فِتْيانٌ في جُحْر الضَّبّ

منذ 2013-10-24

لا أتفاجأ كثيرا من أسئلة الطلاب الغريبة والمثيرة حين يلقونها بين يدي الدرس، ببراءة وعفوية، أو محض إشكال واستفسار، بل أسعى جاهدًا استثارة مثل تلك الأسئلة، ليقيني أن الإجابة عنها تفيض فهوماً جديدة، وتذكي معارف خافتة لديهم، ولكن المفاجأة تأتي حين تلمس من ورائها تبدّلاً لقيمٍ ثابتة في المجتمع، ومؤصَّلة شرعاً ومعزَّزة نظاماً وعرفاً لدى عامته.


لا أتفاجأ كثيرا من أسئلة الطلاب الغريبة والمثيرة حين يلقونها بين يدي الدرس، ببراءة وعفوية، أو محض إشكال واستفسار، بل أسعى جاهدًا استثارة مثل تلك الأسئلة، ليقيني أن الإجابة عنها تفيض فهوماً جديدة، وتذكي معارف خافتة لديهم، ولكن المفاجأة تأتي حين تلمس من ورائها تبدّلاً لقيمٍ ثابتة في المجتمع، ومؤصَّلة شرعاً ومعزَّزة نظاماً وعرفاً لدى عامته.

يقول المعلم مستطردًا بعد أداء الدرس لطلابه في الصف الثاني المتوسط: أثناء حديثي عن أهوال يوم القيامة، وحال المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم، فإذا بطالب يتساءل باستنكار وتعجب مما يسمع رافعاً صوته فاتحاً عينيه محلِّقاً بحاجبيه:"مِنْ صِدْقِك يا أستاذ؟!".

وطالب ثان في الثالث المتوسط: يفاجئ معلمه بعد حديثه عن ضرورة صيانة المرأة وحفظها من الاختلاط المحرم، قال الطالب ببراءته منافحاً: "لماذا تُصوّر المرأة دائماً أنَّها محل الشهوة؟!" مستشهداً بواقعه العارض في بعض المجمَّعات وأنه لا يشعر تجاههن بشيء! فعلام التشديد!!، وبعد أن بيّن له المعلم بلطفٍ الحكمةَ من غضِّ البصر وفِقه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما».

وأنَّ سِنَّه الطالب لم يصل بعد لإدراك ما يقوله تماماً إذ لا يشعر بإلحاح الغريزة بعد، فلعل كلام المعلم يقع في قلب الطالب موضعاً في المستقبل.

أقتصر بذكر هذين النموذجين لضيق المساحة وما خفي من القيم على طلابنا الأحداث أكثر مما استعرضتُ وأعمق، ولو تساءلنا: أين مفعول العلوم الإسلامية التي يدرسها طلابنا بتناسب وتنوع ضمن مقرراتهم؟! هل تسللت سموم التغريب إليهم عبر القنوات المقنَّنة وغيرها فسبقت إلى عقولهم؟! أم أن خللاً ما في الأداء التعليمي التربوي لمثل هذه الركائز المميِّزة للهويَّة الإسلاميِّة؟! أم أنَّ الأسرة اقتصر دورها في تأمين المواصلات والغذاء واللباس فقط وفي غفلة عن قياس سلامة قيمهم وأفكارهم؟! اللطيف في الأمر أنَّي وجدت الإجابة بعد بضعة أيام على هذه الأسئلة متمثلةً في شخصيةِ طالبٍ جامعيٍ يعلوه الصلاح، رافقني قدراً في الطائرة وكان مسافراً ومتجهاً إلى جامعته في الظهران: وفي ثنايا الحديث أخذت في توجيه نصيحتي له بأهميَّة الصحبة الصالحة في الجامعة لاسيما لطالب مغترب عن أهله، قاطعني بزهوٍ واعتزاز، وأردف قائلاً: "نعم! لقد أرشدني أستاذي في ختام المرحلة الثانويَّة حين ودَّعني بأن أكون على وعي وانتباه عند اختيار الصحبة وحذَّرني من تغرير بعضهم بتكوين علاقات (بريئة) مع الفتيات، فلا تقلق سأكون حذراً"، فقلت: "سبحان الله! ما أجمل التربية حين تنطق مسدَّدة دون تكلّف كما لمستها من هذا الطالب الجامعي، وما أجمل غرس القيم في نفوس الأبناء والطلاب والتأكيد عليها بأساليب متنوعة قبل أن يشبّوا".

الهدي القرآني حفل يبث القيم الإيمانية والسلوكية والأخلاقية كالصدق والصبر والقصد، ومنها العفة، فقصة يوسف عليه السلام حافلة بهذه القيمة العظيمة (العفة) التي يلزمنا تدريسها الجيل في زمن الفتن، ونعلّمها أبناءنا في البيوت ونحييها في المواقف المختلفة، هذا حظ البنين وهم أحسن حالاً في تحصيل القيم الإسلامية فكيف بحظ البنات والفتيات، فالمرأة ترى في الخروج من بيتها لغير الحاجة حق مساوياً للرجل، وأخرى ترى حظّها في الحديث مع الرجال كالرجل تماماً، وثالثة لا ترى في الخلوة بالسائق أي حرج لتقضي حاجتها أو كمالياتها، ورابعة ترافق أمها المحجبة وقد كشفت عن وجهها وأجزاء من جسدها، فهل سيستدرك المؤتمنون على التربية تعميق القيم التي تترنح في وعي بعض شبابنا وفتياتنا المتعلقة بالحريات وحشمة اللباس والتستر وضوابط التثقيف وترسيخ تلك القيم، وحجزهم عن دخول جحر ضبٍّ لم يتّسع إلا لأمّة لم تكن آمنت من قبل، وإلا دخلوه معهم؟! روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتّى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه».

عافانا الله وإياكم وسلّم لشبابنا وفتياتنا دينهم وقيمهم.