أنتِ أول من احتسب عليَّ
لقد قلبتُ في ذاكرتي صفحات الماضي، واستعدتُ الأيام والليالي، فوجدتكِ ماثلة أمام عيني، تمدين إليَّ يدكِ -يدَ الحنان-، وعيناكِ تحتضناني قبل ملامستي إياكِ، وأنا أهتز طرباً رغم طفولتي وبراءة وجداني، أكاد أقفز إليك ليضمني صدركِ بدفء الأمومة.
كلما خطرت في ذهني معاني النظافة والطهارة ذكرت حِرصكِ على تعليمي آداب قضاء الحاجة، والتنزه والنقاء، وتعاملي في الخلاء، واستخدامي للمياه في الغسل والوضوء والتنظف، إنها منكِ دلالات على بعد النظر، والحرص على حسن المآل، والأمانة في حمل مسؤولية العيال.
كم مرةٍ أسمعتِني كلمات التوبيخ على إكثاري من نوم النهار، وتهاوني في البدار إلى اليقظة، وكم أوجعتني ضرباً جزاء عصيانٍ أحدثته، أو عقوقٍ ارتكبته، كنت أظن ذلك مجانفاً حنان الأمهات، ومجانبا شفقة المربيات.
كالشوك في وخز الجلود أذاهُ *** لكنه كالشهد وقت جناهُ
استحليته بعداً، وتمنيته عَوداً، ورجوته أسلوباً لي في تربية أولادي الصغار.
أماه؛ أتعلمين أني كنت أغبط أخواتي حين ألاحظكِ ترعينهن كرعاية اللبوة صغارها، ويشتد قلقكِ عليهن إذا خرجن، وترقبين منهن ما يلبسن، وتصونينهن كأعظم ما تُصان الورود، وتعاملين إحداهن كما لو لم يكن لديكِ إلا هي.
أماه؛ لقد فاجأتِني حين كبرت بأنك لا تقرأين إلا قليلاً، كنت أظنكِ إحدى عالمات البلاد، لما رأيت فيكِ من الحث على الصلوات، ومراقبة الله في الخلوات، والحشمة في كل حال، والحرص على تهذيب الأقوال والأفعال، والرقابة على تعليمي ودراستي في المدرسة والمسجد، ومحاسبتي على ما أصرف من فلوسي وما أبقي، ومع من آكل في مدرستي، وأين ألعب وأين أمضي وكيف أقضي وقتي، وصحبتي لزيد وعمرو، وما آتي وما أذر من كل أمر، حتى ظننت أنكِ لن تتركي أدباً إلا أكسبتنيه، ولا خلقاً إلا كسوتنيه، ولا خطأ إلا نفَّرتني عنه، ولا منكراً إلا أبعدته عني.
وأقول في نفسي: سبحان الله! ما أكثر ما تنصحني أمي في كل حين، وفي كل شيء، يا ترى هل جاورتْ أم الإمام الشافعي اليتيم التي أخرجته منه إماماً، أم صاحبت أم سفيان الثوري التي ابتعثته ليكون عابداً زاهداً؟ وكفته بمغزلها، أم تعلمتْ بين يدي أم البخاري الإمام، لا، ربما جالستْ أمهات المؤمنين!
حين كنتِ تعلمينني في جلسات هادئة مبادئ ومعتقدات لست مكلفاً بها آنذاك، ولكن لعلَّكِ تقرأين المآل، وتنظرين إلى المستقبل، كالشهادتين، وصغار السور، وتغرسين في قلبي غراس التقوى وتبذرين بذور الصلاح، وأعجبُ حين تذكرينني بالموت، وتخوفينني بالنار، وتشيدين بالإسلام تارة، وُتنكِرين الكفر والشرك تارةً أخرى، ولم أعرف حينها أنه الولاء والبراء الذي صار معتقداً اليوم، وأحياناً تحذرينني من غثاء الفضائيات وفساد القنوات، وفي نفسي آنذاك ضعف إدراك لما في هواكِ أن أتبناه، فلقد ذكرتني بأم سليم رضي الله عنها حين آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو أنس وكان غائباً، فقال: أصبوتِ؟
فقالت: "ما صبوت، ولكني آمنت".
وجعلت تلقن أنساً: "قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن محمداً رسول الله"، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تُفسِدي علي ابني.
فتقول: "إني لا أُفسِده".
فخرج مالك، فلقيه عدوٌ له، فقتله، فقالت: "لا جرم، لا أفطم أنساً حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يأمرني أنس" (سير أعلام النبلاء: [3/270-271]).
