احتساب ابن تيمية على المتديِّنة!

منذ 2013-11-22


سيرة ابن تيمية حافلة بجوانب متعددة ومجالات متنوعة في الاحتساب؛ فالاحتساب العملي ظاهر في تقريراته وتطبيقاته؛ حتى "أنه في هذا الشهر (شوال) سنة 701هـ ثار جماعة من الحَسَدة عليه، وشَكَوا منه أنه يقيم الحدود ويعزِّر... ثم بيَّن خطأهم، فسكنت الأمور" (ينظر: البداية لابن كثير: [14/20]).

ومِن قَبْل ذلك في سنة 699هـ دار ابن تيمية وأصحابه على الخمَّارات والحانات، فكسروا آنية الخمور، وعزَّروا جماعة من أهل الحانات، ففرح الناس بذلك (ينظر البداية لابن كثير: [14/12]).

وحكى رحمـه الله طرفاً من ذلـك الاحتساب فقـال: "... مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة[1]، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه[2]، وكان قد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل الإسلام والرئاسة فيكاشفهم حتى كشف الله أمره" (جامع الرسائل: [1/196]).

وأفرد إبراهيم الغياني فصلاً في ما قام به ابن تيمية وتفرَّد به دون غيره من العلماء؛ وذلك بتكسير الأحجار التي يُتبَرَّك بها[3]، ومن ذلك أنه كسر العمود المخلَّق بدمشق وأتلفه، وقد كان الإمام النووي (ت 676هـ) يدعو الله تعالى قائلاً: اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمود المخلَّق! (ينظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص: [80-81]).

ولئن كان الله تعالى قد استجاب دعوة النووي، فإن هذا الواقعة تكشف أن هذه المظاهر الوثنية قد استحكمت وتمكنت؛ حتى أن الإمام النووي تعسَّر عليه إزالة هذا العمود، فلم يملك إلا الدعاء. مع أن النووي -كما وصفه السبكي-: "أَمْرُه بالمعروف ونهيه عن المنكر أشهر من أن يُذكَر" (طبقات السبكي: [8/397]).

كما أن هذه الحادثة (ونظائرَها) تعطي دلالة ظاهرة على تغلغل هذه الشركيات والخرافات في نفوس الناس؛ حتى أن الذين رافقوا ابن تيمية لأجل تكسير ذاك العمود، سرعان ما تخلَّو عن ذلك وجبنوا عن المبادرة. حتى شرع ابن تيمية في تكسيره فتتابع الناس (انظر تفصيل ذلك في الجامع لسيرة ابن تيمية، ص: [80-81]).

والحاصل: أن احتساب ابن تيمية قد استوعب مجالات الاحتساب وجميع فئات الناس؛ فمن الاحتساب السياسي، إلى الاحتساب في العبادات والأحوال، إلى الاحتساب الأخلاقي والاجتماعي، إلى الاحتساب الاقتصادي، كما أنه احتسب على الحكام والعلماء والعبَّاد والعامة، وعلى أهل الكتاب وأهل الابتداع، بالمقال والفعال كما هو مبسوط في موضعه. وسنقتصر في هذه السطور على مواقف محددة من احتسابه على المتديِّنة كما يلي:

1- تحدَّث رحمه الله عن آفة بعض المتديِّنين الذين ينكصون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتدثرون بأن ذلك التَّرْك والفرار هو من باب الهروب من الفتنة فقال: "وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي عن المنكر الذي يكون به الدين، وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة، وهذه حال كثير من المتدينين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله لئلا يفتنوا بجنس الشهوات وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منها" (الاستقامة: [2/290]، وانظر: مجموع الفتاوى: [28/167]).

وذكر في موطن آخر أن المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي ظنّاً أن ذلك من باب ترك الفتنة؛ حتى أن بعضهم أسقط شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر![4] فهؤلاء المتديِّنة لا يقتصرون على مجرد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن في ذلك تفريطاً ظاهراً وعصياناً بيِّناً؛ لكنهم تجاوزوا ذلك إلى بليَّة أطمَّ؛ حيث صيَّروا هذا التقاعس والتنصُّل من باب التخوُّف من الفتنة، والحذر من الولوج إليها، لكن الواقع أنهم في فتنة متحققة؛ فهم فروا من فتنة متوهَّمة ومتوقَّعة إلى فتنة متحقِّقة واقعة!

وما حققه ابن تيمية لَيُؤكد أهمية الرسوخ والفقه لأحكام الاحتساب، كما يقرر ضرورة تحريك الفقه الباطن، وإحياء واعظ الله في قلب كل مسلم. قال تعالى: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15]؛ "فالإنسان شاهد ومحاسَب، ومعاذيره لا تُقبَل، بل يقرر بعمله. فالعبد وإن أنكر أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئاً" (تفسير السعدي: [7/24]، باختصار).

وقال رحمه الله: "فالاعتذار عن النفس بالباطل، والجدال عنها لا يجوز، بل إن أذنب سراً بينه وبين الله اعترف لربِّه بذنبه، وخضع له بقلبه، وسأله مغفرته" (مجموع الفتاوى: [14/447]).

