ختام العام

منذ 2013-11-07

إِنَّ كُلَّ يَومٍ يَمضِي وَيَنقَضِي، فَإِنَّمَا هُوَ نَقصٌ مِنَ الأَعمَارِ وَدُنُوٌّ مِنَ الآجَالِ، وَالعَجَبُ ممَّن يَفرَحُ بِعَجَلَةِ مُرُورِ الأَيَّامِ وَتُعجِبُهُ سُرعَةُ انقِضَائِهَا؛ لِيَنَالَ زِيَادَةً في رَاتِبٍ أَو يَعلُوَ دَرَجَةً في وَظِيفَةٍ، وَمَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ بِقَدرِ ذَلِكَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يَحزَنَ وَيَخَافَ وَيَتَحَرَّكَ قَلبُهُ، لاقتِرَابِهِ مِن مَصِيرِهِ وَقِيَامِ قِيَامَتِهِ


الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: في اختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ عِبرَةٌ، وَفي تَوَالي الأَيَّامِ وَتَصَرُّمِ الأَعمَارِ تَذكِرَةٌ، {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولي الأَبصَارِ} [النور: 44]. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً لِمَن أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. إِنَّهَا فُرَصٌ مَن فَاتَتهُ بِاللَّيلِ استَدرَكَهَا في النَّهَارِ، وَغَنَائِمُ مَن شُغِلَ عَنهَا بِالنَّهَارِ وَجَدَهَا في اللَّيلِ، وَمَن أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيرًا تَابَ في لَيلِهِ ممَّا اجتَرَحَهُ في نَهَارِهِ، وَاستَعتَبَ في نَهَارِهِ ممَّا قَصَّرَ فِيهِ في لَيلِهِ، «وإِنَّ اللهَ يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ حَتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا» (رواه مسلم).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ كُلَّ يَومٍ يَمضِي وَيَنقَضِي، فَإِنَّمَا هُوَ نَقصٌ مِنَ الأَعمَارِ وَدُنُوٌّ مِنَ الآجَالِ، وَالعَجَبُ ممَّن يَفرَحُ بِعَجَلَةِ مُرُورِ الأَيَّامِ وَتُعجِبُهُ سُرعَةُ انقِضَائِهَا؛ لِيَنَالَ زِيَادَةً في رَاتِبٍ أَو يَعلُوَ دَرَجَةً في وَظِيفَةٍ، وَمَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ بِقَدرِ ذَلِكَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يَحزَنَ وَيَخَافَ وَيَتَحَرَّكَ قَلبُهُ، لاقتِرَابِهِ مِن مَصِيرِهِ وَقِيَامِ قِيَامَتِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «القَبرُ أَوَّلُ مَنزِلٍ مِن مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِن نجا مِنهُ فَمَا بَعدَهُ أَيسَرُ، وَإِن لم يَنجُ مِنهُ فَمَا بَعدَهُ أَشَدُّ» (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ في تَقَلُّبِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ عِبرَةً وَأَيَّ عِبرَةٍ!! نَهَارٌ يَكُرُّ وَلَيلٌ يَمُرُّ، وَأَيَّامٌ تُطوَى وَأَعمَارٌ تَفنى، وَشَبَابٌ يَنقَضِي وَحَيَاةٌ تَنتَهِي، وَقُوَّةٌ تَزُولُ وَصِحَّةٌ تَحُولُ، أَحبَابٌ يَمضُونَ وَأَقَارِبُ يَدرُجُونَ، وَغَنِيٌّ يَفتَقِرُ وَصَحِيحٌ يَسقَمُ، وَعَزِيزٌ يَذِلُّ وَرَفِيعٌ يَنحَطُّ، وَدُوَلٌ تَسقُطُ وَرُؤُوسٌ تَخضَعُ، إِنَّهَا لأَحوَالٌ مُتَغَيِّرَةٌ وَأَوضَاعٌ مُتَغَايَرَةٌ، تَدعُو لِلعِبرَةِ وَتَبعَثُ في النُّفُوسِ العِظَةُ، أَلا فَمَا بَالُ الأَوقَاتِ تَضِيعُ في السَّعيِ وَرَاءَ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ؟ وَلِمَ تَزدَادُ الأَعمَارُ وَتَنقُصُ الآجَالُ وَنَحنُ مُقِيمُونَ عَلَى الغَفَلاتِ؟ وَعَلامَ يَشتَدُّ تَنَافُسُنَا فِيمَا يَفنى وَلا يَبقَى؟ وَلِمَ لا نَنهَى النُّفُوسَ عَنِ الهَوَى لِنَرِثَ جَنَّةَ المَأوَى؟ أَمَا إِنَّهُ تَوفِيقُ اللهِ لِمَن يَصطَفِيهِ مِن عِبَادِهِ، ممَّن كَانَ لَهُ أُذُنٌ تَسمَعُ وَقَلبٌ يَخشَى وَيَخشَعُ، وَرَزَقَهُ مَولاهُ عَقلاً يَعِي وَبَصِيرَةً تُمَيِّزُ، قَالَ تعالى: {إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَابِ . الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191،190]. وَقَالَ سبحانه: {إِنَّ في اختِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6]. وَقَالَ جل وعلا: {إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لِمَن يَخشَى}، وَقَالَ تعالى: {لَقَد كَانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُولي الأَلبَابِ} [النازعات: 26]. وَقَالَ سبحانه: {إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. وَقَالَ تعالى: {وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولي الأَبصَارِ} [آل عمران: 13].

نَعَم عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَزَقَهُمُ اللهُ عَمِيقَ التَّفَكُّرِ وَمَنَحَهُم دَقِيقَ التَّأَمُّلِ، وَبَارَكَ لهم في أَسمَاعِهِم وَأَبصَارِهِم وَبَصَائِرِهِم، إِنَّهُم هُمُ الَّذِينَ يُفِيدُونَ مِن مُرُورِ الأَيَّامِ وَيُنَبِّهُهُم تَعَاقُبُ السِّنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنتَفِعُونَ بِالأَحدَاثِ وَتُحَرِّكُ قُلُوبَهُمُ القَوَارِعُ، وَيَزدَادُونُ بِطُولِ الأَعمَارِ مَعرِفَةً لأَنفُسِهِم وَفَهمًا لِمَا حَولَهُم، وَأَمَّا مَنِ اشتَدَّت نَومَتُهُ وَاستَحكَمَت غَفلَتُهُ، وَأَحَاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَيَّدَتهُ سَيِّئَتُهُ، فَمَا لَهُ انتِبَاهٌ وَلا مُعتَبَرٌ {وَمَن لم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور:40]. {أَفَلَم يَسِيرُوا في الأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بها أَو آذَانٌ يَسمَعُونَ بها فَإِنَّهَا لا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَكِنْ تَعمَى القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُورِ} [الحج: 46].
.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ تَوَفُّرَ الفَرَاغِ مَعَ صِحَّةِ الجِسمِ، وَوَفرَةَ الغِنى مَعَ نَضَارَةِ الشَّبَابِ، إِنَّها لَنِعَمٌ عَظِيمَةٌ وَعَطَايَا جَسِيمَةٌ، وَلَكِنَّهَا عَوَارٍ مَردُودَةٌ وَفُرَصٌ مَحدُودَةٌ، إِنْ لم تُستَغَلَّ في طَاعَةٍ وَتُستَثمَرَ في قُربَةٍ، ذَهَبَت في مَعصِيَةٍ وَانقَضَت في نُقصَانٍ {كَلاَّ وَالقَمَرِ . وَاللَّيلِ إِذْ أَدبَرَ . وَالصُّبحِ إِذَا أَسفَرَ . إِنَّهَا لإِحدَى الكُبَرِ . نَذِيرًا لِلبَشَرِ . لِمَن شَاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 32-37]. وَمِن ثَمَّ فَقَد نَبَّهَ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَحَثَّ عَلَى اغتِنَامِها، وَحَذَّرَ مِنَ الغَبنِ فِيهَا وَخَسَارَتِهَا، فَقَالَ: «اِغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَياتَكَ قَبلَ مَوتِكَ» (رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَرَوَى التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتى يُسأَلَ: عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ، وَعَن عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ، وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ، وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ»، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).

