فأين المروءة ؟!

منذ 2013-11-20

إن الحقيقة الغائبة عن كثير من المسلمين اليوم؛ أن امتحان الله تعالى لإخواننا المضطهدين المنكوبين في سوريا وبورما وفلسطين والعراق وغيرها، الذين يُسامون ألوان العذاب والموت؛ هو في واقع الأمر ابتلاء وامتحان آخر لأولئك المعافين المنعّمين في بيوتهم وأهليهم، وكشفاً لحقيقة إيمانهم وإسلامهم، أو على أقل تقدير كشف لمدى بقاء نوازع المروءة والرجولة في نفوسهم وقلوبهم.

 



جاء تعريف المروءة في (المعجم الوسيط؛ [2/860]) بأنها: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات.

أو هي: كمال الرجولة كما في (لسان العرب [1/154]).

وجاء في تعريفها كما ورد عند بعض السلف وقد سُئل عن المروءة فأجاب: "أن لا تعمل في السرِّ شيئاً تستحي منه في العلانية".


كما ورد في تعريفٍ آخرٍ أن المروءة تعني: اجتناب الرجل ما يشينه، واكتسابه ما يزينه.

وعلى كل حال فإن كثرة تعاريف المروءة واختلافها وعدم الاتفاق على تعريفٍ محددٍ لها دليلٌ واضحٌ على سمو منزلتها، وعظيم شأنها؛ لاسيما وأنها خُلقٌ كريم، وسلوكٌ قويم، وفضيلةٌ من الفضائل التي لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بتوافرها في سلوكه القولي والفعلي، نظراً لما تدل عليه من كمال الصفات ومحاسن الآداب؛ حتى قيل في شأنها: المروءةُ اسمٌ جامعٌ للمحاسن كلِّها.

لقد كان العرب قبل الإسلام يتسمون بالمروءة؛ ولذلك عرف السلف الصالح من المسلمين المروءة من جانبين، فقد عرفوها في الجاهلية قبل اعتناق الإسلام، ثم جاء الإسلام ليعزز تمسكهم بها وترسيخ التخلُّق والتحلي بها، وذلك تأكيداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» (البخاري؛ [4/140]).

لقد حفظت لنا كتب السيرة النبوية الشريفة قصصاً شتى في مروءة بعض العرب مع المسلمين قبل الإسلام، ففي سنوات حصار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبني هاشم في الشعب الذي دام ثلاث سنوات، قد مُنِع عنهم الطعام والشراب والبيع والشراء، بما يُشبه الحصار الاقتصادي أو العسكري اليوم؛ قام ثلة من أصحاب المروءة بنقض هذه الصحيفة، فلم تنم لهم جفون ولم تهدأ لهم نفس حتى نقضوا تلك الصحيفة الظالمة، رغم أنهم جميعاً لم يكونوا مسلمين بعد، ولكنها المروءة والرجولة في نفوسهم، أبتْ عليهم رؤية إخوانهم في الإنسانية يموتون جوعاً دون أن يُحرِّكوا ساكناً.

جاء في الرحيق المختوم: "وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤى -وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيًا بالليل بالطعام- فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي -وكانت أُمّه عاتكة بنت عبد المطلب- وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمتُ في نقضها، قال: قد وجدت رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابغنا رجلًا ثالثًا، فانضم إليهم المطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وتعاقدوا على نقض الصحيفة فإذا هي قد أكلتها الأرضة كما نزل الوحي بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم" (الرحيق المختوم؛ [1/190]).

والمطعم بن عدي الذي شارك في نقض الصحيفة، كانت له مواقف أخرى تنم عن مروءته وشهامته، لعل أبرزها ما فعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين عاد من الطائف ومنعته قريش من دخول مكة.

قال ابن هشام: "لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حِراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي، فأجابه إلى ذلك، ثم تسلّح ودعا بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرتُ محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرتُ محمدًا فلا يهجِه أحد منكم، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.

وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» (الروض الآنف للسهيلي؛ [2/225]، والرحيق المختوم [1/101]).

فإذا كان أهل الجاهلية رغم عدم إيمانهم وإسلامهم يرفضون الظلم و يجيرون، فنحن -المسلمين- أولى بالمروءة والمعونة والإجارة، والذي يجمعنا الإسلام والإيمان، فإذا لم يكن الإيمان والإسلام الذي يجمعنا دافعاً ومُحرِّكاً كافياً لنصرتهم ومعونتهم، فأين المروءة والرجولة؟!