علينا وعلى بلادنا وأهلينا:

1. الاستعداد لها واستحضار النّية الصالحة للاجتهاد في الطاعة خلالها، وقبل ذلك التوجُّه إلى الله عز وجل بالتوبة النصوح، والإنابة لله سبحانه بأن يُطهّر القلب ويغفر الذنب ويقبل التوب.

2. الحرص علي صلاة الجماعة في وقتها خلال هذه الأيام ولاسيما في المسجد مع الحرص على تكبيرة الإحرام، ثم الحفاظ علي السُنن الراتبة قبل وبعد الصلوات المفروضة "12 ركعة". عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» (رواه بن ماجه).

3. المحافظة علي صلاة النوافل يومياً ولاسيما "الضُحى، الوتر، قيام الليل". ففى الحديث القدسي، قال الله تعالى: «مَن عادى لي وليِّاً فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أَحبَّ إليَّ مما افترضتُهُ عليه، وما يزال عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها، وإنْ سألني لأُعطِيَنَّه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه...» صدق رسول الله فيما بلّغ عن ربه.

4. ختم القرآن تلاوة بحد أدنى مرة واحدة خلال هذه الأيام الطيبة "بمعدل 3 أجزاء يومياً".

5. صيام ما تيسّر لك من هذه الأيام المباركة، بحدٍ أدنى الإثنين والخميس ويوم عرفة، ومن قدّره الله على صيامها جميعاً واجتهد في ذلك، فأجره على الله وذلك من فضل الله عليه.

6. المداومة علي الذكر والدعاء خلال هذه الأيام، ولا سيما المحافظة على أذكار الصباح والمساء، والحرص علي أذكار الأحوال، وختام الصلاة، وذكر الله المطلق "1000 ذكر يوميّاً كحد أدنى" موزعاً بين استغفارٍ وتسبيحٍ وتحميدٍ وتهليلٍ وتكبير، مع الإكثار من الصلاة علي النبي محمد صلي الله عليه وسلم.

7. أن يستحّضر كل مسلم ومسلمة "من غير الحجاج" فريضة الحج ويُعايش الحجاج في مناسكهم المختلفة وشعائرهم وكأنه بينهم. ويستشعر بوجدانه معاني التضحية والفداء والبذل وحسن الامتثال لأمر الله عز وجل.

8. الحرص على الدعاء خلال هذه الأيام، مع التماس أوقات الإجابة عقب الصلوات المفروضة، وعند كل سجود، وعند الفطر بعد صيام، وفى أوقات السحر، ولا ننس في هذه الأيام الدعاء للمسلمين عامة بالنصر والتمكين ولإخواننا فى سوريا وفلسطين وبورما خاصة وسائر بلاد المستضعفين من المسلمين أن يرفع عنهم الظلم والبلاء وأن يُفرج عنهم كربهم جميعاً.

9. الإنفاق في سبيل الله، ولا سيما صدقة السِرّ فإنها تُطفئ غضب الربّ، فليحرص كل منها أن يُحدِّد جزءاً من ماله يُخرجه في أحدِ مصارف الخير وأبوابه، وهي كثيرة.

10. الحرص على عِبادة المُكثّ في المسجد بين الفجر والشروق بحد أدنى مرتين خلال هذه الأيام. ففي الحديث: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

11. إحياء سُنّة الأضحية، والعزم عليها لما فيها من فضل ولها من أجر. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً» (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

12. أن يحث المسلم أهله وأولاده على استقبال هذه النفحات والتعرّض لها، ومساعدتهم علي فعل الخير وأداء الطاعة في هذه الأيام، فتحيا الربانيّة فى بيوتنا، وأن يتحرّك المسلم بهذه التوجيهات والوصايا العمليّة في مُحيط عمله بين زملائه، وبين جيرانه لحثّهم علي ذلك أيضاً، "والدال على الخير له مثل أجر فاعله". حتى تعمّ الفائدة وتتّسع رقعة الطاعة في مُحيط الأمة، ونُحيي بذلك معاني الربانيّة في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا وأُمتنا.

اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسِرّ والعلن، وكلمة الحقِّ في الرضا والغضب، واجعلنا ممن يتعرّضون لنفحات هذه الأيام الطيبة.


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
 

 

محمد حامد عليوة