المستظلون السبعة

منذ 2013-11-01

في يوم تدنى فيه الشمسُ من رؤوس الخلائق قدر ميل، وقد حفيت أقدامهم، وعريت أبدانهم، وحسرت رؤوسهم، وبلغ بهم العرق مبلغ الإلجام، وهم ينتظرون فصل ربّ العالمين...فليس ثَمَّ إلا ظلُّ ربّ العزة والجلال، لا يَستظِلُّ فيه إلا من سبقت له الحسنى من ربه؛ فتَقبَّلَ منه صالحة أوجبت له الزلفى لديه؛ كرماً منه سبحانه وفضلاً.




تعلق القلب بالمسجد: «ورجل قلبه معلق بالمساجد»، وفي رواية مالك: «إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ»، فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ؛ فكأنما قلبه قنديلٌ قد عُلِّق في المسجد. وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يَقصِرُ نفسَه عَلَى محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدّم عَلِيهِ محبةَ مولاه؛ فكان ممن كَمُلَ له عمارةُ المساجد بالصلوات الخمس واستحق مدحَ الله في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36-38].

ورابع الأوصاف:


تصفية المحبة لله: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» فالمتحابان فِي الله جاهدا نفسيهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه، وهذا عزيز جداً؛ إذ الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضَها من الدنيا.

ولن يتحابا فِي الله حَتَّى يجتمعا فِي الدنيا فِي ظل الله المعنوي، وَهُوَ تأليف قلوبهما عَلَى طاعة الله وإيثارِ مرضاته وطلبِ مَا عنده؛ فلهذا اجتمعا يوم القيامة فِي ظل الله الحسي. ومدار هذه المحبة على طاعة الله التي اجتمعا عليها حال الحياة وافترقا عليها حال الموت؛ وبهذا وفَّيا المحبةَ كمالَها.
وضابطها -كما قال أهل العلم-: ألا تزيد ببر الدنيا ولا تنقص بإساءتها.

وخامس الأوصاف:


العفة عن الفاحشة مع تيسرها وقوة داعيها: «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ».

فالداعية إلى الفاحشة امرأة جميلة رفعية القدر في الدنيا، والمانع من إجابتها خوف الله، الذي تواطئ عليه قلب ذلك العفيف وقوله؛ فكان لسان حاله ومقاله واعظاً لتلك المرأة؛ علّها أن ترعويَ عن غيّها، وتثوبَ إلى رشدها؛ فنال بتلك العفة الكاملةِ الناشئةِ عن خوف ربه رضاه؛ فأظله في ظله.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الإخوة في الله؛


وسادس أوصاف:

من «يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تعالى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ إخفاء الصدقة: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» ذاك رَجُل تصدق بصدقة قليلة كانت أو كثيرة، فاجتهد فِي إخفائها غاية الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله، وضُرِبَ المثلُ لذلك الإخفاء عَلَى طريق المبالغة: «حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه».

وهذا دليلُ قوةِ الإيمان والاكتفاءِ باطلاع الله عَلَى العبد وعلمه بِهِ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس؛ فإنها تحب إظهار الصدقة والتمدَّحَ بِهَا عِنْدَ الخلق، فيُحتاج فِي إخفاء الصدقة إلى قوة شديدةٍ تخالف هوى النفس، يقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ عز وجل الْأَرْضَ، جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ، فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّارُ قَالَتْ: يَا رَبِّ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الرِّيحُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ» (رواه أحمد، وحسّنه ابن حجر).

هكذا يكون كمال الصدقة، ولا يستحسن إظهارها إلا فيما ظهرت مصلحة إظهاره.

وسابع الأوصاف:

البكاء من ذكر الله حال الخلوة: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، فهذا رَجُلٌ يخشى الله فِي سِرّه، ويراقبه فِي خلوته، وذلك كمال الخشية. وأفضلُ الأعمال خشية الله فِي السِّر والعلانية. وخشية الله فِي السِّر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى داعٍ لاقتراف ذنوب الخلوات؛ ولذا قيل: "إن من أعزّ الأشياء الورعَ فِي الخلوة".

وذكر الله حال الخلوة يشمل ذكر قوته وبطشه وعقابه واطلاعه والحياء منه؛ وينشأ من ذلك بكاء الخوف، ويكون ذلك الذكر ذكراً لألطافه ونعمته ورحمته وبره؛ وينشأ من ذلك بكاء الشوق والرجاء. وكلها مشمولة في معنى الحديث وفضله. ولا يشترط في هذا الذكر نطق اللسان، بل يكفي ذكر القلب، وإن تواطأ اللسان معه فخير ضُمّ لخير.

هذا؛ وإن الفضل الوارد في الحديث لا يحصر في الرجل؛ فالمرأة لها ما له فيه إلا في الولاية العظمى وتعلق القلب في المسجد؛ إذ ليست من أهلها شرعاً.

أيها الأخ؛ هذه سبع من أسباب الاستظلال بظل الله، وثمّ غيرها، فاظفر بواحدة منها تفز بذلك الظل يوم الحرّ الشديد، وإن علت همتك فاضرب فيها بأكثر من سهم؛ فتلك تجارة رابحة وفضل مدخر ليومٍ شديدِ الفاقة.