قِصَّةُ أبْ

منذ 2013-11-06

دخل عليّ أمس بعدما انصرف كتّاب المحكمة ولبست معطفي رجل كبير في السن يسحب رجليه سحباً لا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر، فسلّم ووقف مستنداً إلى المكتب، وقال: إني داخل على الله ثم عليك أريد أن تسمع قصتي وتحكم لي على من ظلمني.

 

دخل عليّ أمس بعدما انصرف كتّاب المحكمة ولبست معطفي رجل كبير في السن يسحب رجليه سحباً لا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر، فسلّم ووقف مستنداً إلى المكتب، وقال: إني داخل على الله ثم عليك أريد أن تسمع قصتي وتحكم لي على من ظلمني.
قلت: تفضل، قل أسمع.
قال: على أن تأذن لي أن أقعد فوالله ما أطيق الوقوف.
قلت: اقعد وهل منعك أحد من أن تقعد؟ اقعد يا أخي فإن الحكومة ما وضعت في دواوينها هذه الكراسي وهذه الأرائك الفخمة إلا ليستريح عليها أمثالك من المراجعين الذين لا يستطيعون الوقوف. ما وضعتها لتجعل من الديوان (قهوة) يؤمها الفارغون ليشتغل الموظف بحديثهم عن أصحاب المعاملات ويضاحكهم ويساقيهم الشاي والمرطبات والناس قيام ينتظرون لفتة أو نظرة من الـ(بك).
لا، لسنا نريدها (فارسية) كسروية في المحكمة الشرعية فاقعد مستريحا فإنه كرسي الدولة ليس كرسي أبي ولا جدي، وقل ما تريد.

قال: أحب أن أقص القصة من أولها فأرجو أن يسعني صبرك ولا يضيق بي صدرك، وأنا رجل لا أحسن الكلام من أيام شبابي فكيف بي الآن وقد بلغت هذه السن، ونزلت علي المصائب، وركبتني الأمراض، ولكني أحسن الصدق ولا أقول إلا حقاً.
كنت في شبابي رجلاً مستوراً أغدو من بيتي في حارة (كذا) على دكاني التي أبيع فيها الفجل والباذنجان والعنب وما يكون من (خُضر) الموسم وثمراته فأربح قروشاً معدودات أشتري بها خبزي ولحمي وآخذ ما فضل عندي من الخُضر فيطبخه (أهل البيت) ونأكله وننام حامدين ربنا على نعائمه لا نحمل هماً ولا نفكر في غد ولا صلة لنا بالناس ولا بالحكومة ولا نطالب أحداً بشيء ولا يطلب منا شيئاً، ولم أكن متعلماً ولا قعدت في مدرسة ولكني كنت أعرف كيف أصلي فرضي وأحسب دراهمي... ولقد عشت هذا العمر كله ولم أغش ولم أسرق ولم أربح إلا الربح الحلال وما كان ينغّص حياتي إلا أنه ليس لي ولد فجرّبنا الوسائل وسألنا القابلات ولم يكن في حارتنا طبيب ولم نحتج إليه فقد كان لنا في طب (برو العطار) وزهوراته وحشائشه ما يغنينا عن الطبيب والصيدلي.
وإذا احتجنا إلى خلع ضرس فعندنا الحلاق، أما أمراض النساء فمردّ أمرها إلى القابلة ورحم الله أم عبد النافع قابلة الحارة فقد لبثت أربعين سنة تولّد الحاملات ولم تكن تقرأ ولا تكتب.
أقول: إنّا سألنا القابلات والعجائز فوصفن لنا الوصفات فاتخذناها وقصدنا المشايخ فكتبوا لنا التمائم فعلقناها فلم نستفد شيئا، فلم يبق إلا أن ننظر أول جمعة في رجب لنقصد (جامع الحنابلة) فلما جاءت بعثت (أهل البيت) فقرعت حلقة الباب وطلبت حاجتها فنالت طلبها -خرافة دمشقية وثنية من آمن لها أو بأمثالها من الخرزة الزرقاء لرد العين والسحر والشعوذات واعتقد أن لغير الله نفعاً أو ضرراً فيما وراء الأسباب الظاهر فقد خالف الإسلام- فنالت طلبها وحملت.

وصرت أقوم عنها بالثقيل من أعمال المنزل لأريحها خشية أن تسقط حملها وأجرمها وأدللها وصرنا نعدّ الأيام والساعات حتى كانت ليلة المخاض فسهرت الليل كله أرقب الوليد فلما انبلج الفجر سمعت الضجة وقالت (أم عبد النافع): البشارة يا أبا إبراهيم! جاء الصبي.
ولم أكن أملك إلا ريالاً مجيدياً واحداً فدفعته إليها.
وقلّبنا الصبي في فرش الدلال، إن ضحك ضحكت لنا الحياة، وإن بكى تزلزلت لبكائه الدار، وإن مرض اسودّت أيامنا وتنغّص عيشنا، وكلما نما أصبعاً كان لنا عيد وكلما نطق بكلمة جدّت لنا الفرحة وصار إن طلب شيئاً بذلنا في إجابة مطلبه الروح... وبلغ سن المدرسة فقالت أمه: إن الولد قد كبر فماذا نصنع به.
قلت: آخذه إلى دكاني فيتسلى ويتعلم الصنعة.
قالت: أيكون خضرياً.
قلت: ولم لا؟ أيترفع عن مهنة أبيه.
قالت: لا والله العظيم! لا بد أن ندخله المدرسة مثل عصمة ابن جارنا سموحي بك. أريد أن يصير (مأموراً) في الحكومة فيلبس (البدلة) والطربوش مثل الأفندية.
وأصرّت إصراراً عجيباً فسايرتها وأدخلته المدرسة وصرت أقطع عن فمي وأقدم له ثمن كتبه فكان الأول في صفه فأحبه معلموه وقدروه وقدّموه.
ونجح في الامتحان ونال الشهادة الابتدائية فقلت لها: يا امرأة! لقد نال إبراهيم الشهادة فحسبنا ذلك وحسبه ليدخل الدكان.
قالت: يوهْ! ويلي على الدكان... أضيّع مستقبله ودراسته؟! لا بد من إدخاله المدرسة الثانوية.
قلت: يا امرأة من علّمك هذه الكلمات؟ ما مستقبله ودراسته؟ أيترفع عن مهنة أبيه وجده؟ قالت: أما سمعت جارتنا أم عصمة كيف تريد أن تحافظ على مستقبل ابنها ودراسته؟
قلت: يا امرأة اتركي البكوات. نحن جماعة عوام مستورون بالبركة فما لنا وتقليد من ليسوا أمثالنا.
فولولت وصاحت. ودخل الولد الثانوية وازدادت التكاليف فكنت أقدمها راضياً... ونال البكالوريا.
قلت: وهل بقي شيء.
قال الولد: نعم يا بابا. أريد أن أذهب إلى أوروبا.
قلت: أوروبا؟ وما أوربا هذه.
قال: إلى باريس.
قلت: أعوذ بالله تذهب إلى بلاد الكفار والله العظيم إن هذا لا يكون.
وأصر وأصررت وناصرته أمه فلما رأتني لا ألين باعت سواري عرسها وقرطيها وذلك كل مالها من حلي اتخذتها عدة على الدهر ودفعت ثمنها إليه فسافر على الرغم مني.
وغضبت عليه وقاطعته مدة فلم أردّ على كتبه ثم رق قلبي وأنت تعلم ما قلب الوالد وصرت أكاتبه وأساله عما يريد... فكان يطلب دائما.
أرسل لي عشرين ليرة... أرسل لي ثلاثين... فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار وأرسل إليه ما يطلب.
وكان رفاقه يجيئون في الصيف وهو لا يجيء معهم فأدعوه فيعتذر لكثرة الدروس وأنه لا يحب أن يقطع وقته بالأسفار.
ثم ارتقى فصار يطلب مئة ليرة... وزاد به الأمر آخر مرة فطلب ثلاثمائة.

تصور يا سيدي ما ثلاثمائة ليرة بالنسبة لخضري تجارته كلها لا يساوي ثمنها عشرين ليرة وربحه في اليوم دون الليرة الواحدة؟ ويا ليته كان يصل إليها في تلك الأيام التي رخت فيها الأسعار وقل العمل وفشت البطالة ثم إنه إذا مرض أو اعتل علة بات هو وزوجته على الطوى.
فكتبت إليه بعجزي ونصحته ألا يحاول تقليد رفاقه فإن أهلهم موسرون ونحن فقراء فكان جوابه برقيّة مستعجلة بطلب المال حالاً.
وإنك لتعجب يا سيدي إذا قلت لك أني لم أتلق قبلها برقية في عمري فلما قرع موزع البريد الباب ودفعها إلي وأخذ إبهام يدي فطبع بها في دفتره انخرطت كبدي في الخوف وحسبتها دعوة من المحكمة وتوسلت إليه وبكيت فضحك الملعون مني وانصرف عني، وبتنا بشر ليلة ما ندري ماذا نصنع ولا نعرف القراءة فنقرأ ما في هذه الورقة الصفراء حتى أصبح الله بالصباح ولم يغمض لنا جفن وخرجت لصلاة الغداة فدفعتها لجارنا عبده أفندي فقرأها وأخبرني الخبر ونصحني أن أرسل المبلغ فلعل الولد في ورطة وهو محتاج إليه.
فبعت داري بنصف ثمنها أتسمع يا سيدي؟ بعت الدار بمائتي ليرة وهي كل ما أملك في هذه الدنيا واستدنت الباقي من مرابٍ يهودي دلوني عليه بربا تسعة قروش على كل ليرة في الشهر أي أن المائة تصير في آخر السنة مائتين وثمانية! وبعثت إليه وخبرته أني قد أفلست.
وانقطعت عني كتبه بعد ذلك ثلاث سنوات ولم يجب على السيل من الرسائل التي بعثت بها إليه.
ومر على سفره سبع سنين كوامل لم أر وجهه فيها وبقيت بلا دار ولاحقني المرابي بالدين فعجزت عن قضائه فأقام علي الدعوى وناصرته الحكومة عليّ لأنه أبرز أوراقاً لم أدر ما هي فسألوني: أأنت وضعت بصمة أصبعك في هذه الأوراق.
قلت: نعم. فحكموا علي بأن أعطيه ما يريد وإلا فالحبس. وحبست يا سيدي. نعم حبست وبقيت (المرأة) وليس لها إلا الله فاشتغلت غسّالة للناس وخادمة في البيوت وشربت كأس الذل حتى الثمالة.
ولما خرجت من السجن قال لي رجل من جيراننا: أرأيت ولدك؟ قلت: ولدي؟! بشّرك الله بالخير. أين هو؟ قال: ألا تدري يا رجل أم أنت تتجاهل؟ هو موظف كبير في الحكومة ويسكن مع زوجته الفرنسية داراً فخمة في الحي الجديد.
وحملت نفسي وأخذت أمه وذهبنا إليه وما لنا في العيش إلا أن نعانقه كما كنا نعانقه صغيراً ونضمه إلى صدورنا ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل. فلما قرعنا الباب فتحت الخادمة فلما رأتنا اشمأزت من هيئتنا وقالت: ماذا تريدون؟ قلنا نريد إبراهيم. قالت: إن البك لا يقابل الغرباء في داره اذهبا إلى الديوان. قلت: غرباء يا قليلة الأدب؟ أنا أبوه وهذه أمه.
وسمع ضجتنا فخرج وقال: ما هذا؟ وخرجت من وراءه امرأة فرنسية جميلة.
فلما رأته أمه بكت وقالت: إبراهيم حبيبي؟ ومدّت يديها وهمّت بإلقاء نفسها عليه. فتخلى عنها ونفض ما مسته من ثوبه وقال لزوجته كلمة بالفرنساوي، سألنا بعد عن معناها فعلمنا أن معناها (مجانين).
ودخل وأمر الخادمة أن تطردنا. فطردتنا يا سيدي من دار ولدنا.
وما زلت أتبعه حتى علقت به مرة فهددني بالقتل إذا ذكرت لأحد أني أبوه وقال لي: ماذا تريد أيها الرجل؟ دراهم؟ أنا أعمل لك راتباً بشرط ألا تزورني ولا تقول أنك أبي.
ورفضت يا سيدي وعدت أستجدي الناس وعادت أمه تغسل وتخدم حتى عجزنا وأقعدنا الكبر فجئت أشكو إليك فماذا أصنع.
فقلت للرجل: خبرني أولا ما اسم ابنك هذا وما هي وظيفته.
فنظر إليّ عاتباً وقال: أتحب أن يقتلني.
قلت: إن الحكم لا يكون إلا بعد دعوى؛ والدعوى لا تكون إلا بذكر اسمه.
قال: إذن أشكو شكاتي إلى الله.
وقام يجرّ رجله يائساً... حتى خرج ولم يعد.
 

علي الطنطاوي

الأديب المشهور المعروف رحمه الله تعالى