تهافت الوضعية وشموخ المعيارية الإسلامية
المعيارية الإسلامية على النقيض من الوضعية العلمانية، فهذه المشكلات المعرفية التي أفرزتها عقدة الصراع إنما تُعبِّر عن هموم الغرب، وهي خاصية من خصوصياته المعرفية التي وجهت معارفه وعلومه وانعكست على تصرفاته وتصوراته. ولا يصح البتة جعلها مشكلة كونية تفرض نفسها على ثقافات ذات مرجعيات وخصوصيات مغايرة، كما هو الحال مع المنهجية الإسلامية المعيارية الشامخة التي بُنِيَت على أسس من الوئام الفكري، والانسجام الكامل بين ما هو عقلي وديني وحسي ووجداني.
وبهذا تم عزل الدين، ونشأ المنهج الوضعي الذي تقوم فلسفته على رؤية لادينية ولا يعتمد على الوحي كمصدر من مصادر المعرفة.
لهذا تجد كافة طوائف العلمانية واللبيرالية تسقط التجربة المسيحية على ثقافتنا الإسلامية ومجتمعاتنا العربية؛ والتي تقوم على تبني مقولات الوضعية بضرورة تجاوز الفكر والعقيدة الدينية الإسلامية من الطرح السياسي، ولا تحسب تخبط هؤلاء العلمانيين والليبراليين في رؤيتهم لما يجب أن تأخذ به المجتمعات الإسلامية والعربية إلا ناتج طبيعي لتناقض في النسق البنائي للوضعية ذاتها منذ جيل المؤسسين وللآن.
فالوضعية باختصار تختزل الحقيقة الإنسانية في جوانبها المادية المحسوسة ولا تؤمن إلا بالحقائق الحسية ومجموع العناصر المتفاعلة والفعالة في الحياة الإنسانية في عناصرها الملموسة، والخطير في الوضعية أنها لم تقف عند حد أنها أداة معرفية بل استعملت كأداة أيديولوجية للوقوف في وجه الدين، فأصبحت توظف المفاهيم العلمية لعلمنة أساليب التفكير وإعادة تفسير كل الظواهر الإنسانية بما في ذلك الدين والأخلاق وفق المنهج الوضعي.
والمشكلة الكبرى التي يعاني منها الغرب في علومه الاجتماعية والإنسانية، أنها لا تمللك الإطار المرجعي الموحد، بل وتنكر أن يكون هناك منهج علمي آخر يملك هذه الخاصية.
لماذا وجدت المناهج الوضعية في بلادنا؟
أولاً: الفراغ العلمي الذي وجد فكان لابد من استيراد العلوم الغربية ومناهجها بدون تغيير ولا تعديل.
ثانياً: الانكسار زمن الاحتلال الاستدمارى عقب سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية وما أحدثته الصدمة الحضارية التي أنتجت رجال البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا والتي بدلاً من أن تنقل التكنولوجيا نقلت لنا الفكر الغربي ومناهجه الوضعية، ونفس الشيء حدث في باقي العالم الإسلامي.
والوضعية والعلمانية في الغرب جاءت كنتيجة أزمة في الأسس والخلفيات والصراعات الاجتماعية مع رجال الدين؛ لهذا يجب وضع المنهج الغربي الذي طبق في العلوم الإنسانية والتطبيقية في إطاره التاريخي لكشف الحيثيات التاريخية التي كان لها النصيب الأوفر في توجيه هذا المنهج إلى الاستقرار في صياغته الأخيرة، وهي صياغة ذات بعد أيديولوجي أكثر منه علمي؟ بحسب كلام الدكتور محمد امزيان. فإذا كانت الكنيسة قد فرضت النمط الديني في السياسة والاجتماع والتعليم والفن والبحث العلمي.
فإذا كانت قد فعلت ذلك باسم الدين فإن حركة علمانية الحكومة والمؤسسات الإدارية والتشكيلات الاجتماعية تعني تحويل المجتمع والحياة الاجتماعية إلى حياة إنسانية، وتجعل من الإنسانية شرطاً في الحياة بدلاً من الكاثوليكية. ومن هنا فإن من المنطقي أن الفكر المحب للإنسانية لابد أن يكون علمانيا ولا يسعه إلا ذلك؟
ثم جاءت الثورة الفرنسية والتي لولاها لما أمكن أن توجد الفلسفة الوضعية. وقد شكّلت هذه الثورة عنصر الحسم في تأطير البنية الفكرية للغرب وفق شروط الغرب الثقافية الممتدة في تاريخه السياسي والديني، ومن ثم جاءت هذه المناهج انعكاساً طبيعياً لتلك المؤثرات.
