دراسات في الشريعة: الحج مدرسة

منذ 2013-10-06

«مَنْ حج لله فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه» (أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، رقم الحديث: [1424]، ومسلم كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة، رقم الحديث: [2404]).


رِجَالاً}: أي "مشاة" على أرجلهم، "والضامر هو البعير المهزول الذي أتعبه السير" (أحكام القرآن؛ للقرطبي، [12/139]).

فيتعب المسلم نفسه ويجهد دابته ابتغاء رضوان الله، والحج بذلك هو نوع من أنواع الجهاد، وبذلك جاء الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة» (أورده المنذري في الترغيب والترهيب، [2/105]، وقال: رواه النسائي وإسناده حسن).

وقد ضمن الله تعالى الحاج كما ضمن المجاهد، فقد أخرج أحمد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج من بيته إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازياً في سبيل الله عز وجل، ورجل خرج حاجاً» (أخرجه أحمد في المسند؛ [2/466]).

ولم يستفد من هذا الدرس مَنْ إذا اعترضته الصعاب، أو المشاق تقاعس عن أداء ما وجب عليه، واعتذر عن ذلك؛ بأن هذا صعب، وهذا شاق، والطقس حار أو بارد، ونحو ذلك.

3- الأمة الواحدة:

أمة المسلمين واحدة مذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام، إلى أن يرث عز وجل الأرض ومن عليها، جمع بينهم توحيد الله وعبادته، فلم يعد شيء يقدر على التفريق بينهم؛ لا جنس ولا شكل ولا لون ولا لغة ولا بلد، وها هم المسلمون على تنوعاتهم الكثيرة في هذا الموسم العظيم يجمعهم موقف واحد لعبادة الله العلي الكبير، وفي هذا الموقف الكبير أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الجليل؛ فعن جابر رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: «يا أيها الناس؛ ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟
» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فليبلغ الشاهد الغائب» (أخرجه أحمد في المسند، [5/411]، وابن المبارك في المسند، [1/147]، قال البيهقي: "في إسناده بعض من يجهل").

وهذه أمانة؛ أمانة البلاغ حمَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من بعده، فما قام بهذه الأمانة على وجهها مَنْ تقاعس عن تبليغها أو عمل بما يخالفها، وما فقه هذا الدرس مَنْ فرَّق بين المسلمين في نظرته إليهم أو تعامله معهم على أساس أشكالهم أو ألوانهم أو بلدانهم أو أجناسهم أو لغاتهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ عاش لنفسه دون أمَّته، وهو يرى إخوانه المسلمين وهم يُتخطفون وتنتقص أراضيهم من أطرافها، وهو مع ذلك لا يشعر بضر أو ألم إلا ما أصابه هو أو أهله الأقربين.

4- تعظيم الشرع والتسليم له:

المسلم معظِّم للشرع مقدِّم له على كل شيء؛ على الآراء والأقوال، على العقول والأفهام، على الرجال، على النفس والمال، يرى الشريعة معصومة، يقبل منها كل ما جاءت به وثبتت نسبته إليها؛ حتى لو لم يستوعب ذلك عقله، أو لم تتبين له في ذلك الحكمة، ويظهر ذلك المعنى جلياً في الحج، يظهر في كل شعيرة من شعائره، وأظهر ما يكون في ذلك تقبيل الحجر الأسود، فالحجر الأسود حجر، والحجر لا يضر ولا ينفع، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله، والمسلم المتبع لأجل ذلك يقبِّل الحجر ويحرص عليه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وثقةً فيه.

وقد سجَّل هذه القضية الصاحب الجليل والخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يقوم بهذا العمل فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك" (أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود، رقم: [1494]).

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي قول عمر هذا: التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم تُعلم الحكمة فيه" (فتح الباري؛ [3/463]).

وهذا الدرس لم يفهمه الكثير ممن قدَّم عقله وفكره وهواه، أو ممن قدَّم رغبته وشهوته، أو ممن توقف في امتثال الأمر أو النهي الثابت بالدليل حتى يعلم العلة أو الحكمة.

5- البراءة من الشرك وأهله:

من الأمور المحكمة التي دلّت عليها النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة، وجوب البراءة من الشرك وأهله، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].

قال ابن كثير رحمه الله: "{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينكم وطريقتكم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا ما دمتم على كفركم، فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد" (تفسير ابن كثير؛ [4/ 349]).

وقد كرَّست شعائر الحج المتعددة هذا المعنى، فخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في الموقف بعرفة والدفع منها، وكذلك الخروج من المزدلفة، وعلَّل ذلك بقوله: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك
» (مسند الشافعي؛ [1/369]).

فعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف هديهم. وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم» (أخرجه البيهقي في السنن؛ [5/125]).

هذا درس عظيم في بغض المشركين والبراءة منهم ومن أفعالهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم، وما فَقِهَ هذا الدرس مَنْ يتشبه بالمشركين في العبادات أو الأخلاق والسلوك أو المظهر أو الزي واللباس؛ لأن من البراءة ترك التشبه بهم، والقصد إلى مخالفتهم.

6- مجانبة الكِبر والبعد عنه تواضعاً لله تعالى:

المسلم متواضع في غير ذل، عزير في غير كِبر، فإن الذل والكِبر من الأخلاق الذميمة التي تأباها الشريعة والنفوس الشريفة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر» (أخرجه مسلم، كتاب الإيمان؛ باب: تحريم الكِبر وبيانه، رقم: [131]).

والحُجاج في هذا المجمع العظيم في يوم عرفة، ما بين رئيس ومرؤوس، وأمير ومأمور، وملك ومملوك، جميعهم في لباسٍ واحد إزار ورداء، رؤوسهم عارية، أيديهم مرفوعة، ألسنتهم تلهج بالذكر والدعاء وطلب المغفرة، همُّهم الفوز بالرضوان ودخول الجنان؛ لا التعالي أو التكبر على عبيد الخالق الديان، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يترجم ذلك عملاً في تلبيته؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: "كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيلك حجاً حقاً، تعبُّداً ورقّاً» (قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار مرفوعاً وموقوفاً).

وهذا درس لم يفقهه مَنْ يمشي على الأرض يدكها برجله دكاً، أو من يصعِّر خده للناس تعالياً وكبراً.

7- تزكية النفوس وتطهيرها:

حضت الشريعة المسلم على تزكية نفسه وتطهيرها، وتحريرها من شح النفس وبخلها، فأمرت بإعطاء الفقراء والمساكين حقهم من الزكوات، وحثت على الإنفاق عليهم والإحسان إليهم، ووعدت على ذلك الأجر الجزيل، وفي الحج يحتاج الناس إلى الزاد الذي به قيام النفوس، وفي هذا الموقف يأمر الله الحجاج أن يُخرِجوا من أموالهم وأزوادهم ما يطعمون به الفقير؛ من النسك الذي ذبحوه تقرُّباً إلى الله تعالى، فقال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج من الآية:28].

فيفعل الحاج من ذلك ما يفعل طعمةً للفقراء والمساكين، وتقوى لله عز وجل، قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج من الآية:37].

وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر النفقة في الحج، فقال صلى الله عليه وسلم: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» (قال المنذري: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي، وإسناد أحمد حسن" الترغيب والترهيب، [2/112]).

وهذا الدرس لم يفهمه مَنْ يبخل على قريبه أو جاره الفقير من المسلمين فيمنع عنهم ما ينفعهم أخذه، ولا يضره عطاؤه. ولم يفهمه أيضاً مَنْ يقدِّم في نسكه العجفاء أو العرجاء أو ذات العيب، فإنما ذلك شيء يُقرِّبه الإنسان لربه، والإنسان عندما يقرّب لحبيب أو يهدي لصديق؛ فإنه يختار من الأشياء الجيد النفيس.

8- منافع الدنيا والآخرة:

الحياة الدنيا هي معبر المسلم إلى الآخرة، وهو محتاج إليها في تحقيق مراده من الفوز بالآخرة، فالمسلم على ذلك لا يهجر الدنيا ولا يعتزلها متقوقعاً في زاوية أو ناحية، وإنما هو يكون في وسطها يستخدمها ولا تستخدمه، يطوعها لتحقيق الغايات الشرعية، ويأخذ منها ومن بهجتها ما يعينه على ذلك، والحج وهو من أعظم العبادات، وأحد أركان دين الإسلام، لم يُمنع المسلم من الانتفاع فيه بمنافع الدنيا، وفي هذا جاء قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَات} [الحج من الآية:28].

قال ابن كثير رحمه الله: "قال ابن عباس: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} قال: "منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدن والذبائح والتجارات، وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة" (تفسير ابن كثير؛ [3/217]).

فمن اعتزل الناس وتخلى بزعمه للعبادة، ولم يشارك أمته في السعي والعمل والجهاد ومدافعة الأعداء؛ لم يتحقق له هذا المعنى من الحج، وكذلك مَنْ كانت الدنيا همّه بالليل والنهار، حتى أضر ذلك بدينه، فإن الآية قرنت شهود المنافع بذكر الله عز وجل.

9- إكمال الدين:

يوم حج النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته نزل قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة من الآية:3].

في هذا اليوم يوم عرفة من العام العاشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً، وهذه منة عظيمة من الله على عباده، وكلما وقف المسلم على عرفة تذكر هذا الفضل، وشكر الله على جزيل فضله وإنعامه، وعاهد الله على أن لا يُؤتى الإسلام من قِبَله، فإن الله لم يحوجه بعد إكمال الدين إلى غيره؛ قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة: "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيٍ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرَّعه، وكل ما أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف" (تفسير ابن كثير؛ [2/113]).

فهل كمل الدين عند مَنْ رنا ببصره إلى شرق أو غرب أو إلى شمال أو جنوب، وهو يستورد الآراء والأفكار والعقائد؟!

وهل فقه هذا الدرس وانتفع به مَنْ راح يبتدع في العبادات، أو يغلو فيما شرع الله له، أو حكم بغير ما أنزل الله في الأعراض والدماء والأموال.

