دروس من الحج في زمن التغيير

منذ 2013-10-25

حين تشتد الهاجرة وتلفح الوجوهَ سمومُ التبديل والتخذيل والبدعة، ويسطعُ غبارها ابتغاء الفتنة عن الحق وابتغاء التأويل بما يرضي المشرق والمغرب؛ فإن الملجأ يكون إلى المحاضن الآمنة والمعاهد الحصينة. وحين يُوري المبطلون زند العوائق ويتطاير شررها فإن الرِّي والرَّواء والمرتعَ والمغتبق هناك في حمى "النص" وفسطاط التسليم للكتاب والسُّنة وفهم السلف.

 



ولا زال المصلحون وأصحاب الدعوات وأرباب التغيير، من العلماء العاملين والحكام المقسطين والمجاهدين الصادقين، يثوبون إلى ذلك المأزر الرشيد، ويركبون له الصَّعب والذلول موئلاً وثمالاً، وقد وثقوا؛ أنه لا يُصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به وعليه أولها.

ويصوَّنون ويحذَرون أن يواقعوا خُطَّة التبديل، أو أن يجذبهم شَرَك البدعة عن سيرهم إلى الله. قال ابن وضَّاح عليه رحمة الله فيما رُوي عن بعض السلف: "يأتي على الناس زمان يسمّن الرجل راحلته حتى تعقد شحماً، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقصاً، يلتمس من يفتيه بسنَّةٍ قد عُمل بها فلا يجد من يُفتيه إلاّ بالظن"، قال ابن وضاح سنة 281هـ: سمعت سحنوناً أحد علماء المالكية المشهورين يقول منذ خمسين سنة: "إني أظن أنّا في ذلك الزمان، فطلبت أهل السُّنة في ذلك فكانوا كالكواكب المضيء في ليلة مظلمة" (البدع والنهي عنها: [164]).

وقال ابن عبد البر في التمهيد في حديث لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه: "وذلك لمَا يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن، وقد أدركنا ذلك الزمان كما شاء الواحد المنان لا شريك له، عصمنا الله ووفقنا وغفر لنا. آمين" (التمهيد المرتب: [6/398]).

ولئن كان السالفون الصالحون الأولون يخافون أشد الخوف ويحذرون من ذلك أشد الحذر وهم في زمن الراية والرواية وصَوْلة السنة فلئن يحذر أهل زماننا أوْلى وأجدى وأجدر... لذا فهذه وقفات خيِّرات، تبضُّ بمروفها تلك المواسمُ المباركة الفاضلة وتستجلبها المشاعرُ من المشاعر، مهَّد لقطب رحاها النظرُ في حال الأمة والتفكر الحثيث في مشروع نهضتها وسبيل ارتقائها، وإذ اعتاد علماء أمتي وطلابُهم في هذه المواسم المباركة عقد حِلَق الفقه والعلم؛ لتدارس مسائل الحج ومناسكه وأحكامه، فنِعمَ إذاً رديف ذلك أن يُتحدث عن تلك الفوائد واللطائف والدروس، في الدعوة والمنهج والتغيير والأسباب والسنن الثابتة، التي يغذوها الحج بمناسكه ومواطنه ونصوصه. إذ لا يرعى الهشيم من وَجَدَ الجميم، ولا ينتجع الغيث في أقطاره من سقاه ريّق الوبل في دياره.

فمن أعظم تلك الدروس المستفادة من مواطن الحج ونصوصه ومناسكه ما قد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قومٌ قد وهنتهم الحُمَّى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا" (أخرجه البخاري: [1602]، ومسلم: [1266]).

وفي هذا الحديث الجليل تقرير لما قد تمهَّد في الأصول الشرعية من مشروعية مراغمة الكافر ومماتنته، حتى قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "لا شيء أحبّ إلى الله من مراغمة وليّه لعوده، وإغاظته له، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه..."، بل جعلها هذا الإمام السلفي الجليل ذريعةً من ذرائع الصدِّيقية، ووليجة يلج بها العبد المنيب المخبت لبحبوحتها فقال: "فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصدِّيقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة" (المدارج [1/ 414-415] دار طيبة).

وإذا قرأت هذا علمت عُظْم الشطط والدّرَك المنحط الذي هوى إليه دعاة التسامح الديني والطائفي كما زعموا وعلمت أيَّ ركن من الديانة يسعى أولئك المنهزمون المبدلون إلى أن يهدموه، وعلمت أيضاً أن قرناً للبدعة قد ذرَّ طالعه وبدا أوله وفسق بصياصيه، ولئن كانت الأمة قد فتنت في قرون مضت بما أخذت من أمم الكفر السالفة من علم المنطق والكلام والفلسفة حتى تشذرت بدداً وطرائق قدداً، ونُصب قدر البدعة على أثافي الهوى قروناً متطاولة، فإن بدعة أعظم وأطَمَّ وأحبُولة للتبديل والخروج من الديانة أكبر وأدهى قد رُكزت أعلامها في أسواق الأهواء فراجت بأسماء الإخاء الديني والتسامح الحضاري والحوار مع الآخر، وولجت في الأمة بدعاية نبذ التطرف والعنصرية والكراهية، كأن الكلب لم يأكل لهم عجيناً، وكأن القوم لم يقرؤوا قول الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة من الآية:22].

قال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إنه لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحَّد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض" (مجموعة التوحيد: [25]).

فسبحان الله !ماذا أُنزل من الفتن، حتى فُوِّقت سهام اللوم والتخطئة لمن نادى ودعا إلى هذه الشعيرة الجليلة؛ ولكنا كما قال ابن القيم في عبودية المراغمة: "وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذّته بكى على أيامه الأُوّل" (المدارج: [415/1]).

ومن عجائب الأمر أن هذه الشعيرة مما تكاثرت عليه النصوص حتى لا يكاد يعشو عن منازلها إلا من أعمى الله بصيرته، بل قال الشيخ الصالح محمد بن عتيق رحمه الله عن هذا الحكم الجليل "الولاء والبراء": "ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده" (سبيل النجاة والفكاك: [14]).

والناظر في نصوص متفرقة في الحج ومناسكه يرى رعي الشريعة لمثل هذا الأمر الكُبّار، حتى كانت خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تأكيداً لهذا الشأن فقال صلى الله عليه وسلم: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (أخرجه البخاري: [67]، ومسلم: [1218-1679]).

هكذا بهذه الصفة المنفّرة التي تشي بكل معاني الاحتقار للجاهلية والاستعلاء عليها والترفّع عنها وعن أصحابها (انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: [1/342]).

والحج كلّه تأكيد لهذا الأمر وتأكيد لمعناه وتربية للقلوب عليه، فقد خالف النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في أفعالهم في الحج كما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر رضي الله عنه صَلَّى بجُمْع ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون :أشرقْ ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" (أخرجه البخاري: [1684]).

ومما يبين أيضاً هذا الأمر من نصوص الحج، ويزيد هذه القضية إيضاحاً وهي والله الواضحة الجليّة ما ثبت عند الترمذي وصححه النسائي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يديه يمشي وهو يقول:


خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيله *** ويُذهل الخليل عن خليله


فقال له عمر رضي الله عنه: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «خلِّ عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من نضح النبل»، فانظر إلى حَوْط الشريعة وتقريرها لقاعدة البراء من المشرك ومراغمته بالإعلام المسموع في مواسم الحج والعمرة، وإكبار هذا وإشهاره ومدح فاعله، فأين من يدعون إلى التسامح مع الآخر والانفتاح على ثقافته وعدم الكراهية للمختلف الثقافي (الديانة الكافر)؟

أين هم من هذه الواضحات وهم يُجادلون في الله وهو شديد المحال، ويأخذون بشدق المنهج، ويضعون ويخبُّون في نصر باطلهم؟ بل إن الحديث يدل على جواز مراغمتهم بالقوم في حال العهد فضلاً عن حال المقاتلة والحرب، ولهذا الشأن موطن غير هذا الموطن، لكن الغرض بيان عُظْم هذا الأمر وتقرره لدى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أهدى جملاً كان لأبي جهل في رأسه بُرة فضة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يغيظ بذلك المشركين" (أخرجه أبو داود: [1749]).

ومما يتصل بهذا ما ذكره بعض العلماء في سبب تسمية عمرة القضيّة بهذا الاسم؛ حيث اختلف الفقهاء: هل هو مأخوذٌ من القضاء للعبادة (العمرة الأولى)؟ أم من المقاضاة للكافر؟ على قولين، اختار ابن القيم الثاني (انظر: زاد المعاد: 273/3]، فتح الباري: شرح حديث: [4252]).

ومن ذلك ومما يحسن إيراده هُنا، والقلوب إن لم تسافر أبدانها إلى تلك البقاع المباركة سافرت بفكرها وشوقها وتأملاتها وكأنها تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر»، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا يُناكحوهم ولا يُبايعوهم حتى يُسلِموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم .

هكذا يُظْهر المؤمن صولة الحق والإيمان والسنة في مواطن حُورب فيها الحق والسنة، وتُربط الفهوم في عباداتها بالصرِّاع مع الكافر وديمومته حتى يجيء المؤمنون وهم يؤمّون تلك المشاعر المباركة، فيتذكرون صراع الحق مع الباطل وظهور الحق بعد جولة الباطل... وبقاء الحق ظاهراً عالياً، ولتتذكَّر الملايين من المسلمين وهي تطأ أرض تلك المشاعر والمناسك فضلَ إظهار شعار الإسلام وصولته، وأن الصراع مع الكفر والبدعة والفجور باقٍ ما بقيت تحادّ الله وشرعه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا استحب العلماء ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله وإظهار شعار المسلمين (انظر: فتح الباري: شرح حديث: [3065]، وشرح النووي: حديث: [2875]).

ومن لطيف ما يظهر للناظر في دروس الحج ما يؤخذ من حديث جابر رضي الله عنه في السنن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]" (أخرجه الترمذي [869]، والنسائي [2963]).

وهي سور البراءة من الكافرين والتسليم لرب العالمين، وليكون العابد الحاج مرتبطاً بمثل هاتيك المعاني العظيمة، وليعقد أنامله عليها ويستمسك بمقتضياتها.

ومن هذه الدروس المستفادة من طُيوب تلك العبادة ما يؤخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى الصفا فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» (رواه مسلم: [1218]، عن جابر).

إنه التذكير بالانتصار على القوى العالمية الكافرة على يد الثلّة المؤمنة الصابرة، وهي الكلمات التي يُردّدها كلُّ عابد وكل عالم وكل مجاهد وتتناقلها الأجيال في كلاءة السناء، ولا ريب أنه مهما بلغ عتو الكافر وتجبّره وظلمه فإن النصر للموحدين الصادقين، بل لقد منَّ الله سبحانه بأنواع من النصر والتأييد في هذه العصور المتأخرة ما تعجز عنه ألسنتنا شكراً وتكلُّ عنه ثناء؛ حيث نشر الله مذهب السلف في الأسماء والصفات والأسماء والأحكام وغيرها من مسائل الاعتقاد، وكثُر الداخلون في الإسلام، وغدا للمسلمين من الهيبة والصولة ما لم يتحصل منذ قرن وأزيد من الزمان.

والملايين اليوم وهي تقف على الصفا صُعُداً يجب أن تعلم وأن توقن أن جند الله هم الغالبون، ولا بد أن تعلم وتتعلم علاقة النصر بالعبادة وعلاقة النصر بالشكر وعلاقة النصر بكمال التوحيد وتحققه في القلوب، ومن الدروس التي تغذوها عبر الحج ومواطن المناسك وترتبط في نفس كل مسلم وقلب كل مؤمن ذلك التسليم المطلق والتفويض العظيم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قصة أم إسماعيل.

كما ثبت في البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن إبراهيم جاء بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قَفَّا إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم! قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت" (أخرجه البخاري: [3364]).

إنه منهج التسليم للنص، ونبذ الرأي، وطرد الخصومة في التشريع.. وهو الأساس الذي يقوم عليه المعتقد السلفي الصحيح، وهو القاعدة الأولى في الديانة، وعليه إجماع السلف، وإليه موئلهم، وعليه نَفَص الخارجون عن السنّة، وبتركه وقع أهل الأهواء في التبديل والبدعة. ولذا اشتد نكير السلف وأتباعهم على من ترك الآثار وردّ النص. قال الإمام البربهاري: "إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يردّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع" (شرح السنة: [51]).

وقال إبراهيم النخعي: "لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسحوا على ظفرٍ لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم" (الإبانة الكبرى: [316/1]).

وحين تشتد غربة المسلمين اليوم بكثرة من ينادون بالتجديد في الدين (بما يلائم العصر) وترك ما يزعمونه الرسوم التي عفت! (وخلا في الغابر أصحابها) ونبذ النصوص والخروج على فهم السلف لها، والدعوة إلى إيجاد فهم عصري للنصوص على غير أصول السلف، بل الدعوة للتجديد بالطمس والمسخ للعلوم المعيارية في الشريعة كأصول الفقه ومصطلح الحديث، ليتَقوَّض البناء، ويسقط عمود الفسطاط، ويتثلم الصرح.

حين تُزعج النفوس المؤمنة بتلك الأطروحات والندوات تجد في قصة أم إسماعيل وأمثالها الجلال والجمال والقدوة العطرة، ثم يعلم المسلم وهو يُقلّب نظره بين البيت وزمزم والصفا والمروة عِظم بركة (عبادة التسليم لله) وكبير ثوابه سبحانه وجزيل عطائه لمن تعبَّده بذلك، ألم ترَ أن الله جعل لأم إسماعيل الذكرى الخالدة والثناء الحسن ولسان الصدق في الآخرين إلى يوم الدين جزاء تسليمها للنص وتفويضها للأمر، فإذا بملايين البشر على ضوء الأمر الإلهي يخطون على خطاها، ويتخذون من طريقها بين الصفا والمروة مثابة تعبّد وشعيرة نُسك؟

ولا يزال كذلك ما تعاقب النيّران وتقلب الجديدان، وإن عبداً بلغ من أمره أن يجعل الله من عَفْو فعله عبادةً ومنسكاً على طريقته وهيئته لذو قربى وزلفى عند الله سبحانه، وكل صاحب اتباع وتسليم ونبذ للرأي فله حظ من ذلك بحسبه، وله نصيب من هذا بقدره، والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

بل إن من عجيب ما في قصة أم إسماعيل أنها حين خالطت بتحويطها لزمزم وحرصها الفوت، وداخَلَ أمرَ زمزم مع أم إسماعيل صنعُ البشر وكسبهم، نَقَص من ذلك بقدر الحرص البشري، مع أنها لم تعترض على نص ولم تردّ سنة ولم تدفع شريعة، ولم تترك التسليم لأمر الله، لكنها كانت على حالٍ لو كانت على أزكى منها وهي الزكية البرة لكان أعظم بركة وأجزل مثوبة، ليس لها فقط بل وللأمم والأجيال المتعاقبة بعدها.

وانظر إلى هذا الحديث وهو يبين أثر ذلك في البركة والخيرية والزكاء؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما فجعلت: «أم إسماعيل تحوِّضه -أي الماء- وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -أو قال لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عيناً معيناً» (أخرجه البخاري: [3364]).

وعلى أصحاب الدعوات والإصلاح والتعليم والجهاد أن يعلموا أنه بقدر ما يخالط أعمالهم من ركونٍ إلى الرأي وترك للنص وبُعْدٍ عن منهج السلف ينقص بقدره من الفلاح والنُّجح والبركة، وكل صاحب دعوة فعليه أن يحتاط لنفسه ويحذر ويتقي، مخالفة التبديل في الأمر والانزلاق عن السنة ومنهجها، وتحرير طريق السلف في فقه الإنكار والتغيير والاحتساب على العِليّة وطرائق الدعوة والتربية، ووسائلها، ومعاملة المبتدع، وهجر المبدِّل، وأحكام أعوان الظَّلَمة، وضوابط المداراة، وحدود المداهنة، وغيرها مما يمس مناهج الدعوة والتربية والجهاد في هذا العصر، "جاء عن ابن المسيب أنه رأى رجلاً يكثر من الركوع والسجود بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة" (التمهيد: [92/5]).

ومن لطيف ما يُذكر هنا أنهم كانوا يحرصون رحمهم الله على إخراج المبتدع من الثغر، وسلامة الجيوش الإسلامية في غزوها من البدع والمبتدعة لما تقرر لديهم من أثر البدعة في الخذلان، حتى: "روى ابن أبي عاصم عن علي بن بكار قال: كان ابن عون يبعث إليّ بالمال فأفرِّقه في سبيل الله، فيقول: لا تُعط قدريّاً منه شيئاً وأحسبه قال فيه ولا يغزون معكم فإنهم لا ينُصرون" (السنة: [88]).

وجاء في ترجمة العابد الزاهد أبي إسحاق الفزاري الثقة المخرّج له في الكتب الستة: "قال العجلي: كان ثقةً رجلاً صالحاً صاحب سنةٍ، وهو الذي أدّب أهل الثغر وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجلٌ مبتدع أخرجه" (تهذيب التهذيب [99/1]، وليس في هذا حكم عام في هذه المسألة بتفاصيلها، لكنه بيان لشأن السنة في الانتصار فقط، وانظر في هذه المسألة: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [212/28]).

وأعظم وأجلّ من قصة أم إسماعيل قصة أبي إسماعيل رحمة الله وبركاته عليهم أهل البيت إنه حميد مجيد إذ أُمر بذبح ابنه، فاستجاب وسلّم وامتثل، ولبّى نداء ربه في التضحية الكبرى ولم يضن بابنه، ولم يتأخر في البذل، وقال عنه ربه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] (انظر: تفسير ابن كثير [30/7]، دار طيبة).

والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى مثل هذه الصفات الإبراهيمية من العلم بالله والدعوة إليه إلى تحطيم الأصنام، ثم الصبر على البلاء ومفارقة الأوطان، والثبات في التضحية في سبيل نشر دين الله ونشر السنة والدفاع عن أعراض المسلمين وحرماتهم.

والملايين التي تؤمّ وأمّت بيت الله وهي تقتدي بإبراهيم عليه السلام في رمي الجمار والذبح والأضاحي (انظر: الحديث بطوله في المسند [306/1]).

ينبغي أن تقتدي بإبراهيم أيضاً في مواطن الدعوة والتضحية والصبر، وهي تنظر إلى تلك الأماكن المباركة التي كان عليها أعظم مواقف التضحية والبذل في سبيل الله، فتجتهد إذاً في رفع الجهل والظلم والبدعة والفجور عن الأمة، وتحذر من تبديل المبدلين وتخذيل المخذلين، وتحذر أيضاً من قومٍ تزيّلوا عن طريق السلف في الدعوة ولم يمسكوا بعروة التسليم: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9] (قال ابن عباس رضي الله عنهما: "{وَمِنْهَا جَائِرٌ} هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة"، وقال مجاهد في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}: (طريق الحق على الله)، تفسير ابن كثير: [560/4]).

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1] (من حديث هند عن أم سلمة: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: «سبحان الله»، البخاري: [115]).
[2] (أخرجه الترمذي: [2847]، والنسائي: [2873]، وصححه الضياء وابن حجر).
[3] (أخرجه البخاري: [1589]، ومسلم: [1314] عن أبي هريرة).
[4] (ثبت في البخاري عن سفيان عن عمرو عن عبيد بن عمير: (رؤيا الأنبياء وحي)، ثم تلا هذه الآية: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]).

 

 


 

المصدر: مجلة البيان