التأثيرات المتشابكة
وعلى خلاف مواقف أخرى كان فيها الموقف التركي يراوح مكانه، سواء في ليبيا أو سورية مع الأيام الأولى من ثورتيهما؛ إلا أن تركيا دعمت على المستويين الرسمي والشعبي حكومة الدكتور مرسي المنتخبة..
ولفهم الموقف التركي يجب أن نقوم بتحليل ملابسات هذا القرار من الناحيتين الداخلية والإقليمية، وكذلك مقابلته بكل من المبادئ والمصالح للدولة التركية، وتداعيات هذا القرار التركي على المستويين الداخلي والإقليمي.
فعلى المستوى الداخلي ظل شبح الانقلابات يطارد سياسيي تركيا منذ نشأة دولتها القومية الحديثة على يد أتاتورك، ومثّلت الانقلابات العسكرية معلماً أساسياً من معالم السياسة التركية، وكانت بمثابة سلسلة من الكوابيس المتواصلة لمسيرتها السياسية في أعقاب انهيار الخلافة؛ فمنذ ذلك الحين ظل الجيش التركي حامياً للعلمانية ووصياً على الحياة السياسية، وقام بعدة انقلابات على السلطات الشرعية المنتخبة، إضافة إلى مؤامرات واغتيالات لم يكن الجيش بعيداً عنها، وكان آخرها مؤامرة أرجينيكون الفاشلة التي خطط لها ضباط من الجيش التركي، ويحاكم العسكر الآن عليها وعلى تهم أخرى لم تسقط بالتقادم، وذلك كان أحد أسباب الحسم والوضوح والحدة في الموقف التركي تجاه انقلاب 3 يوليو، فالأتراك، أكثر من أي شعب آخر في العالم، يستطيعون تحديد الانقلاب فور رؤيته.
كما أن الظروف التي أحاطت بانقلاب الثالث من يوليو في مصر، تم الإعداد لها من أول يوم من حكم مرسي بتظاهرات واعتصامات شلّت حركة الحياة في مصر، ووصلت ذروتها في إنشاء حركة تمرد المصرية.
وبالرغم من شعبيته التي لم يحظَ بها أي حزب في التاريخ التركي الحديث، إلا أن القلاقل لم تكن بعيدة عن حزب العدالة والتنمية، ونشبت نيران الربيع العربي في الثوب التركي الذي ظل ناصعاً لعشر سنوات؛ فوقعت عدة اعتصامات وتظاهرات لم تخلُ من الدماء في ميدان تقسيم، والتي اندلعت شرارتها بإزالة عدة أشجار من الميدان، ما لبثت أن اختلطت بتظاهرات أخرى متعلقة بهوية الدولة التركية بعدما قامت الحكومة بتقنين شرب الكحول في المقاهي بعد العاشرة، وكذلك منع القبلات في وسائل المواصلات، لتختلط أزمة هوية الدولة التركية بالتظاهرات التي اندلعت عبر دول الربيع العربي، والتي اشتبكت في النهاية مع حملات التمرد التي خُطط لها أن تندلع في مصر وتونس وتركيا بالتزامن، ما يعني أن الأحداث في الربيع العربي باتت وثيقة الصلة بالداخل التركي، ولم يملك أردوغان سوى أن يكون حاسماً وقوياً تجاهها منذ اليوم الأول.
فقد حاول المتظاهرون في تركيا أيضاً أن يعتصموا في ميدان تقسيم تأسياً بما حدث في ثورة يناير المصرية لقلب النظام التركي المنتخب، ومرَّ النظام بأوقات عصيبة بعدما حظيت تلك التظاهرات بتغطية دولية من قنوات عالمية انتقدها أردوغان بشدة بسبب ازدواجيتها وعدم تغطيتها تظاهرات لندن والبرازيل التي تزامنت مع تظاهرات تقسيم بالقدر ذاته، حيث كانت كبرى القنوات العالمية تنقل بثاً مباشراً من ميدان تقسيم، فيما بدا أنه مؤامرة على الداخل التركي، لا سيما بعد القبض على عدة أجانب من ضمنهم روسيون وإيرانيون ومعظمهم غربيون متورطون في تلك التظاهرات، حسب بيانات الشرطة التركية، لكن استطاع أردوغان بحسمه وخبرته القيادية المرور من تلك الأزمة بسلام.
لكن على الإطار الأوسع فقد غذّت حروب الهوية في الربيع العربي أزمة الهوية الداخلية لتركيا، والتي تعود إلى تاريخ انهيار الخلافة العثمانية، وباتت الأوضاع أكثر ارتباطاً واتساقاً مع وصول الإسلاميين إلى واجهة السياسة في كل من مصر وتونس وليبيا والمغرب، ليتم عقد مقارنة مع النظام الحاكم في تركيا، لتشتعل تظاهرات تقسيم في تركيا حول قضايا متعلقة بالهوية أيضاً، وفيما بدا أنها محاولة لإسقاط الإسلاميين في كل تلك الدول، ولم تخفِ حركات علمانية نيتها إسقاط الحكومات (وما وصفته بالفاشية الإسلامية) في كل من تركيا ومصر وتونس في يوم واحد، ما أكد أن أردوغان وحزبه جزء أصيل من حروب الهوية في المنطقة.
أما على الجانب الإقليمي فإن نظام العدالة والتنمية رأى في النظام المصري بقيادة الدكتور مرسي شريكاً مناسباً يستطيع الالتحام معه لإنشاء محور جديد في المنطقة يعتمد على الديمقراطية وعلى الهوية الإسلامية معاً، وكذلك من أجل مواجهة قضايا المنطقة العالقة منذ سنوات وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ حيث باءت محاولاته للتلاحم مع نظام مبارك بالفشل وحُرِّم عليه معبر رفح، لا سيما بعد تصاعد وتيرة الصراع مع الجانب الصهيوني إثر سقوط الشهداء الأتراك في حادثة أسطول الحرية؛ فوجدت تركيا في مصر شريكاً محتملاً في عهد مرسي يستطيع تطويق الكيان الصهيوني بتعاون اقتصادي وعسكري موسع، وقامت بإلغاء مناورة نسر الأناضول مع تل أبيب واستبدلتها بمناورة بحر الصداقة مع الجانب المصري، إضافة إلى عدة اتفاقيات على مختلف المستويات، منها صفقات عسكرية، كانت تهدف كلها إلى تقوية ذلك المحور ليصل إلى مرتبة التحالف الاستراتيجي.
لذلك؛ وانطلاقاً من كل هذه المبادئ والمصالح على المستويين المحلي والإقليمي؛ كانت تركيا حاسمة في رفضها الانقلاب العسكري، بل اتخاذها خطوات تصعيدية ضد النظام الانقلابي، وتحريضية للمنظمات الدولية وللغرب لإدانة الانقلاب بأوضح العبارات، وظلت تركيا واحداً من أهم داعمي شرعية الدكتور مرسي، كما أن ما تلا ذلك من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في فض اعتصامي رابعة والنهضة بقوة؛ أجّج الداخل التركي، وانتشرت الفعاليات التي ترفع شعارات رابعة في كل المناطق التركية، بل بكى أردوغان نفسه في برنامج تلفزيوني أثناء قراءة خطاب القيادي الإخواني محمد البلتاجي يرثي فيه ابنته، ونشر على نطاق واسع.
أما على الجانب الاقتصادي؛ فقد استثمرت تركيا بقوة في النظام المصري، ووقّعت مع نظام مرسي 27 اتفاقية تعاون في مجالات مختلفة، منها المواصلات والتعليم والصحة، كما أنها أقرضت ومنحت مصر عدة مليارات من الدولارات في هيئة مساعدات نقدية وعينية لتغطية عجز موازنتها ومحنتها الاقتصادية المزمنة بعد الثورة وتآكل احتياطيها النقدي، لكن في ظل الانقلاب العسكري وما تلاه من تلاسن بين الحكومتين، فإن تلك الاتفاقيات مهددة بالتجميد، وكذلك أي تعاون مستقبلي طالما بقي من وصفهم أردوغان بالانقلابيين في حكم مصر، وقد بدأت بوادر ذلك التوتر السياسي تنعكس على المجال الاقتصادي، حيث أوقفت تركيا شحن سيارات جمع قمامة كانت تعهّدت بإرسالها لمصر، وذلك بسبب عدم اعترافها بحكومة الانقلاب الحالية، كما أوقفت مصر بدورها استيراد بعض المنتجات التركية، كما شن التلفاز المصري حملة لمقاطعة المسلسلات التركية.
أما عن تداعيات ذلك الموقف التركي من الانقلاب العسكري المصري، فإنه داخلياً أدّى إلى زيادة ملحوظة في التأكيد على الهوية الإسلامية للحزب، لا سيما مع حضور أردوغان نفسه عدة فعاليات في عدة مدن تركية تدين الانقلاب العسكري وترفع شعارات رابعة العدوية، إضافة إلى عدة اعتصامات أخرى صلى فيها المعتصمون وقنتوا من أجل ضحايا مجازر فض الاعتصامات، وعلت النبرة الإسلامية بصورة واضحة على مثل تلك الفعاليات، وهو ما قد يزيد من وتيرة ولهيب الاحتكاك مع المعارضة العلمانية في البلاد، لا سيما مع الموقف التركي المؤيد للثورة السورية، الذي يتصادم مع مواقف المعارضة التي ترى أن حكومة أردوغان تسقط البلاد في مستنقع الخلافات المذهبية التي تضرب المنطقة، والتي طال تركيا لهيبها في انفجار مدينة ريحانلي بالقرب من الحدود السورية، والذي أسقط 40 قتيلاً تركياً في مايو الماضي.
كما أن تركيا فقدت حليفاً مهماً وهو نظام مرسي في إطار سعيها لزيادة نفوذها الإقليمي، في ظل تضارب مصالح القوى الإقليمية التي باتت تتشكّل في ثلاثة أطراف رئيسية: إيران، ومجلس التعاون الخليجي، والكيان الصهيوني؛ فمصر بعد الثورة ظلت تتخاطفها الأجندات الإقليمية والدولية لكي تسير في فلكها، لكن مصر اختارت في ظل حكومة مرسي الطريق الأصعب وشقت طريقها لتحديد هويتها الإقليمية، والتي تقاربت للغاية مع رؤية حزب العدالة والتنمية التركي، لكن فشل مرسي وحكومته في ترتيب أولوياته والبدء بالتطهير الداخلي وإعادة ترتيب بيته؛ أفرز ذلك المشهد الانقلابي الذي قلب الأوراق ولم يصب سوى في مصلحة الكيان الصهيوني في المنطقة.
فالكيان الصهيوني كان يرى بوضوح أطوار تشكّل المحور "المصري - التركي"، والتطور التدريجي نحو بناء الشخصية الوطنية المصرية وهي تتخذ هويتها الإسلامية، وترى بأعينها تضييق الحلقة المصرية - التركية على النفوذ الصهيوني، والذي بدا واضحاً في أزمة غزة في نوفمبر 2012 ووقف إطلاق النار برعاية "إيرانية - مصرية - تركية"، وعاش الكيان الصهيوني كابوساً يتخيّل فيه نموذج إيران أو تركيا على حدوده الجنوبية مع اكتمال نمو الدولة المصرية في عهد مرسي، لكن استطاع نظام كامب ديفيد في مصر أن ينبعث مرة ثانية من رماد ثورة يناير ليصحو المصريون على انقلاب الثلاثين من يونيو ويعيد كل الأمور إلى حقبة مبارك من جديد، والذي كان على عداء واضح مع النظام التركي وتوجهاته في المنطقة، وكان على توافق تام مع المصالح الصهيونية برعاية أمريكية.
وبعد الآمال الأولية لتصفير المشكلات وزيادة النفوذ الإقليمي في مناطق نفوذها السابقة، فإن المنطقة العربية تبدو اليوم أكثر قتامة أمام النفوذ التركي، وأصبحت بمثابة الأرض المحروقة في كل من سورية ومصر وليبيا، وفي ظل عداء متزايد مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي بسبب المواقف الإقليمية الأخيرة لتركيا، فإن تركيا لم يعد أمامها فرصة للرجوع إلى الوراء، وبات الخيار التركي بمحاصرة الانقلاب المصري ضرورة تحتمها كل من مصالح تركيا ومبادئها المعلنة، لا سيما أن ذلك الموقف التركي يحظى بقبول شعبي في كل العالم الإسلامي الذي فُجع بمشاهد القتل والترويع في فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقاهرة، كما أنه يتماشى مع مبادئ حزب العدالة والتنمية الذي يدعم التصالح مع الهوية الإسلامية مع تبنّيه الديمقراطية، وهو ما بدا أنه اتجاه كان في طريقه إلى أن يسود في العالم العربي بعد ثوراته المتتابعة؛ حيث كانت تجربة العدالة والتنمية التركية حاضرة في أذهان شعوب المنطقة وهم يسعون نحو حريتهم وكرامتهم.
لكن تركيا الآن تدفع ثمن تورّطها في الشرق الأوسط، واعتباره ساحة لنفوذها ومصالحها الجديدة، لكن مع احتراق الشرق الأوسط بالمشكلات السياسية والاقتصادية والمذهبية، إضافة إلى رفض بعض القوى الإقليمية الدور التركي بالمنطقة، وتقاطع ذلك مع المصالح "الأمريكية - الإسرائيلية"، لا سيما بعد بزوغ نظام كامب ديفيد من جديد في مصر؛ فإن حزب العدالة والتنمية التركي يبدو أنه اليوم يقف في منتصف الطريق أمام مفترق حاسم: فإذا نجح الانقلابيون المصريون فإن ذلك سيمثل لطمة للنفوذ التركي في الإقليم، وسيعيد ذلك إحياء ما وصف بـ "محور الاعتدال" "الخليجي - المصري"، وسيكون في مواجهة النفوذ الإيراني، وستكون ساحة النزاع التي تحتوي الجميع هي الدولة السورية، الذي سيتنازع على رمادها وإعادة بنائها كل قوى المنطقة كلٌّ يجذبها إلى فلكه، وستمثِّل تلك الساحة المعركة الحاسمة للنفوذ التركي، لا سيما بعدما رأت بعض الدول خطورة ذلك "النموذج" على استقرار أنظمتها.
أما إذا لم ينجح الانقلاب المصري واستطاع الشعب استعادة إرادته من جديد دون استئصال للتيار الإسلامي وعاد ليصبح جزءاً من المشهد وليس بالضرورة متصدراً له؛ فحينئذ فإن أسهم تركيا ستعود للارتفاع من جديد، بعدما عبّرت تركيا عن استعدادها للتعاون مع أي نظام منتخب في مصر؛ وستكون الموجة الثانية من الديمقراطية المصرية أكثر وعياً وإدراكاً للأفخاخ على طول الطريق، وسيتم ترشيد التجربة الإسلامية لتصبح أكثر قدرة وجذباً، وربما تصل أصداؤها إلى مناطق ظلت آسنة وعصية على التغيير؛ حيث إن الموجات الارتدادية لـ "مجزرة رابعة" وصلت إلى كل العالم العربي، وباتت المعركة أكثر وضوحاً بين معسكري التيارات الإسلامية والعلمانية عبر المنطقة.
وعلى الجانب الآخر فإن السياسة الخارجية للعدالة والتنمية التركي برمتها على المحك الآن؛ فالأيام أثبتت أن تركيا لم تجنِ سوى الشوك من تحولها تجاه المنطقة العربية؛ فقد حُرِقت استثماراتها في كل من ليبيا وسورية، وسقط حليفها في مصر، وأثقل كاهلها بأزمة لاجئين سوريين تتعاظم يوماً بعد يوم، وباتت سورية بمثابة الرمال المتحركة على حدودها وثقباً أسود يجذب مسلحين من مختلف دول المنطقة، ودفعت تركيا الثمن من دماء أبنائها بتفجيرات في الداخل التركي، وكل ذلك من المتوقع أن يكون له ثمن في الانتخابات القادمة.
إن حروب الهوية باتت أكثر وضوحاً اليوم من أي وقت مضى، لا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أزاحت الحدود وقرَّبت وجهات النظر وساعدت على الحشد والتأثير، في ظل تشابك قضايا الإسلام والعلمانية مع الديمقراطية والاستبداد، مع المصالح الاقتصادية والسياسية، مع قضايا النفوذ الإقليمي ومشكلات المنطقة التاريخية؛ وباتت كلها بمثابة مخاض مؤجل تدور أحداثه في شوارع القاهرة التي أصبحت مخضّبة بدماء الشهداء من التيار الإسلامي في أعقاب الانقلاب.
محمد سليمان الزواوي
- التصنيف: