دليل الحاج

منذ 2013-10-08

يا عازمين على الحج، يا من يشدُّ الرحال، ويعدُّ الأحمال؛ ليصل إلى فناء الحرم، ويقوم عند الملتزم، ويشرب من ماء زمزم؛ قفوا قليلًا فاستمعوا مني كلمة، ثم امضوا على بركة الله.




فإذا أعددتم المال الحلال، وانتقيتم الرفيق الصالح، وتبتم من ذنوبكم، وأديتم الحقوق التي عليكم، فأخلوا أذهانكم من هموم العيش وخلفوها وراءكم، وفرغوا قلوبكم ما استطعتم لربكم، فإنكم تفكرون ف الدنيا العمر كله، ففكروا في الآخرة هذه الأيام فقط، وتعملون طول حياتكم يوم العرض على ربكم.

يا إخوتي الحجاج؛
إنكم تقومون للصلاة، تنظرون إلى مسير الشمس في النهار، وتبحثون عن نجم القطب في الليل، وتضعون (البوصلة) أمامكم، وتستحضرون موقع البلد في أذهانكم؛ لتعرفوا أين تقع الكعبة، فتجعلوها قبلتكم في صلاتكم، وبينكم وبينها الأبعاد والآماد، وبينكم وبينها الصحاري والبحار، والجبال والأنهار، لا يمنعكم بُعدها، ولا تصدكم العوائق دونها عن أن تتوجهوا إليها بأجسادكم وقلوبكم، وإن تتصوروها على الغيبة، وتحنوا إليها على البُعد، فهل أنتم هؤلاء تمشون إليها كما يمشي المحب إلى لقاء المحبوب، ودونه الحجب والأستار، فكلما جزتم إليها بادية، أو ركبتم بحرًا، رفع لكم من دونها حجاب، وكلما دنوتم منها شبرًا رفع لكم ستر، حتى وصلتم إلى المواقيت.

هذي مواقيت الحرم، هذي مواقيت يا حجاج فقفوا، هذه أعتاب ديار المحبوب، هذه مشارف بيت المليك، إنَّ من يدخل حضرة ملك من ملوك الدنيا، يلبس للمقابلة لباسها الرسمي، وهذه أبواب حضرة ملك الملوك، ربّ العالمين، فاخلعوا عن أجسادكم ثياب الدنيا، والبسوا للنسك لباسه الرسمي.

البسوا ثياب الإحرام التي لا يمتاز فيها غني عن فقير، ولا أمير من أجير، وانزعوا مشاغلها عن قلوبكم، واغسلوا بالماء أجسادكم، واغسلوا بتجديد التوبة نفوسكم، وانووا إما الحج وحده، وإما العمرة والحج مقرونين، تدخلون بالعمرة، فتطوفون وتسعون، وتبقون محرمين إلى انتهاء أعمال الحج، وأما العمرة وحدها فإذا أكملتم مناسكها -أي طفتم وسعيتم- حلقتم ولبستم ثيابكم وحللتم، ثم أحرمتم بالحج يوم الحج، والأول هو الإفراد، والثاني: القران، والثالث: التمتع، وكل ما تنوون حسن، وكل من الثلاثة هو الأفضل في أحد المذاهب، وإن كان التمتع هو آخر ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل به أولى.

ثم اصغوا تسمعوا صوت الشرع في قلوبكم، يأمركم بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، واتباع سبل الخير، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، اسمعوا أوامر الله في آيات كتابه وأقوال نبيه، فإذا تمثلت لأذهانكم، فأجيبوا بألسنتكم وبقلوبكم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».

لبيك أمرتنا فأطعنا، ونهيتنا فأجبنا، فأعنَّا اللهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فإنا لا نستطيع أن تقوم بها بغير معونتك، لا شريك لك فنطلب منه، ولا إله سواك فنفر إليه، لقد فررنا إليك، وجئنا قاصدين بيتك، فهل تردنا عن بابك خائبين، وأنت أكرم الأكرمين؟

هذه يا حجاج مواقيت الحرم... هذه حدود منزل الوحي، لقد جزتموها الآن محرمين، فجدُّوا السير، واحدوا المطية، أو استحثوا سائق السيارة.

لقد دنوتم الآن من الحرم، أتعرفون يا إخوان ما الحرم؟

هنا دار السلام إن عمت الأرض الحروب، هنا دار الأمن إن شمل الناس الخوف.

كل حي ها هنا آمن: الناس والحيوان والنبات، وليس ها هنا حرب ولا قتال، الحيوان ها هنا لا يصاد، والأشجار لا تقطع، لا عدوان على أحد، ولا تجاوز على شيء.

هذه حدود الحرم، ألا ترون أعلامها؟

لقد أقام هذه العلامات أبو الأنبياء إبراهيم، وبقيت حيث أقامها.

لقد دخلتم الآن الحرم، فجددوا التلبية واجهروا بها، وقولوا بقلوبكم مع ألسنتكم: لبيك اللهم، قد دعوتنا فأجبنا، سمعنا المؤذن يؤذن بالحج فجئنا رجالًا وعلى كل ضامر، أتينا من مكان بعيد، نجزع الأرض، نطوي البيد، نركب الريح، ونمتطي اللجج، امتثالًا لأمرك، وابتغاء رضاك.

لبوا يا حجاج، واجهروا بالتلبية، لبوا عند كلِّ رابية وجبل، تلبِّ معكم الروابي والجبال، لبُّوا كلما صعِدتم نشزًا، لبُّوا كلما هبطتم واديًا، لبُّوا فهذه جبال مكة بدت لكم.

لقد وصلتم، لم يبقَ إلا قليل، فجدوا المسير.

هذه مكة فادخلوها من أعلاها، من جهة ذي طوى -حي الزاهر- ثم اهبطوا من الحجون، من عند المقبرة، فمن هناك دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم امشوا من عند المسعى حتى تدخلوا من باب السلام (باب بني شيبة).

لقد زالت الحجب حجابًا بعد حجاب، وتقاربت الأبعاد ساعة بعد ساعة، حتى بلغتم الأرب فنسيتم التعب، فهنيئًا لكم، نلتم المرام، هذا باب السلام، وهذه زمزم، وهذا المقام، وهذه الكعبة البيت الحرام.

فلبوا وهللوا، وادعوا... هذا هو المشهد الذي قطعتم من أجل رؤيته الآفاق، وحملتم المشاق، إني لن أنسى يوم وقفت هذا الموقف أول مرة، من إحدى وثلاثين سنة، لقد سلكنا الصحارى من دمشق، فكنا كلما دنونا يومًا زاد الشوق بنا شهرًا حتى تمنيت أن تطوى لي الأرض، وأن يتصرّم الزمن.



 


وأكثر ما يكون الشوق يومًا *** إذا دنت الخيام من الخيام


حتى إذا وقفت على باب السلام صفق من الفرحة القلب، وبكت من السرور العين، فما رأيت الكعبة إلا من خلال الدموع.


هذه دارهم وأنت محب *** ما بقاء الدموع في الآفاق


إني لا أتمنى إلا أمنية واحدة، هي أن أنسى هذا المشهد لأستمتع برؤية من جديد، هذه مكافأة الحاج، إنها لذة من لذائذ الروح لا مثيل لها، فأشبهه بها لأدل عليها من لم يعرفها.

لذة لا يدرك مداها إلا من ذاقها، لذة لا توصف ولا تعرف:

 

لا يعرف الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلا من يعانيها



أسأل الله أن يمن بذلك على كل راغب فيه، مشتاق إليه.


 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد الثاني عشر، السنة الأولى: (1385- 1966)م، بتصرُّف

علي الطنطاوي

الأديب المشهور المعروف رحمه الله تعالى