ظاهرة تأنيث الفقر

منذ 2013-11-23

لقد أعطى الإسلامُ المـرأة حقوقهـا، سواء المـادية: كالإرث، وحرية التجـارة والتصـرف بأموالها، إلـى جانب إعفائها من النفقة حتى ولو كانت غنية؛ أو حقوقها المعنوية: فالمـرأة كانت لها أدوارها المؤثِرة في صناعة التاريخ الإسلامي، إذ نجد فيه المرأة صانعة سلام، كدور السـيدة أمِّ سلمة في درء الفتنة التي كادت تتبع صلح الحديبية، ونجـد أيضاً المرأة محاربة حتى تعجَّب خالد بن الوليد مـن مهارة أحـد المقاتلين قبل اكتشـافه أن ذلك المحارب امرأة. قـال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِـنَّ بِالْـمَعْرُوفِ} [البقرة:822].

 




عرَّفته دراسة لمنظمة العمل الدولية بأنه: زيادة نسبة الفقر بين النساء عن مثيلتها بين الرجال، وأن حِدَّة فقر النساء أكبر مما هي بين الرجال.
وجاء أيضاً تعريفه في تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 1997م بأنه: فُرَص أقل، وعدم تكافؤ في فرص التعليم والعمالة وملكية الأصول للمرأة، ويعني: إتاحة فُرَصٍ أقل للمرأة، كما أن من شأن الفقر أن يعمّق الفجوات بين الجنسين.

وتظهر حقيقة الوضع حين تؤكد التقارير الدولية وخاصة تلك المتعلقة بأحوال التنمية والفقر والنساء على أن حوالي ثُلُثَي فقراء العالم من النساء؛ حتى إن قمة الألفية التي انعقدت في نيويورك في سبتمبر 2000م أعلنت التزامها بتحرير المرأة من الفقر الذي تعاني منه أكثر من مليار نسمة.

كما أن هناك بعض الدراسات التي أكدت ارتفاعاً بلغ 50 % في أعداد النساء الريفيات اللاتي يعشن في فقر شديد خلال العقدين الأخيرين. كما وصلت نسبتهن إلى حوالي 65 % من عدد الفقراء في البلدان العربية.

أسباب نشوء هذه الظاهرة:


يدَّعي منظِّرو النسوية ومبتدعوها ودعاة تغريب المرأة الذين استوردوا هذا المصطلح -تأنيث الفقر- أنّ للفقر عند النساء أسباباً، من أهمها:

1- التاريخ العريض من الاضطهاد والتهميش للمرأة بزعمهم، بسبب التقسيم الاجتماعي والأنثوي.
2- تحكُّم الرجل بمقاليد الاقتصاد وتسيُّده علـى المرأة (من وجهة نظرهم).
3- اقتصار دور المرأة على الجانب المنزلي والإنجابي واهتمامُها بشؤون الأسرة.
4- حرمان المرأة من التعليم.
5- حرمانها من تملُّك الأراضي والموارد المالية والعقارات.
6- حرمانها من حقها في الميراث.
7- اعتقادهم أن هناك علاقةً بين زيادة عدد أفراد الأسرة المعالَة من قِبَل المرأة وبين الفقر.
8- ادعاؤهم أن هناك علاقةً وثيقة بين الزواج المبكر وبين الفقر.

بالطبع كل هذه النقاط محلُّ نظر؛ فهم مثلاً  يؤكدون على أن يكون للمرأة وَضْعُها الاقتصادي، فإذا ما خرجت المرأة إلى الأسواق فأنَّى لها تربية أولادها تربيةً صحيحة؛ فلن تجد وقتاً كافياً لتربيتهم وتعليمهم كيف يتعاملون مع الحياة، ومن ثَمَّ ستتركهم للأُمِّ البديلة، وهذا بالفعل ما تعاني منه الأمهات العاملات، وكذلك يعاني منه الأبناء، كما يعاني الأبناء من مشاكل نفسية نتيجة الوحدةِ وعدمِ الاهتمام، وقد ينحرفون لعدم وجود الرقيب، وحتى في مأكلهم ومشربهم تجدهم يعتمدون -بشكل قد يكون دائماً- على الوجبات الجاهزة والسريعة، وهو ما يؤثر على صحتهم وحيويتهم وذكائهم وقدرتهم على الدراسة والتحصيل، وهذا مُشاهَد عند الغرب بشدة؛ فالأم تعمل طوال النهار والأطفال ليس أمامهم إلا متابعة التلفاز وطلب تلك الوجبات.

إن هذا لا يعني تحريم عمل المرأة بإطلاق، لكن أن يكون ذلك في ظل الضوابط الشرعية، وقد كفاها الله هذا العناء فجعلت الشريعةُ الإسلاميةُ النفقةَ من واجبات الرجال بالدرجة الأُولَى؛ نظراً لطبيعة فطرتهم التي تجعلهم الأقدر على الكسب، ونظراً لأهميَّة وظيفة المرأة الاجتماعية المتعلقة بالأمومة، التي تعيقها عن الكسب.