ودأبت على هذا في تربيته فلما كبر أنس رضي الله عنه روى لنا موقفاً من مواقفها معه، "قال: أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئت، قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت ما حاجته؟ قلت: إنها سِرّ، قالت: لا تُحدثنَّ بسِرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت" (صحيح مسلم: [7/160]؛ برقم: [6533]).
فما أجمل غرس العقيدة في حال الصغر، وتنشئة الأجيال على مفهومها، وتهيئة نفوس الصغار لقبولها، وبعثهم إلى مجالسها، وإن كلَّف عبئاً، أو شق على الأسرة، ما داموا على رقة الأجساد والقلوب، وصفاء الأذهان والعقول، فما خاب من يترعرع بين أيدي العلماء، والأم أحنُّ على فلذة كبدها، فلا تلقيه في اليمِّ إلا بحفظ الله ورعايته، وما دام في طلب العلم فهو في ذمة الله حتى يرجع.
ولو علمت والدة الإمام العظيم أبي يوسف رحمه الله ما سيؤول إليه صبيُّها الصغير لما "أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة" (وفيات الأعيان: [6/380]).
أماه؛ ما أدهاكِ، لقد علمتني أشياء كثيرة دون قول ولا أمر ولا توجيه، إنما بأفعالكِ السليمة، وتصرفاتكِ الحكيمة، لقد كنت أشعر أنكِ تتعاملين معنا كأنكِ أمام عدسة المراقبة، فما رأيتكِ إلا صارمةً حازمةً صادقةً جادةً صابرةً جَلدةً سمحةً رفيقةً شفيقةً رقيقةً أبيَّة قويةً حريصةً على كل خير، وعلى ألا يظهر منكِ إلا صورة حسنة، أو قولاً محكماً أو تصرّفاً حكيماً أو رأياً حصيفاً، فلما كبرتُ علمت أنكِ تستشعرين أنكِ قدوةً لأطفالكِ من حولكِ، يتبعونكِ ويقلدونكِ دون استئذان، فلله أنتِ من أم عظيمة مثالية، كم أشعرتنا أننا عظماء.
ما أعجب ما سمعت عن أمٍّ فيها بعض مواصفاتكِ، حين "أعدَّت لطفلتها البالغة من العمر قرابة السنة طعاماً، وأرادت أخت الطفلة الكبرى إعطاءها هذا الطعام، وإذ بالأخت الثالثة البالغة من العمر حوالي الخمس سنوات تريد أن تطعم أختها الصغرى بنفسها قائلة لأختها الكبرى: أنا التي سأطعمها أتريدين الأجر لكِ وحدك فقط! فلننظر إلى احتساب هذه الطفلة للأجر لأن والدتها كانت دائماً تحثهم على إطعام الطعام، ونية العمل لوجه الله تعالى" (أمهات قرب أبنائهن: [ص: 22]).
وأخيراً:
أمي؛ لقد استفدت منكِ أن على كل أمٍّ أن تربي أولادها في صغرهم على:
1- التيامن في المأكل والمشرب والأخذ والعطاء وفي شؤونهم كلها.
2- احتساب الأجر في الأقوال والأفعال.
3- الحشمة والستر، ومن ذلك تعويد الصغير على الاعتماد على نفسه في طهارته وغسله، ومن ذلك تعويد البنت على اللباس المحتشم، لا القصير ولا الضيق ولا الشفاف، ولا كشف الرأس ولا التشبه ونحو ذلك.
4- آداب الطعام، وآداب الكلام وآداب المجالس، وآداب التعامل مع الكبار.
5- الأذكار الواردة كالتسمية على الطعام والشراب، والحمد بعده، ودعاء الدخول والخروج وأذكار النوم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكره، والسلام حين اللقاء أو الدخول، والحمدلة والترجيع والحوقلة ونحوها.
6- آداب العطاس والتثاؤب.
7- الحفاظ على الصلاة في أوقاتها مع الجماعة في المساجد.
8- حب الدين، وبغض الكفر، وحب الصلاح والخير والمعروف والإحسان إلى اليتيم والمسكين والفقير وذي الحاجة، وإعانة الأخرق والمحتاج.
9- الحفاظ على أسرار الآخرين خاصة أسرار الأسرة.
10- الثقة بالنفس، والاعتماد عليها وترك التواكل والاتكال والتسويف.
وبعدُ؛ فإليكِ يا أماه، وإلى كل أمٍّ؛ شكراً لكنَّ جزيلاً، فأنتن مدرسة العظماء، وأنتن رائدات في التاريخ، فالله الله فينا، فنحن أبناؤكن، وفلذات أكبادكن، وقرة أعينكن.
وفقكن الله وإيانا والمؤمنين والمؤمنات.
- التصنيف: