«إنَّ الرجل ليُحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه»

منذ 2013-11-24

أنَّ ممَّا يضيق على العبد رزقَه: ذنوبَه؛ وذلك أنَّ الذنوب مانعة للتوفيق على الخير، ومجلبة للشر، فالحرمان عن رِزق التوفيق أعظمُ حرمان، وكل ذنب فإنه يدْعو إلى ذنب آخَر، ويتضاعف فيُحرم العبد به عن رزقه النافِع من مجالسة العلماء المنكِرين للذنوب، ومن مجالسة الصالحين، بل يمقُتُه الله تعالى ليمقتَه الصالحون.

 



وطيب الحياة بالارتفاق في معاشِه، واكتساب الطاعَة لمعاده، والبِرّ هو الطاعة لله تعالى فيما أمَر، والانتهاء عمَّا زَجَر، والرِّضا بما حكَم وقدَّر؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].

فالقصير من العُمر، واليسير مِن المدَّة؛ إذا حصَل مع الطاعة لله تعالى في أمْر الدِّين، والرِّفق في المعاش مِن الكفاية في المؤنة، وصون الوجْه، وكان العبد محمولاً في المكاره ميسرًا له اليُسرى، مصروفًا عنه العُسرى، صار القصير مِن العمر طويلاً.

ويجوز أن يكونَ المراد بالبِرّ برَّ الولد بوالديه، وبرّ الرجل ولده وقرابته وجيرانه، ومَن يعاشرهم، فمَن حسُنتْ عِشرته خَلْقَ الله طابتْ حياته، وفائدة العُمر طيب الحياة، والله أعلم" (بحر الفوائد؛ المسمَّى بمعاني الأخيار للكلاباذي: [1/230]).

فوائد استنبطها الأئمَّة مِن هذا الحديث:

1- فيه أنَّ ممَّا يضيق على العبد رزقَه: ذنوبَه؛ وذلك أنَّ الذنوب مانعة للتوفيق على الخير، ومجلبة للشر، فالحرمان عن رِزق التوفيق أعظمُ حرمان، وكل ذنب فإنه يدْعو إلى ذنب آخَر، ويتضاعف فيُحرم العبد به عن رزقه النافِع من مجالسة العلماء المنكِرين للذنوب، ومن مجالسة الصالحين، بل يمقُتُه الله تعالى ليمقتَه الصالحون.

2- وقال ابن حبَّان: "لم يُرِد به عُمُومه؛ لأنَّ الذَّنب لاَ يُحرم الرزق الَّذي رزق العَبْد، بل يُكدِّر عَلَيْهِ صفاءَه" (البدر المنير؛ لابن الملقن: [9/174]).

3- فيه أنَّ الإنسان "لَيُحْرَمُ" بالبِناء للمفعول؛ أي: يمنع "الرزق"؛ أي: بعض النِّعم الدُّنيوية والأُخروية، وحذف الفاعل لاستهجان ذِكره في مقام المرزوق "بالذنب يُصيبه"؛ أي: بشؤم كسبه للذنب، ولو بنسيان العِلم أو سقوط منزلتِه مِن القلوب أو قهْر أعدائه له.

«ولا يردُّ القضاءَ إلا الدعاء»؛ بمعنى: أنَّه يهوِّنه حتى يصيرَ القضاء النازل كأنَّه ما نزَل.

«ولا يَزيد في العمرِ إلا البِرّ» بالكسر؛ لأنَّ البرَّ يطيب عيشه فكأنما زِيد في عمره (التيسير بشرح جامع الصغير؛ للمناوي: [1/570]).

4- ولهذا الحديث سرٌّ آخَر؛ "وهو أنَّ الحرمان قد يكون بالنسبةِ إلى الرِّزق المعنوي والرُّوحاني، وقد يكون مِن الرِّزْق الظاهِر المحسوس.

5- ولا يَقْدح فيه ما يُرى مِن أنَّ الكفرة والفسقة أعظمُ مالاً وصحةً مِن العلماء؛ لأنَّ الكلام في مسلم يُريد الله رفْعَ درجته في الآخرة، فيعقبه مِن ذنوبه في الدنيا.

6- فاللام في "الرجل" للعهدِ، والمعهود بعض الجنس مِن المسلمين" (فيض القدير؛ للمناوي: [2/421).

7- «الدعاء يرد القضاء»؛ "يعني: يُهوِّنه ويُيسِّر الأمر فيه، ويُرزق بسببه الداعي الرِّضا بالقضاء حتى يعدَّه نِعمةً، ذكره القاضي" (فيض القدير؛ للمناوي: [3/723]).

8- فيه بيان أنَّ تقوى الله مجلبةٌ للرِّزْق، "فترك التقوى مجلبة للفقْر، فما استجلب رِزق الله بمِثل ترْك المعاصي، ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلْبه بينه وبيْن الله، لا يوازنها ولايقارنها لذةٌ أصلاً ولو اجتمعتْ له لذَّات الدنيا بأسْرها لم تفِ بتلك الوحشة، وهذا أمرٌ لا يحسُّ به إلاَّ مَن في قلبه حياة" (الجواب الكافي لابن القيم: ص: [35]، دار الكتب العلمية - بيروت، دون سنة الطبع).

9- فيه: "أنَّ من عقوبات المعاصي أنها تَمْحَق بركة العمر وبرَكة الرِّزق، وبرَكة العِلم وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة أنها تمحق برَكةَ الدِّين والدنيا، فلا تجد أقلَّ بركةً في عمره ودِينه ودنياه ممَّن عصَى الله، وما مُحقِت البركة من الأرض إلا بمعاصى الخَلْق" (الجواب الكافي لابن القيم: ص: [56]).

10- قال ابن تيمية: "وقولُ القائل: قد نَرى مَن يتَّقي وهو محروم، ومَن هو بخلاف ذلك وهو مرزوق.

فجوابه: أنَّ الآية اقتضتْ أنَّ المتَّقي يُرزق من حيث لا يحتسب، ولم تدلَّ على أنَّ غير المتقي لا يُرزق؛ بل لا بدَّ لكلِّ مخلوق مِن الرزق؛ قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود من الآية:6]، حتى إنَّ ما يتناوله العبدُ مِن الحرام هو داخلٌ في هذا الرزق.

فالكفَّار قد يُرزقون بأسباب محرَّمة وُيرزقون رزقًا حسنًا، وقد لا يُرزقون إلا بتكلُّف.

وأهل التقوى يرزقهم الله مِن حيث لا يحتسبون، ولا يكون رِزقهم بأسباب محرَّمة ولا يكون خبيثًا، والتقي لا يُحرَم ما يحتاج إليه مِن الرِّزق، وإنَّما يُحمَى من فضول الدنيا؛ رحمةً به، وإحسانًا إليه؛ فإنَّ توسيع الرزق قد يكون مضرةً على صاحبه، وتقديره يكون رحمةً لصاحبه.

قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15-16]؛ أي: ليس الأمر كذلك، فليس كلُّ مَن وُسِّع عليه رِزقه يكون مكرَّمًا، ولا كل مَن قُدِر عليه رِزقه يكون مُهانًا؛ بل قد يوسَّع عليه رزقه إملاءً واستدراجًا، وقد يُقدَّر عليه رزقه حمايةً وصيانةً له، وِضيق الرزق على عبد مِن أهل الدِّين قد يكون لما له مِن ذنوب وخطايا.

كما قال بعض السلف: "إنَّ العبد ليُحرَم الرِّزق بالذنب يُصيبه"، وفي الحديث عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن أكْثَر الاستغفار جعَل الله له مِن كل همٍّ فرَجًا، ومِن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه مِن حيث لا يحتسب»، وقدْ أخبر الله تعالى أنَّ الحسنات يُذهِبْن السيئات، والاستغفار سببٌ للرِّزق والنعمة، وأنَّ المعاصي سببٌ للمصائب والشدَّة... "(مجموع الفتاوى: [16/53]) ا. هـ.

هذا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين

والحمد لله ربِّ العالَمين

____________

[1] (سنن ابن ماجة: [2/1334] مع تعليقات محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر - بيروت).