هل طُغاة الحكّام أولى بالحق ممن يُنكِرون عليهم من الإسلاميين؟

منذ 2013-11-27

وهل يصح القول بأن من أنكروا عليهم من أهل الدين لا ينبغي أن نذرف عليهم دمعة واحدة! ولا أن تبقى في قلوبنا ذرة من تعاطف معهم، مهما استبد بهم الطغاة، وعربوا في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟! ومهما كان فيهم من ديانة! وكان في الآخرين من ظلم ومن فجور؟! أفتونا مأجورين؟!


هل طُغاة الحكّام أولى بالحق ممن يُنكِرون عليهم من الإسلاميين؟

وهل يصح القول بأن من أنكروا عليهم من أهل الدين لا ينبغي أن نذرف عليهم دمعة واحدة! ولا أن تبقى في قلوبنا ذرة من تعاطف معهم، مهما استبد بهم الطغاة، وعربوا في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟! ومهما كان فيهم من ديانة! وكان في الآخرين من ظلم ومن فجور؟! أفتونا مأجورين؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن غالب من يُنسَب إليهم مثل هذا الموقف ممن لا يرون في العلمانية وما ينتحِله دعاتها من الفصل بين الدين والدولة صورة من صور الكفر البواح، التي تسقط الشرعية وتسوغ السعي إلى التغيير عند تحقق القدرة وغلبة المصلحة، ويُسوون بينها وبين الانحرافات الجزئية التي طرأت على تطبيق الشريعة إبّان الدول الإسلامية الغابرة!

ولنا تحفُّظ على هذه التسوية ابتداءً؛ فما أبعد الشقة بين من يظلم في تقسيم الميراث، ومن يصدر قانوناً يسوي فيه بين الرجل والمرأة في الميراث، أو بين من يُقصِّر في إقامة بعض الحدود، ومن يُجرِّم إقامة الحدود! ويصدر بدلاً منها شرائع وضعية، يجعلها مرجع الحكم عند القضاء، ويحمل القضاة على القسم على احترامها ظاهراً وباطناً! ويحميها بشوكته وسلطانه، وينشئ المحاكم التي تراقب تطبيقها، وتستوثق من عدم مخالفتها!

ولكننا سننطلق في إجابتنا على هذا السؤال من التسليم الجدلي بها، سنفترض أننا نعيش واقعاً شبيهاً بما عاشتة الدول الإسلامية الغابرة، عندما تقلّد الولاية فيها ظلمة وأئمة جور مُضِّلون، ثم نرى مدى مشروعية ما جاء في السؤال، من كون الظلمة والطغاة من الحكّام والفلول أولى بالحق وأرضي لله ممن ينكرون عليهم من الإسلاميين؟
وأن من خرج عليهم من أهل الدين لا ينبغي أن نذرف عليهم دمعة واحدة! ولا أن تبقى في قلوبنا ذرة من تعاطف معهم، مهما استبد بهم الطغاة، وعرَّبوا في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟! ومهما كان فيهم من ديانة! وكان في الآخرين من ظلم ومن فجور؟!

وأسوق بين يدي الإجابة على هذا السؤال هذا الحديث، ثم أردفه ببعض التأمُّلات والوقفات!

عنْ أَبِي نَوْفَلٍ: "رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنما فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ".
ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما.

فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ؛ فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ؛ فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ؛ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ، فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا؛ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا" (رواهُ مسلمٌ).

وبين يدي هذه القصة وقفات وثيقة الصلة بواقعنا المعاصر:


• الوقفة الأولى:

ثناء ابن عمر على ابن الزبير رغم مخالفته له في موقفه، وإعلانه بذلك، وتأمَّل الجمع بين قوله ثلاثاً: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا"، وقوله بعدها مباشرة: "أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ!".

• لم ير ابن عمر صواب موقف ابن الزبير في استهدافه بنحره لسيف الحجاج وغشمه وظلمه، ولكن تخطئته لابن الزبير في اجتهاده لا يعني موالاته للحجاج، أو تصديقًا له على كذبه، أو إعانة له على ظلمه، ولا تعني انتقاصه لقدر ابن الزبير أو الحط عليه، بل ظل على موالاته له، وثنائه عليه بخير ما يعلم، ويعلم الناس جميعًا من أنه كان صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ! ويذكر النووي رحمه الله: "أن مما يستفاد من الحديث الثَّنَاء عَلَى الْمَوْتَى بِجَمِيلِ صِفَاتهمْ الْمَعْرُوفَة".