وكذلك التأكيد على حرية المرأة في الإنجاب من عدمه؛ فقد أوضح الإسلام أن الأمومة من أخص خصائص المرأة الفطريَّة، وينبغي تعزيز هذه الفطرة وتنميتها وتوجيهها. وعندما تتعارض أي وظيفة اجتماعية مع هذه الوظيفة تقدِّم الشريعة الإسلامية وظيفةَ الأمومة؛ لأنها أشرف من أيَّة وظيفة أخرى، كيف لا وهي تتعامل مع الإنسان الطفل الذي هو رجل الغد؟ فالله الذي خلق الإنسان هو أدرى بما يصلحه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:41].

وبالنظر والتدبر في حال المرأة  سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي ووقـوعها تحـت ظاهـرة تأنيث الفقر نجد أن لها أسـباباً يتجاهلهـا بعضهـم، ويحاولون أن يغضُّـوا الطَّـرْف عنهـا، وهـي الأسباب الحقيقيـة في معاناة المرأة المعاصرة، منها:


1-  البعد عن الدين القويم، والانحراف عن شرع الله، وخاصة فيما يتعلق بأحكام المرأة. وكلُّ الأسباب بعده متفرعة منه.
2- دعوة المرأة لطلب المساواة مع الرجل في كل شيء، والتمرد على سلطته، وتلقينها المفاهيم التغريبية التي تحوِّلها نِدّاً للرجل وكأنهما عَدُوَّان لدودان.
3-  استغلال المرأة وتحوُّلها إلى سلعة رخيصة تُبَاع وتُشتَرى.
4-  استغلال ضعف المرأة وسذاجتِها، وتحويلُها إلى بوقٍ للتغريبيين.
5-  الإلقاء في روع المرأة أن سبب مشاكلها هو الرجل؛ لذا ينبغي أن تستقلَّ عنه.
6-  دعوتها للتمرد على كل القيم والمبادئ والأعراف والتقاليد الشرعية التي تحمي المرأة وتصونها.
7-  ظهور طبقة من النفعيين والمهووسين بالغرب من الليبراليين والعَلمانيين الذين يدعون إلى اتباع الغرب حَذوَ القُذَّة بالقُذَّة، حتى في استيراد مشاكلهم واستنباتها في بيئتنا الإسلامية.
8-  الدعوات إلى الانحلال، والشذوذ، وتكوين الأُسَر البديلة، والتمرد على الشكل الطبيعي للأسرة، والإنجاب من غير زواج، وإباحة الإجهاض، وغيرها؛ وهو ما يورِّط المرأة في الإنجاب بغير الطرق المشروعة وتحمُّلها وحدَها كلفة ذلك الأمر، فتنشأ ظاهرة تأنيث الفقر.
9-  يمكننا أن نُجْمِل ما سبق بتدمير الأسرة التقليدية وتفكيك روابطها؛ وهو ما أثَّر كثيراً على الطَّرَف الأضعف؛ وهو المرأة.

منهج الإسلام في علاج هذه الظاهرة:

1- إعطاء المرأة حقوقهـا: لقد أعطى الإسلامُ المـرأة حقوقهـا، سواء المـادية: كالإرث، وحرية التجـارة والتصـرف بأموالها، إلـى جانب إعفائها من النفقة حتى ولو كانت غنية؛ أو حقوقها المعنوية: فالمـرأة كانت لها أدوارها المؤثِرة في صناعة التاريخ الإسلامي، إذ نجد فيه المرأة صانعة سلام، كدور السـيدة أمِّ سلمة في درء الفتنة التي كادت تتبع صلح الحديبية، ونجـد أيضاً المرأة محاربة حتى تعجَّب خالد بن الوليد مـن مهارة أحـد المقاتلين قبل اكتشـافه أن ذلك المحارب امرأة. قـال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِـنَّ بِالْـمَعْرُوفِ} [البقرة:822]. وقـد اعتبر الإسلام المـرأة كالرجل: كائناً ذا روح إنسـانية كاملـة، وذا إرادة واختيار.


كما منح الإسلام المرأة حقها في التعليم، بل حينما قال الله تعالى في أَوَّل ما أنزل من القرآن: {اقْرأ} [العلق:1]، كان ذلك خطاباً عامّاً للذكر والأنثى على السواء. وكذلك أعطى الإسلام المرأة حقها في اختيار الزوج وضرورة أَخْذ إذنها في ذلك، والحث على معاملتها بالحسنى؛ فنحن نجد أن من علامات الزوج الصالح أنه إن أحب المرأة أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.

2-  وضع الإسلام الأسس التي تكفل للمرأة المساواة والحقوق، وسنَّ القوانين التي تصون كرامة المرأة وتمنع استغلالها جسدياً أو عقلياً.