2- وكما هي منهجية ابن تيمية في تحقيق العدل والوسط في التقريرات والردود، والمسائل والدلائل؛ فهو لا يستغرق في مدافعة انحراف ويغفل عما يقابله؛ بل إنه يدافع التفريط والإفراط مراعياً تفاوت مراتب الشرور؛ فلئن كان رحمه الله حذَّر من التقصير في باب الاحتساب، فإنه غلَّظ على من أفرط وبغى في الأمر والنهي، فقال رحمه الله عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة من الآية:105]: "ألاَّ يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمِّهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم؛ فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله: إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه؛ وسواء ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين... وما أكثر ما يصوِّر الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، ويكون من باب الظلم والعدوان. وأنت أذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها و عبَّادها وأمرائها وجدتَ أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الرافضة على المتسننة مرات متعددة، وكما قد يبغي بعض المتسننة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به" (مجموع الفتاوى: [14/ 481-483]، باختصار).

فابن تيميـة يحذِّر من مجاوزة الحـدِّ في الاحتساب، وأن بعضهم يقارف البغي والعدوان باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن أهل التفريط يتركون الاحتساب باسم اجتناب الفتنة، وهذا يكشف عن دارية هذا الإمام الرباني بآفات النفوس وكمائنها عند المتديِّنة.

ثم إنه رحمه الله أشار إلى أن التفرُّق عند أرباب المعارضات الثلاث (الملوك، العلماء، العباد[5]) ناشئ عن ذلك البغي، ولا يغيب عنه "النقد الذاتي" لبعض أهل السُّنة وأنه قد يقع منهم بغي؛ سواء في ما بينهم، أو مع بعض المبتدعة، وهكذا أخلاق أئمة السُّنة: إنصاف من أنفسهم، وعدل وموضوعية، ورحمة وإعذار.

3 - حرر ابن تيمية أن الاحتساب له حالتان: فمن كان قادراً فعليه الانتصار والمدافعة ومجانبة العجز والإضاعة، ومن كان عاجزاً عن الاحتساب فعليه بلزوم الصبر والتجلُّد والحذر من الجزع واليأس. "فالأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه" (مجموع الفتاوى: [8/320]، [14/39]).

وقال رحمه الله: "ضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجزع، فلا خير في العجز ولا في الجزع كما نجده في حال كثير من الناس حتى بعض المتديِّنين إذا ظلموا أو رأوا[6] منكراً فلا هم ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون" (مجموع الفتاوى: [16/38]).

وقال في موطن آخر: "وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغيَّر كثير من أحوال الإسلام جزع وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام" (مجموع الفتاوى: [18/295]).

وهذا العجز والكسل، والجزع والتسخط قد يكون بلسان الحال؛ فإن بعض المتدينة قد لا يتفوَّه بالجزع ولا بالعجز؛ لكن أحواله وفعاله وسائر شؤونه لا تنفك عن شوائب العجز والإضاعة والتواني، ودسائس الجزع والتسخط واليأس.

4 - بيَّن رحمه الله أن بعض المنكرين قد يستحوذ عليهم الترك والإنكار والتقصير في لزوم السنن وفعل المعروف، وأن ذلك مخالف للشرع، كما أنه مصادم لطبيعة النفس البشرية التي جُبلت على العمل، فأصدق ما يُسمَّى به الإنسان أنه حارث لا يفارق العمل والسعي والاكتساب.

قال رحمه الله: "وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصِّرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به؛ فلا يُنهَى عن منكر ولا ويؤمَر بمعروف يغني عنه، كما يُؤمَر بعبادة الله سبحانه ويُنهَى عن عبادة ما سواه. والنفوس خُلقت لتعمل لا لتترك؛ وإنما الترك مقصود لغيره؛ فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السيئ أو الناقص" (الاقتضاء: [2/617]).

وهذا واقع مشاهَد عند بعض إخواننا المتديِّنة، وإذ يغلب عليهم النفي والسلب في الاحتساب، والاقتصار على سرد المنهيات والمبتدعات، مع أن فعل المعروف ولزوم السنن آكد من ترك هذه المخالفات، فإن المأمورات مقصودة لذاتها، إضافة إلى أن أداء السنن والاشتغال بالمأمورات هو الكفيل برفع البدع وزوال المخالفات.

هذا وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (بعد المائة السابعة).

[2]- (أي: كان له قرين من الجنَّ يخبره بالمغيَّبات).

[3]- (ينظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص: [78-96]).

[4]- (انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: [1/177]).

[5]- (وهي المذكورة في شعر عبد الله بن المبارك رحمه الله:


وهل أفسد الدين إلا الملوكُ *** وأحبارُ سوء ورهبانها


وقد احتفى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بالحديث عن هذه المعارضات الثلاث. ينظر: الاقتضاء: [2/598]، والصواعق المرسلة: [3/1051]، والمدارج: [2/70]).

[6]- (في المطبوع: أرادوا، ولعل الصواب ما أثبته).