• الوقفة الثانية:


أن عدم خروج ابن عمر على الحجاج لم يعنِ مداهنته بالحط على ابن الزبير اتقاء شرّ الحجاج وبطشه، بل استعلن بثنائه على ابن الزبير، ورده على ما كان يتهمه به الحجاج زوراً وبهتاناً! وهو يعلم أن مقامه هذه سيبلغ الحجاج لا محالة! وفي هذا يقول النووى رحمه الله "وَفِيهِ مَنْقَبَة لِابْنِ عُمَر لِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ فِي الْمَلَأ، وَعَدَم اِكْتِرَاثه بِالْحَجَّاجِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَم أَنَّهُ يَبْلُغهُ مَقَامه عَلَيْهِ، وَقَوْله، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الْحَقّ، يَشْهَد لِابْنِ الزُّبَيْر بِمَا يَعْلَمهُ فِيهِ مِنْ الْخَيْر، وَبُطْلَان مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاج مِنْ قَوْله: إِنَّهُ عَدُوّ اللَّه، وَظَالِم، وَنَحْوه، فَأَرَادَ اِبْن عُمَر بَرَاءَة اِبْن الزُّبَيْر مِنْ ذَلِكَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْحَجَّاج، وَأَعْلَم النَّاس بِمَحَاسِنِهِ، وَأَنَّهُ ضِدّ مَا قَالَهُ الْحَجَّاج" اه.

• الوقفة الثالثة:


إن الخلاف الفقهي حول مدى مشروعية الخروج على الظلمة وأئمة الجور وما استقر عليه السواد الأعظم من أهل السنة من النهي عن الخروج بالسيف، لا يعني أبداً أن تتحول المشاعر إلى علاقة دافئة حميمة مع الظلمة والطغاة! وموادة لهم في الظاهر والباطن! ومشايعة لهم على باطلهم بالقول أو بالعمل! وفي المقابل معاداة للصالحين ومباينة لهم، وحط عليهم، وإغراء بهم، وفرح بما يُصيبهم من العنت والبلاء بأيدي هؤلاء الظلمة والمبطلين، فتصبح المسافة بيننا وبين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أبعد بكثير من المسافة بيننا وبين الحجاج! وإن تقديم القضية على هذا النحو فيه من فتنة الناس في الدين والصد عن سبيل الله ما فيه!

وقد جاء في الحديث النهي عن تصديق أمثال هؤلاء على كذبهم أو إعانتهم على ظلمهم، فعن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: «يا كعب بن عجرة! أعاذك الله من إمارة السفهاء»، قلت: يا رسول الله! وما إمارة السفهاء؟! قال: «أمراء لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدَّقهم في كِذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه! ولا يرد على حوضي! ومن لم يُصدِّقهم في كذَّبهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وسيرد على حوضي» (رواه الإمام أحمد).


وعن النعمان بن بشير قال: "خرجَ علَينا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ في المسجدِ بعدَ صلاةِ العشاءِ فرفعَ بصرَهُ إلى السَّماءِ ثمَّ خفضَ حتَّى ظننَّا أنَّهُ حدثَ في السَّماءِ أمر فقال: «ألا إنَّهُ ستكونُ بعدي أمراءُ يظلمونَ ويَكْذبونَ فمَن صدَّقَهُم بِكَذبِهِم ومالأهُم على ظلمِهِم فليسَ منِّي ولا أَنا منهُ، ومن لم يُصدِّقهم بِكَذبِهِم ولم يُذمالِئهم على ظلمِهِم فَهوَ منِّي وأَنا منهُ».

• الوقفة الرابعة:


إن الشريعة عندما نهت عن الخروج على الظلمة والطغاة لم تكن تقصد إلى مظاهرة الظلمة على ظلمهم، والاحتفاء بجورهم واستطالتهم على عباد الله، والتمكين لهم من رقاب المستضعفين وهم آمنون من سخط الله في الآخرة، كما أنهم آمنون من سخط المجاهدين والمحتسبين عليهم في الدنيا!

إنها قطعاً لم تكن تقصد أن توطئ ظهور الأمة للطغاة، وتبيح لهم هذا التخوض الفاجر في الدماء والأموال والأعراض! لا يمكن أن يكون مقصودها أن نعتقد أن الحجاج الذي ألقى بعبد الله بن الزبير في مقابر اليهود، وعيره بأنه ابن ذات النطاقين! وهدّد ذات النطاقين بأن يُرسِل إليها من يسحبها بقرونها! والذي قالت له ذات النطاقين: "أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا؛ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ"، والذي اتفق أهل العلم أنه مبير ثقيف، لا يمكن أن يكون معتقد أهل السنة أن ندين لله بأن الحجاج أولى بالحق! وأرضى لله من عبد الله بن الزبير!