وَقَد كَانَ مِن تَوجِيهِ اللهِ عز وجل لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام عِندَ الفَرَاغِ أَن يَنصَبَ في العِبَادَةِ، قَالَ تعالى: {فَإِذَا فَرَغتَ فَانصَبْ . وَإِلى رَبِّكَ فَارغَبْ} [الشرح: 8،7]. وَقَد فَعَلَ عليه الصلاة والسلام وَامتَثَلَ، وَكَانَت حَيَاتُهُ صُورَةً وَاقِعِيَّةً لأَمرِ رَبِّهِ الآخَرِ لَهُ حَيثُ قَالَ سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ} [الأنعام: 163،162].

فَيَا مَن أَضَاعَ الصَّلَوَاتِ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ، وَشَغَلَ عَينَهُ بِتَتَبُّعِ العَورَاتِ، وَأَمَاتَ قَلبَهُ تَنَاوُلُ الخَبَائِثِ وَالمُحَرَّمَاتِ، يَا مَن غَفَلَ عَن حَقِّ رَبِّهِ وَأَكَلَ حُقُوقَ النَّاسِ وَرَتَعَ في المَظَالِمِ، مَتى العَودَةُ إِلى رَبِّكُم؟ مَتى التَّوبَةُ مِن ذُنُوبِكُم؟ إِلى مَتى الغَفلَةُ وَالتَّسوِيفُ؟ إِلى مَتى الإِهمَالُ وَالتَّفرِيطُ؟
وَمَا أَقبَحَ التَّفرِيطَ في زَمَنِ الصِّبَا... فَكَيفَ بِهِ وَالشَّيبُ لِلرَّأسِ شَامِلُ
إِنَّ مَن عَلِمَ أَنَّهُ لَن يُجزَى بِغَيرِ عَمَلِهِ، وَلَن يَنفَعَهُ غَيرُ مَا قَدَّمَ لِنَفسِهِ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ، فَلَيسَ لَهُ إِلاَّ أَن يَجِدَّ وَيَجتَهِدَ وَيَحرِصَ عَلَى مَا يَنفَعُهُ وَلا يَعجَزَ، عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ جِبرِيلُ إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعمَلْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحبِبْ مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤمِنِ قِيَامُ اللَّيلِ وَعِزَّهُ استِغنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ" (رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).

فَاتَّقُوا اللهَ.. وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مَا دُمتُم في زَمَنِ الإِمهَالِ، مَن قَبلِ {أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِنْ كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ.أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ} [الزمر: 56- 58]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ} [المنافقون: 9- 11].

الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ . لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} [الحشر: 18- 20].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ وَإِن كَانَ المُؤمِنُ العَاقِلُ مُحَاسِبًا لِنَفسِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَإِنَّ اللَّبِيبَ لا يَنفَكُّ عَن مُحَاسَبَةِ نَفسِهِ وَلَو عَامًا بَعدَ عَامٍ، إِذْ بِمُرُورِ العَامِ بِأَشهُرِهِ وَأَيَّامِهِ وَمُنَاسَبَاتِهِ وَمُتَغَيِّرَاتِهِ، تَكُونُ النَّفسُ قَدِ اكتَسَبَت خِبرَاتٍ وَمَرَّت بها عِظَاتٌ، وَذَاقَت حَلاوَةً وَتَجَرَّعَت مَرَارَاتٍ، فَمِنَ العَقلِ أَن يَكُونَ لها في كُلِّ هَذَا وَاعِظٌ وَنَذِيرٌ، وَأَن يَتَأَمَّلَ صَاحِبُهَا في سَيرِهِ وَيَتَدَبَّرَ مَصِيرَهُ، هَل هُوَ ممَّن يُعطِي الحُقُوقَ وَيَلزَمُ الحُدُودَ؟ هَل هُوَ مُؤَدٍّ لِلوَاجِبَاتِ مُبتَعِدٌ عَنِ المُحَرَّمَاتِ؟ هَل هُو مِنَ المُحَافِظِينَ عَلَى رَأسِ المَالِ مِنَ الحَسَنَاتِ أَم أَنَّهُ مِنَ المُعتَدِينَ المُفلِسِينَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ؟ قَالُوا: المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).

أَلا فَاحرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى مَا افتَرَضَهُ اللهُ فَأَدُّوهُ وَلا تَنقُصُوهُ، وَقِفُوا عِندَ حُدُودِهِ وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ النَّوَافِلِ بما يَكُونُ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللهِ لَكُم وَتَوفِيقِهِ إِيَّاكُم، وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مَا تَجرِي بِهِ أُجُورُكُم بَعدَ رَحِيلِكُم، مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَو عِلمٍ نَافِعٍ أَو وَلَدٍ صَالحٍ، قَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ» (رَوَاهُ مَسلِمٌ وَغَيرُهُ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: تَنتَشِرُ في مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِن كُلِّ عَامٍ رَسَائِلُ عَبرَ الجَوَّالاتِ غَالِبًا، مَضمُونُهَا أَنَّ صَفحَةَ العَامِ سَتُطوَى، أَو أَنَّ الأَعمَالَ سَتُرفَعُ، وَمَن ثَمَّ يَحُثُّ مُرسِلُهَا القَارِئَ عَلَى خَتمِ عَامِهِ بِاستِغفَارٍ أَو صِيَامٍ أَو دُعَاءٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظهَرُ -وَالعِلمُ عِندَ اللهِ- أَنَّ هَذَا عَمَلٌ غَيرُ مَشرُوعٍ وَلا مَأجُورٍ صَاحِبُهُ عَلَيهِ؛ إِذْ هُوَ تَخصِيصٌ لِلعِبَادَةِ بِوَقتٍ وَزَمَنٍ لم يَرِدْ في الشَّرعِ تَخصِيصُهُ بِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلا يَخفَى أَنَّ العِبَادَاتِ مَبنَاهَا عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، لا عَلَى الاستِحسَانِ وَالرَّأيِ. وَأَمَّا عَرضُ الأَعمَالِ عَلَى اللهِ تبارك وتعالى فَصَحَّتِ الأَحَادِيثُ أَنَّهُ يَكُونُ في كُلِّ يَومٍ صُبحًا وَعَصرًا، وَفي كُلِّ أُسُبوعٍ في يَومِ الاثنِينِ وَالخَمِيسِ، وَوَرَدَ حَدِيثٌ صَحَّحَهُ بَعضُ العُلَمَاءِ أَنَّهَا تُعرَضُ في شَهرِ شَعبَانَ مِن كُلِّ عَامٍ، وَأمَّا الرَّفعُ النِّهَائِيُّ لِلعَمَلِ فَيَكُونُ بَعدَ انقِضَاءِ الأَجَلِ وَمَا أَعجَلَهُ!!

أَلا فَلْنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ، وَلْنَحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُنَا في كُلِّ زَمَانٍ وَآنٍ، أَمَّا ابتِدَاءُ العَامِ الهِجرِيِّ بِشَهرِ المُحَرَّمِ وَانتِهَاؤُهُ بِشَهرِ ذِي الحِجَّةِ، فَإِنَّمَا وَضَعَهُ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ المُلهَمُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه وَأَقَرَّهُ عَلَيهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَجمَعِينَ، وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ تَرتِيبًا لِلمَصَالحِ الدُّنيَوِيَّةِ وَحِسَابًا لِلسِّنِينَ، وَلِيُعرَفَ بِهِ رَمَضَانُ وَالحَجُّ، وَيُضبَطَ به حِسَابُ الزَّكَوَاتِ وَالعُدَدِ وَالكَفَّارَاتِ وَنَحوِهَا، قال سبحانه: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} [الحج: 189].

فَاللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لاغتِنَامِ الأَوقَاتِ بِالصَّالِحَاتِ...


عبد الله بن محمد البصري