العلمانية في بلادنا
العلمانية في بلادنا قامت كنوع من المحاكاة والتبعية، لهذا فهي مجرد تمثيل لما أنتجته العقول الغربية في ظل الوضعية العلمانية. والاتجاه الوضعي العلماني في بلادنا قام بتبني نفس الأفكار وبنى أفكاره على تجربة المناهج الغربية في صراعها المرير مع الديني المتخلف في أوروبا، فتبنوا مقولاته الوضعية في كافة الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
والخطأ الأساسي للتفكير العلماني في بلادنا أنه تجاهل الفروق الجوهرية بين البيئة الفكرية والعقائدية بين الإسلام والمسيحية الغربية، ووقع في طريقة عرضه لبحوثه في الدراسات الاجتماعية ومستويات تحليلاته الوضعية في أخطاء علمية، قامت على قطيعة علمية مع تراثنا الإسلامي، بل برَّروا تقليدهم لهذا المنهج الوضعي بالعامل الزمني لثقافة العصور الوسطى وطريقة تفكيره، وهو المُبِّرر الذي تبناه العلمانيون كبديل منهجي.
فالأساس المشترك بين العلمانيين هو تجاوز نصوص الوحي وتعاليم الشريعة وتشريعاتها؟ بحجة أن منهجهم الوضعي يتجاوز التفكير الديني بما يدعونه من أساليب التفكير العلمي.
وهذه مقدمة غير صحيحة؛ ففي نفس هذه الفترة المتوسطية كان هناك تباين بين واقعين مغايرين تماماً بين بلاد الإسلام وواقع أوروبا، وصل الأمر إلى أن يرحل بعض باباوات الكنيسة إلى قرطبة وغيرها من مدن الحضارة الإسلامية لنقل المنهج التجريبي في العلوم التطبيقية. وكانت عواصم العلم مثل قرطبة وبغداد والقاهرة والقيروان وغيرها منارات حضارية تهدي العالم، وخاصة أووربا.
وهذا باعترافهم؛ لكن الغريب والعجيب أن قافلة العلمانيين وأتباع الاستدمار الحديث في بلادنا يريدوننا أن نأخذ بأساليب النهضة الأوروبية في العصور الوسطى وهذا ينم على جهلهم بواقع هذه الفترة وما كانت تُمثِّله عندنا وعندهم!
لكن الخطأ الأساسي لمن نقلوا العلوم والمناهج الإسلامية من الأوروبيين في العصور الوسطى عزلوها عن أهم أسسها الأخلاقية والعقائدية، وهذا يعكس سِرّ أزمتهم الحضارية الآن؛ إذ أن تجاهل هذه الفوارق الكامنة بين الطرح الإسلامي العلمي المنطقي في العصور الوسطى في مقابل العرض الأسطوري الميثودلوجى المتناقض والمناقض للأسس العلمية والمبادئ العقلية التي كانت تطرحها الكنيسة القائل بالتطابق بيننا غاية في الجهل والتحيز الغير علمي.
فالصراع المفتعل بين الديني والسياسي من قبل العلمانيين مبني على الزيف العلمي، بل يستبعد الأسلوب العلمي ويؤكد الاستلاب الحضاري والفكري الذي يعيشونه، ويعكس رغبتهم في تعميم التجربة الأوروبية الكنسية على واقعنا الحضاري والثقافي، والتي لا وجود لها على هذه الصورة في تاريخنا الثقافي.
علم الاجتماع الاستعماري وعلاقته بالفكر الوضعي العلماني:
فبالإضافة إلى تضخم الفكر الوضعي وذاتيته التي يحاول أن يرتفع فيها عن التاريخ والحقائق كما هي في واقع الأمر، فهو أسير النزعة الذاتية التي تملئ على المفكر العلماني الوضعي أفكاره وقناعته المذهبية. والأخطر من ذلك قيامه بخدمة أهداف قوى الاستدمار الحديث والعمل لمصلحتها، فهناك فرع في علم الاجتماع يسمى علم الاجتماع الاستعماري، الاستدمارى، والذي عقد أول مؤتمر دولي له بباريس سنة 1900م وكان موضوعه دراسة المسائل الأخلاقية والمجتمعية المرتبطة بحركة الاستعمار.
فهل ترى دور العلمانيين مازال مستمرا في بلادنا؟ ولماذا يتحاشوا عند المناقشة الاتهام بالخيانة وإطلاق الأحكام الشرعية على مواقفهم الفكرية والسياسية؟
فقط راجع حالة الدكتور عمرو حمزاوي في العديد من حواراته مع الإسلاميين دائما يكرر لا داعي للتخوين والاتهام بالعمالة أو التكفير... إلخ. وقد مثّل هذا الفرع من علم الاجتماع الاستعماري في أمريكا، كيسنجر وفي فرنسا مونتانى، وفي إيطاليا بريتو، وفي بريطانيا أيفانز برتشارد، وفي ألمانيا ماكس فيبر، وهذه المدرسة لها فروعها في عالمنا الإسلامي والعربي ومندوبيها.
دور العلمانيين في بلادنا وفقا لفرع علم الاجتماع الاستعماري الاستدمارى:
تحطيم البنيات الاجتماعية والثقافية للبلاد الإسلامية لتصبح سوقاً استهلاكية لقيمه وثقافته، وتحويل الإنسان المسلم إلى تابع ومقلد لأفكار لا تنتمي إلى بيئته ولا قيمه.
وعلى حد قول شريعتي: "حسب هؤلاء المفتونين أنهم يقومون بحركة نضالية ضد الدين والقديم والتاريخ والتقاليد وأشكال الحياة الإسلامية وكأنهم يقلدون دور فولتيير ودويدر وغيرهما في مجتمعاتنا الإسلامية!".
والمتأمِّل في هذه الدعوات يجدها في خدمة الاستعمار الاستدمارى الحديث، ولعل حالات تبرير دخول أمريكا للعراق وأفغانستان لها نصيب من هذه الدعاية.
والأغرب أن تسمع جيمس بلفور صاحب الوعد المشئوم يمن على بلادنا ومجتمعاتنا فيقول: "إن الاتهام القائل بأننا أوقعنا ظلماً بالعرب اتهام غير صحيح".
ثم يقول: "لقد أقمنا مُلكاً في العراق ومن قبله في الحجاز، وقد فعلنا للعرب ما لم يفعله أحد طوال القرون التي خلَت حتى بوأناهم ما هم فيه الآن".
كما أن هؤلاء العلمانيين يقومون بإرهاق المجتمعات الإسلامية بجدل سفسطائي لا طائل من ورائه سوى تضييع عمر الأجيال، وإلا ماذا قدّموا طوال 212 سنة منذ إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية من نهضة تكنولوجية وعلمية في مصر وفي طول العالم الإسلامي وعَرضه؟
ففي التجربة المصرية منذ محمد علي للآن 212 سنة ماذا كانت النتائج، فقط عملوا مندوبين لهذا الفرع لعلم الاجتماع الاستعماري؟ لأن هذه القوى لا تسمح لنا بنقلها؟
يجب ألا ينتظر، فمن يريد التقدم لا يحتاج إذنا من أحد، وإلا فهذا هو الاستقلال الصوري من قوى الاستعمار الاستدمارى، وبقائه فكراً وسياسيةً وثقافةً وتعليماً وسبباً في تخلفنا. فضلاً عن الإرادة السياسية المرتهنة له والتي ظل يدعمها على طوال هذا التاريخ الفكر العلماني ومنهجه الوضعي.
المعيارية الإسلامية وشموخها:
المعيارية الإسلامية على النقيض من الوضعية العلمانية، فهذه المشكلات المعرفية التي أفرزتها عقدة الصراع إنما تُعبِّر عن هموم الغرب، وهي خاصية من خصوصياته المعرفية التي وجهت معارفه وعلومه وانعكست على تصرفاته وتصوراته. ولا يصح البتة جعلها مشكلة كونية تفرض نفسها على ثقافات ذات مرجعيات وخصوصيات مغايرة، كما هو الحال مع المنهجية الإسلامية المعيارية الشامخة التي بُنِيَت على أسس من الوئام الفكري، والانسجام الكامل بين ما هو عقلي وديني وحسي ووجداني.