10- الحج فريضة العمر:

العبادات مع الزمن أنواع، فمن العبادات ما هو فريضة العام كصوم شهر رمضان، ومنها ما هو فريضة الأسبوع كفريضة الجمعة، ومنها ما هو فريضة اليوم، وهي الصلوات الخمس، ومنها ما هو فريضة العمر، وهو الحج فلا يجب في العمر كله إلا مرة واحدة.

وقد يحاول الإنسان أن يبحث: لِمَ فُرض الحج مرة واحدة في العمر؛ أهو من أجل التيسير؟

قد يكون؛ لكن المؤكد أن الحج قد اشتمل على دروس كثيرة وتعاليم جليلة، لو فقهها المسلم وعمل بها لأغنته، فلم يحتج إلى الحج مرة أخرى؛ إذ كانت الأولى تكفيه لو أداها كما يحب ربنا ويرضى، ويبقى المسلم مندوباً بعد ذلك إلى تكرار الحج مرةً ومراتٍ حتى تتأصل عنده تلك المعاني وغيرها مما اشتمل عليه الحج؛ حتى تصير كالملكة للنفس، فيفيض الله عليه من رحمته ويفتح عليه من كنوزه.

ثانياً: المقصود بالحج هو الله:

فالحج لُحْمَته وسُدَاه توحيد الله والإخلاص له، وكذلك جاء التعبير في الحديث: «مَنْ حجَّ لله» فهو يحج لله شاهداً بذلك على توحيده، والتوحيد في هذه العبادة ملحوظ في ابتداء فرضه، كما هو ملحوظ في أدائه عملاً من بدايته إلى نهايته، قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26].

قال القرطبي رحمه الله: "وفي الآية طعن على مَنْ أشرك من قُطَّان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم" (تفسير القرطبي؛ [12/37]).

والمشركون ممنوعون من قربان البيت الحرام؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة من الآية:28].

وبالتوحيد يبدأ الحاج نسكه، فيقول ملبياً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».

ويكثر المسلم من الذكر والتلبية، ومن قول: «لا إله إلا الله» ويُكبِّر مع رمي الجمار: «الله أكبر» حتى إذا أراد المسلم العودة إلى بلده بعد نهاية حجه جاء البيت طائفاً مودعاً مكثراً من الذكر والدعاء والتهليل والتكبير، فبالتوحيد بدأ، وبالتوحيد ينتهي.

وبعد التوحيد يأتي الإخلاص؛ بأن يريد الحاج بتلك العبادة وجه الله لا يريد رياءً ولا سمعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة» (أخرجه الضياء في المختارة؛ [5/80]).

ثالثاً: مضيعات الحج ومفسداته:

"الرفث والفسوق مانعان من الموانع التي تحول دون حصول الأجر على النحو المأمول، فأما الرفث فالمراد به الجماع وهو مفسد للحج أو ما دونه من المباشرة والتقبيل، أو التكلم به بحضرة النساء" (انظر: تفسير ابن كثير؛ [1/ 237]).

"وأما الفسوق فالمراد به المعاصي" (انظر:أحكام القرآن؛ لأبي بكر الجصاص، [1/385]).

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هنا موافق لقول الله عز وجل: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجّ} [البقرة:197].

قال أبو بكر الجصاص: "فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان والفَرْج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي.
والمعاصي والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام؛ فإن الله نَصَّ على حظرها في الإحرام تعظيماً لحرمة الإحرام، ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقاباً منها في غيرها" (انظر:أحكام القرآن؛ لأبي بكر الجصاص؛ [1/384]).

فجلال الحج وعظمته لا يناسبه وقوع الحاج في تلك الرذائل، فيمتنع الحاج من ذلك وينتهي عنه تطهيراً لنفسه، وتزكية لها، وصعوداً بها في مراقي العلا، يقطعها عن عوائدها، ليخرج الحاج من حظ نفسه وداعيتها، إلى تكميل نفسه بالخُلُق الرفيع العالي والسلوك الحسن.

رابعاً: جائزة الحاج:

ويا لها من جائزة! غفران الذنوب جميعها، فيرجع المسلم بعد أداء حجه على الوجه الذي يحبه الله ورسوله وما عليه خطيئة، ويرجع إلى داره بعدما هاجر وجاهد وتبرأ من المشركين، وعطف على الفقير والمسكين، وحاله من البعد عن الذنوب والآثام كحاله يوم ولدته أمه، صفحة بيضاء نقية لم تكدرها أو تشبها شائبة، قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «رجع كيوم ولدته أمه» أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات" (فتح الباري؛ [3/ 382-383]).

فما أعظمها من جائزة، جائزة لا تُقدّر بملء الأرض ذهباً، حيث أَمِنَ غائلة ما فات، فليستعدّ الحاج لما يستقبل من الأيام، وليحرص على نقاء صحيفته: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراّ} [آل عمران من الآية:30].

وقد تبين مما تقدّم أن الحج مدرسة، مملوء فوائد وعبر، وما ذكرت منه لم يكن إلا بعض القطوف الدانية، والقطوف كثيرة مهيأة ومزينة، وهي تنتظر مَنْ يقطفها.

 

المصدر: صيد الفوائد

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.