وإنما كان الذي قصدته أن تدفع بهذا مفسدة الفتن وإراقة الدماء التي تترتّب على الخروج، مع بقاء الحُرمة والتوقير لأهل الدين، سواءً أكانوا مخطئين أم كانوا مصيبين!

ومع بقاء الحط على الظالمين، والإنكار عليهم، والبراءة منهم ومن أفعالهم، سواءً أكانوا حُكّاماً أم كانوا محكومين! وفي الوقت الذي تؤمن فيه البوائق، ولا يخشى معه من الفتن وإراقة الدماء فلا ولاية لِمثل هذه الظالم، فإن عهد الله لا ينال الظالمين! وقد خلع أهل العلم في بلاد الحرمين الملك سعود لتحقق الشوكة يومئذ، وعدم الخوف من التهارج والاقتتال

وحديثنا عن أئمة الجور إنما هو على سبيل التنزل في هذا المقام، وإلا فقد علم القاصي والداني أن خروج العلمانية والعلمانيين عن الدين أبعد بكثير من خروج الظلمة وأئمة الجور من المسلمين! وأن تبديل الشرائع أبعد عن الحق من إبقائها مع الانحراف في تطبيقها!

لقد بلغت الفتنة في واقعنا المعاصر أن يفضي الخلاف بين الإسلاميين في ذلك إلى البراءة من أهل الدين، والحط عليهم، ومشايعة الطغاة عليهم، والفرح بما ينزله بهم الطغاة من فجائع وويلات تقشعر لهولها الأبدان!

ثم نسبة ذلك كله إلى أهل السنة والجماعة! ونعته بأنه مذهب أهل الحق! ومثل ذلك لا يصح إلا إذا صح أن الحجاج الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم"!، أنه أولى بالحق من عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الذي سَمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحنّكه بيده، وأبوه حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِكلّ نبيّ حَواريًا، وحَوَارِيَّ الزُّبَيرُ»! وهو الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع من صحيحه! وأمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، التي كانت تعد الطعام وتحمله إلى رسول الله وصاحبه وهما في الغار، وهي عظيمة الزوج والأب والولد، فأبوها شيخ الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وزوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من سلَّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، وابنها الفارس البطل الشهيد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم صاحب هذا المشهد!

ولو كان هؤلاء المحتسبون ممن ينتحلون مذهب الخوارج في التكفير بالذنوب والمعاصي لأمكن قراءة هذا الموقف بشيء من التعسُّف! أما أن يكون هؤلاء ممن ينتسِبون في الجملة إلى السنة، وممن لم يعرفوا بانتحال عقائد الخوارج، ثم يظاهر عليهم العلمانية والعلمانيين فذلك أمر يعسُر فَهمه وتوجيهه!

وكم تُحزِننا هذه الجرأة من بعض إخواننا على أعراض المنتسبين إلى التدين في الجملة، وإلى السنة في الجملة، في الوقت الذي يَسلم فيه من أذاهم العلمانيون والحداثيون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة! وتلتمس لهم الأعذار في تسامح بالغ وتودُّد ظاهر!


ويذكرني هذا بما روي عن سفيان بن حسين قال: "ذكرتُ رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعد بعدها" (البداية والنهاية؛ لابن كثير: [13/121]).

والأمر الذي لا ينقضي منه العجب أنك إن ذكرت بعض أحبابنا هؤلاء بأن المرء بمجموع حسناته سيئاته، وبما غلب عليه منهما، يُنكر عليك ذلك، ويجتهد في حشد الأدلة وسوق البراهين على بطلان هذا المسلك، في الوقت الذي تفرّد فيه مقالات للدفاع عن الحجاج وذكر بعض مآثره ومناقبه! وقد يكون للحجاج بعض الحسنات ولكنها مغمورة في بحار ذنوبه! كما ذكر ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله، ولو فتشت في صحائف أشد الخلق على الرحمن عتياً لوجدتها لم تخل من بعض هذه الومضات!

ونحن لا نشهد على الحجاج لا بالكفر ولا بالنار، وإنما نشهد عليه بما شهِدت به عليه الدنيا كلها من الظلم وإراقة الدماء، وأمره إلى الله!

يقول عنه الحافظ الذهبي صورة: "كان ظلوماً، جبّاراً خبيثاً سفّاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن…"، إلى أن قال: "فلا نَسبّهُ ولا نُحبَّه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الايمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبهِ، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجٌملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة الأمراء".

فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، والله تعالى أعلى وأعلم.

* الدكتور محمد صلاح الصاوي - الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ورئيس الجامعة الدولية وجامعة مشكاة الإسلامية.


 

صلاح الصاوي

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة لتعليم العلوم الشرعية