3-  تكليف الرجل بتحمُّل المسؤولية، والقيامِ بشؤون الأسرة، والإنفاقِ على الزوجة ومن يعول، ومعاملتِهم بالحسنى، وأن يطعمهم الحلال؛ وهذا جزء من قِوامته. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:48]، فمن قِوامته بذلُه المال من صداقٍ ونفقٍ وغير ذلك من المسؤوليات المادية. وبصفة عامة يُعتَبَر الفقر مشكلة عالمية عامة لم تستثنِ الرجال أو النساء أو الشيوخ أو الأطفال، بل إن الفقر مشكلة مجتمعات بأَسرِها. وإن وجود حالات الفقر في المجتمعات بين الرجال والنساء على السواء معروفة منذ الوجود الإنساني على الأرض؛ ولذلك شَرَع الإسلام كلَّ صور التكافل الاجتماعي، وعالج هذه الظاهرة، بل وضع من الأسباب ما هو كفيل باجتثاث الفقر من جذوره.

كيف عالج الإسلام الفقر في المجتمعات الإسلامية؟

1-  فرض الإسـلام الزكاة وحث عليها ورغَّب فيها. قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262].

2- حث على الصدقات: فعن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «على كل مسلم صدقة». قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق...»(متفق عليه، واللفظ للبخاري).

3- جعل معظم الكفَّارات مالية لتُردَّ في الفقراء: فمثلاً كفارة اليمين بيَّنها الله تعالى بقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:98].

4-  وحث على كفالة اليتيم: قال تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإن تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْـمُفْسِدَ مِنَ الْـمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220]. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً» (رواه البخاري).

5-  ورغَّب الإسلام في عون ذي الحاجة،  بل إن تقديم العون والنصرة لمن يحتاج إليهما سلوكٌ إسلاميٌّ أصيل، وخُلُق رفيع تقتضيه الأخوة الصادقة، وتدفع إليه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير مثال يُحتَذَى في كل شيء، وفي تكملة حديث أبي موسى الأشعري السابق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«... يعمل بيده ويتصدق» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف».

6-  كما رغَّب المسلمَ في إطعام الطعام وأن مأواه الجنة يدخلهـا بسلام: فعـن عبـد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا النَّاسُ! أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ» (رواه الترمذي، وابن ماجه).

7-  رهَّب الإسلامُ من تَرْك المسلم أخاه جائعاً: ويتجسد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما قومٍ باتَ فيهم جائعٌ، فقد بَرِئَتْ منهم الذِّمَّةُ» (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم).


وهكذا فقد حثَّ الإسلام على البذل والإنفاق، وأعلم البشرية أن المال مالُ الله لا يعطيه الغني للفقير تفضلاً، ولا يشعر الفقير بالذلة في أخذه.

لكن على الرغم من وضوح المنهج الإسلامي في علاج مشكلة الفقر، إلا أن الأمم المعاصرة بما فيها الإسلامية، وكذلك المؤسسات الدولية، لا تزال تتخبط خَبْطَ عشواء، عاجزة عن فهم حقيقته، حتى تفاقمت مشكلة الفقر عالمياً، وارتفع عدد فقراء العالم إلى أكثر من مليار مواطن، معظمهم في الدول النامية والمتخلفة، دون وجود بارقة أَمَل في تحسين أحوالهم، فمن ابتغى العزة في غير دين الله أذلَّه الله.


على أننا لا ينبغي علينا أبداً أن نتكلم عن هذه المشكلة متجاهلين أن حالة الفقر من قضاء الله تعالى وقَدَره على عباده ليبتليهم: أيشكرون أم يكفرون؟ ويجب أن يعلم الجميع أن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}، وأن يرضى الإنسان بما قسمه الله له؛ ليكون أغنى الناس: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء:23]. إلا أنه بسبب بُعْدِ الناس عن الدين، وانغماسِهم في الترف وتَرْك بعضهم للزكاة والصدقات، وجدنا هذه الأرقام المفزعة من الفقراء؛ ولذلك فالمشكلة تكمن في عدم التزام الناس بدينهم.

لقد حارب الإسلام كل مظاهر الظلم والعدوان والأعراف والعادات والتقاليد التي ظلمت الإنسان، والمرأة على وجه الخصوص، وعلى مرِّ الأزمان، وفي الوقت نفسه قرر أن هناك فروقاً فطرية بين الرجال والنساء لا بد من احترامها، وأن هذه الفروق لا تعني تفوُّق أحد النوعين على الآخر؛ ولكنها فروق تكميلية ذات خصوصية يحتاجها كلُّ منهما، وبذلك تتكامل أدوار الرجال والنساء.


لكن إذا تمنَّى أيٌّ منهما ما اختص الله به الآخر، فهذا دليل على وجود خلل في البنية النفسية والفكرية، ومن ثَمَّ فهو وضع غير صحي ولا طبيعي، يقود الإنسان إلى الضياع والمشاكل التي كفانا الله إياها، ومنها ظاهرة تأنيث الفقر.

 

 

المصدر: مجلة البيان