فلا صراع مع الدين البتة وفق المعيارية الإسلامية. وسأدع أوجست كونت يجيب ويقرر حقيقة علمية للمنهج الإسلامي، يقول كونت: "في الوقت الذي كان الغرب المسيحي مشغولاً بقضايا لاهوتية عقيمة، كان العالم الإسلامي يتفتح عن العلم والمعرفة والفنون واصلا اجتماعياته جنباً إلى جنب مع روحانياته... إن التفوق الاجتماعي وأهميته في التعاليم الإسلامية أهّلت المسلم ليكون أكثر صلاحية من غيره اجتماعياً وأهلته للعالمية"، يالله للعالمية الكونية ويضيف كونت أيضاً في نفس كتابه، (نسق السياسية الوضعية؛ ص: [479و560]).
وهنا في (ص: 470]) قوله: "إن العبقرية الإسلامية قلما تتعارض مع الحديث النهائي للدين الوضعي حيث إنها دائماً تتطلّع متصعدة نحو الواقع عن طريق اتجاهها العلمي وعقيدتها المبسطة".
ويقول سيمون قبل كونت مادحاً الأسس المعرفية الإسلامية: "إن سقوط النظام الكنسي حدث مع إدخال العلوم والمعرفة الإسلامية إلى أوروبا عن طريق العرب وقد خلق هذا بذرة الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماماً...".
ثم يقول: "انطلاقاً من القرن 13م كان روجر بيكون يدرس الفيزياء بشكلٍ رائع، بل ذهب اثنان من الباباوات في نفس الفترة إلى قرطبة ليتموا تعليمهم مع دراسة العلوم القائمة على الملاحظة والتجربة على يد أساتذة العرب".
مثل هذه الاعترافات الغربية الكثيرة تجعل الفكر العلماني في عالمنا الإسلامي والعربي في موقف محرج، وبهذا الصدد يقول منير شفيق: "العلمانيون ومنهجهم الوضعي الذي يعمل لخدمة الاستعمار، وإنهم يعتمدون على التجربة الأوروبية ويسحبونها على الإسلام وهم بذلك يحاولون أن يفرضوا التشابه على غير المتشابه ويجعلون وطنهم يكرّر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى وضمن ظروف ومعطيات مختلفة وفى تقليد يجانب الأصالة والاستقلال والإبداع" (في كتابه: الإسلام في معركة الحضارة؛ ص: [184]).
وفى الختام: يقول الدكتور محمد آمزيان: "إن المحاكاة وعدم الوعي بالذات كانت وراء الكثير من الهزائم الفكرية... وقد وقف الفكر العلماني على أرضٍ لم تكن أرضه ولن تكون، ودافع عن فكر لم يكن فكره لم ولن يكون، ولن يكون نابتاً من أرضه وانتصر لقيم ليست قيمه، وظل وعيه العقائدي غائباً عن ممارسة رقابته"
لهذا فالدعوة إلى ضرورة التزام المعيارية الإسلامية في علم ألاجتماع لن تكون خجولة أمام الاعتراضات الشديدة، التي تواجهها وإنما يجب أن يتم طرحها على أساس أنها تشكِّل تحدياً يتجاوز النظرة الاجتماعية نفسها.
والذي أعنيه بالمعيارية الإسلامية وفق المفهوم الإسلامي وهي التي تستند إلى الوحي نفسه الذي يتجرد من كل النزعات الشخصية والذاتية، وهذا هو الفارق الأساسي بين المعيارية الإسلامية وأية معيارية أخرى فهي معيارية شامخة بقيمها واستقلالها المعرفي ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وفي كافة أنواع المعارف تستمد شموخها واستعلائها من منهج ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
- (منهج البحث في العلوم الاجتماعية بين الوضعية والمعيارية، رسالة دكتوراه نوقشت في كلية دار العلوم بمصر ونشرها المعهد العلمى للفكر الإسلامى).
- (نقد مناهج العلوم الإنسانية وخطوات صناعة مناهج إسلامية) -له أيضاً-.
- التصنيف: