نحو ثقافة التسامح

منذ 2013-10-29

ما أحوج الأمة الإسلامية والمسلمين اليوم إلى العفو والتسامح، إلى نسيان الماضي، إلى طي تلك الصفحة من حياة الأمة وخاصةً ما أنتجته الثورات العربية من تمسك كل طرف بموقفه دون تراجع، من تصلُّب في الآراء والمواقف نكايةً بالآخر، من تصفية للحسابات على حساب القيم والمبادئ والأخلاق وكذلك الدين ووصل إلى حدِّ القتل وإزهاق الروح والنفس التي حرّم الله وتبرير ذلك كل حسب توجهه..

ما أحوج الأمة الإسلامية والمسلمين اليوم إلى العفو والتسامح، إلى نسيان الماضي، إلى طي تلك الصفحة من حياة الأمة وخاصةً ما أنتجته الثورات العربية من تمسك كل طرف بموقفه دون تراجع، من تصلُّب في الآراء والمواقف نكايةً بالآخر، من تصفية للحسابات على حساب القيم والمبادئ والأخلاق وكذلك الدين ووصل إلى حدِّ القتل وإزهاق الروح والنفس التي حرّم الله وتبرير ذلك كل حسب توجهه، وكذلك استخدام ما يمكن لتبرير الموقف وإعلان الانتصار على الآخر، سواءً بالكذب والبهتان، أو تزوير الحقائق وتزييفها، أو إرهاب الناس ومحاربتهم في قوتهم وحياتهم ومعتقداتهم، أو مصادرة الحقوق والحريات تحت أي مبرِّر المهم أن يخدم رأيه وفكرته وما اتخذ من قرار وغير ذلك مما نشهده اليوم.

ولذلك كله لابد من الدعوة إلى التسامح ونشر هذه الثقافة بين الناس والعيش والتعايش السلمي بين المسلمين على مستوى الحي والمدينة والدولة والمجتمع المسلم بأسره والسعي إلى العمل من جديد والبناء، وقبول الآخر، والمصداقية في ذلك وإبداء حسن النوايا لتغيير الحال وتبديله وإيجاد الحلول والأفكار القادرة على لمِّ وجمع الكلمة والعيش بحب واحترام وكرامة، والدعوة إلى التعايش بين أبناء المسلمين، وحقن دمائهم وصون أعراضهم، وممتلكاتهم وحماية مقدساتهم وهويتهم الإسلامية جماعات وطوائف، أحزاب ومنظمات وجمعيات، طوائف ذات أفكار وأيديولوجيات مختلفة لكنها ضمن الهوية الإسلامية، مذاهب دينية وفكرية، دول عربية وإسلامية متجاورة بحدودها أو متباعدة، أجناس وأعراق وقبائل مختلفة.

ولا يتأتى ذلك التعايش والتسامح ونشر الحب والوئام إلا تحت سقف الدين الإسلامي الذي يجمع الكل ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى، بعيداً عن العصبية والقبلية والحسب والنسب والمناصب.

الكل سواسية أمام الدين الإسلامي، بعيداً عن المجاملة والمحسوبية، والمصالح الضيقة وتصفية الحسابات، فيقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات من الآية:10]، و{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات من الآية:13].

فبنشر هذه الثقافة وتفعيلها بين الناس بصدقٍ ونيةٍ صافية؛ يعود نفعها على الناس جميعاً، يعود خيرها على المجتمعات العربية والإسلامية، يعود نفعها وخيرها على البشرية جمعاء.

فبالتسامح والعفو والمحبة والود بين الناس يسود، الاحترام المتبادل، العيش والتعايش السلمي بين الناس باختلاف أفكارهم ومشاربهم الفكرية والمذهبية والطائفية التي تُدمِّر المسلمين اليوم، الوئام والحياة الطيبة بين المجتمعات، نبذ العنف والقوة وتصفية الحسابات وإزهاق الأرواح بلا أدنى سبب أو شبهة، انتشار الأمن والأمان بين الناس، تبادل المنافع والخبرات بيسرٍ وسهولة بين مختلف التيارات والأحزاب والجماعات وأخذ ما ينفع ويفيد "الحكمة ضالة المؤمن أنَّا وجدها فهو أحق بها"، الحياة الكريمة والعِزَّة والكرامة للمسلمين واجتماع الناس على كلمة واحده تحت ثقافة التسامح والعفو ونسيان الماضي وفتح صفحات جديدة مشرقة تعود على الأمة الإسلامية والعربية بالنفع والفائدة واجتماع الكلمة وتوحيد الصف، النمو والنهوض بالأمة والتقدُّم في جُلّ المجالات المختلفة السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الأمنية، التعليمية، والسعي إلى امتلاك القرار والاكتفاء الذاتي.

كل ذلك يتأتى بوجود الفهم والوعي والعيش والتعايش والتسامح ونشر المحبة والسلام ووجود الرغبة الصادقة والنية المخلصة والإيمان العميق بذلك والأخذ بالأسباب والتوكل على مسبِّب الأسباب سبحانه ننطلق نحو النمو والنهوض والنجاح واللحاق بالآخرين والتفوق عليهم.

وبالتسامح والعفو والتعايش السلمي بين الناس تقل الجريمة وينعدم الثائر والتفكير في الانتقام واحتساب ذلك لله سبحانه والعفو عند المقدرة وجعل العفو شكراً لله على القدرة على الظالم أو المعتدي وغيره؛ ينعم الناس بالحياة السعيدة والأمن النفسي وذهاب الإحباط والأمراض النفسية والاكتئاب، تعود معظم القيم التي ذهبت أدراج الرياح بسبب الواقع اليوم الذي تعيشه الأمة الإسلامية، التعاون والتكافل، التواد والمحبة، حب الخير ونشره بين الناس، الإيجابية في المجتمع وتقديم ما يخدم البشرية وإيجاد الحلول والإبداع في ذلك بحب واحترام وتقدير وتفاهم، وتفاني في ذلك.

وقد بيّن لنا الدين الإسلامي الحنيف هذه الثقافة المهمة والهامة وتم وضع قواعد وأساس تساعد على نشر هذه الثقافة بين الناس ومنها:

• عدم الإكراه في الدين وإجبار الآخرين على الدين الإسلامي بالقوة فقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].

• التعامل مع الآخرين باحترام ومجادلتهم بالحسنى؛ فقال تعالى في القرآن الكريم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت من الآية:46]، وتم النهي حتى عن السب والشتم للآخرين فقال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام من الآية:17]؛ رغم اختلاف الدين.

• وكذلك دعا الإسلام إلى التعايش وقبول الآخر بضوابط معينة وتعايش مشترك كما هو واضح مع الذميين والمستأمنين ومن تم إعطائهم الأمان وكذلك قبول التعامل مع أهل الكتاب والأكل من ذبائحهم وكذلك الزواج من نسائهم، قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} [المائدة من الآية:5].

• وكذلك تم السماح بالتعامل مع الآخر وأخذ ما ينفع وقبوله كما حصل في صيام عاشوراء، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بموسى منهم» (رواه مسلم)، وصام عاشوراء وأمر بصيامه وتميز عنهم بصيام يوم قبله أو بعده مخالفةً لهم.

وكذلك "الحكمة ضالة المؤمن أنّا وجدها فهوا أحق بها"، وهناك الكثير من المواقف والأمثلة لتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الآخر والتعايش المنضبط بضوابط معينه كما تعايش الرسول عليه السلام مع اليهود في المدينة وكما تحالف معهم وغيرها وكذلك الدعوى إلى التسامح والعفو عند المقدرة.

وقدوتنا في ذلك ما قدَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم من مثالٍ رائع في التسامح والعفو عند المقدرة ومن صور ذلك:

• أنَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم استقبل وفد نصارى الحبشة، وأكرمهم بنفسه وقال: «إنَّهم كانوا لأصحابنا مُكرِمين، فأُحبُّ أنْ أكرمهم بنفسي» (رواه البخاري).

وهذا مثال يُقدِّمه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ويُعلِّمنا إكرام الكريم، ورَدِّ الجميل للآخرين.

• استقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وفد نصارى نجران، وسمح لهم بإقامة الصلاة في مسجده حيث بيّن لهم عملياً سماحة الإسلام وحسن تعامله مع الآخر وقبوله به بضوابط يلتزم بها الطرفين.

• استقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هديةً من المقوقس في مصر، وهي الجارية التي أنجبت إبراهيمَ ولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ وقف فقال: «استوصوا بالقبط خيراً، فإنَّ لي فيهم نسباً وصهرا» (رواه مسلم)، تصور هذا المثل الذي ضربه لنا رسولنا الكريم في قبوله وتعامله مع الآخر وكيف رد الجميل للمقوقس الذي أحسن في تعامله مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

• ومن ذلك عفوه ومسامحته لأهل الطائف رغم ما عاناه منهم صلى الله عليه وسلم فقد رجموه حتى أدموه، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: «بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» (متفقٌ عليه).

• ومن ذلك عفوه وتسامحه مع أهل مكة رغم أنهم طردوه وصادر حقه وممتلكاته في مكة وآذوه في نفسه وأهله وأسرته وأصحابه لكنه مثّل لنا شعار عظيم وهو العفو عند المقدرة فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (ضعّفه الألباني في فقه السيرة)، وغيرها من المواقف والأمثال في تعامله مع الناس والأعداء والمخالفين له.

• فما أحوجنا اليوم إلى نشر هذه الثقافة بين الناس ثقافة التسامح والعفو والتعايش وحمل الآخر على السلامة وإرشاده إلى الخير والتجاوز عن أخطائه وزلاته وإصلاح ذات البين والإنصاف في ذلك وتقديم مصلحة أُمتنا الإسلامية على المصلحة الشخصية والحزبية وغيرها.

• ما أحوج الأبناء إلى التعايش مع آبائهم وِفق ما شرع الله وطاعتهم وخدمتهم والسهر على راحتهم رداً للجميل.

• ما أحوج الآباء إلى التسامح والعفو عن أبنائهم وإرشادهم بالتي هي أحسن والدعاء لهم بالبر والصلاح والعدل بينهم في التعامل وعدم الدعاء عليهم فدعوة الوالدين مستجابة كما ورد في الحديث: «ثلاثة لا ترد دعوتهم» ومنهم: «دعوة الوالدين...» (رواه الترمذي وغيره وحسّنه الألباني).

• ما أحوج الجيران إلى العفو والتسامح فيما بينهم ونبذ الخلافات والأحقاد والعمل على العيش الكريم للجميع والتعاون وعدم الأذية للجيران، فقد ورد في الحديث التشديد على من يؤذي جيرانه: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن». قالوا: من يا رسول الله؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه» (رواه مسلم).

وكذلك تلمُّس أحوالهم والتعاون معهم فقد ورد في الحديث: «ليس مِنَّا من بات شبعان وجاره جائع» (رواه الطبراني)، وقدوتنا في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف كان يعامل جيرانه وهم من اليهود رغم أذيتهم له إلا أنه بادل الإساءة بالإحسان.

• ما أحوج العلماء اليوم إلى تعليم الناس الخير وبذله والتضحية من أجله والمصداقية في ذلك بعيداً عن الحزبية والطائفية والمذهبية الضيقة والسعي إلى جمع الكلمة والعيش والتعايش بين الناس ونشر ثقافة التسامح بين الناس والبدء بأنفسهم وتطبيق هذه الثقافة واقعاً في حياة علماء المسلمين باختلاف مذاهبهم وأفكارهم وتياراتهم الحزبية والفكرية والعمل على جمع الكلمة ولمَّ الصف وإبراز ذلك في الخطاب الديني المعتدل والوسطي والمتمسك بالقيم.

• ما أحوج العوام اليوم إلى الأخذ بهذه الثقافة والعمل بها وتطبيقها واقعاً في حياتهم والالتفات حول العلماء والمصلحين والمنصفين في ذلك ودعمهم والوقوف معهم والتعاون في ذلك.

• ما أحوج الحكومات إلى نشر هذه الثقافة عن طريق القنوات والإعلام والصحف والمجلات وضبطها بضوابط تعود بالنفع على الناس ونشر ثقافة التسامح والحب والاحترام وتقبُّل الآخر ونبذ الحسد والحقد وتصفية الحسابات والمناكفات السياسية والحزبية كل يخدم جماعته وحزبه على حساب الآخر دون إنصاف أو حب أو احترام أو قبول للآخر على العكس من ذلك تصفية حسابات وازدياد الفجوة بين الحاكم والمحكوم والرئيس والمرؤوس وكذلك بين الأحزاب والجماعات والتيارات المختلفة.

وكذلك على مستوى الدول المتجاورة فيما بينها البين كما هو الحال اليوم.

• فما أحوجنا اليوم لهذه الثقافة ونشرها بين الناس والمجتمعات ليسود الأمن والحب والحياة السعيدة وتبرز القيم والأخلاق الفاضلة التي نبحث عنها في مجتمعاتنا اليوم فلا نكاد نجدها بسبب ثقافة الكره والحقد والتناحر والصراع والحسد وكذلك الأنا وحب الذات.



 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام