وقفات بعد رحيل رمضان
أيها الإخوة إليكم هذه الوقفات بعد رحيل رمضان...
لقد كان سلف هذه الأمة يعيشون بين الخوف والرجاء. كانوا يجتهدون في العمل فإذا ما انقضى وقع الهم على أحدهم: أقبل الله منه ذلك أم رده عليه.
هذه حال سلف هذه الأمة فمل هو حالنا؟
والله إن حالنا لعجيب غريب. فوالله لا صلاتنا كصلاتهم، ولا صومنا كصومهم، ولا صدقتنا كصدقتهم، ولا ذكرنا كذكرهم؟ لقد كانوا يجتهدون في العمل غاية الاجتهاد، ويتقنونه ويحسنونه، ثم إذا انقضى خاف أحدهم أن يرد الله عليه عمله. وأحدنا يعمل العمل القليل ولا يتقنه ولا يحسنه، ثم ينصرف وحاله كأنه قد ضمن القبول والجنة.
فيا أخي عليك أن تعيش بين الخوف والرجاء، إذا تذكرت تقصيرك في صيامك وقيامهم؛ خفت أن يرد الله عليك ذلك، وإذا نظرت إلى سعة رحمة الله، وأن الله يقبل القليل ويعطي عليه الكثير، رجوت أن يتقبلك الله في المقبولين.
الوقفة الثانية:
إن لكل شيء علامة، وقد ذكر العلماء أن من علامة قبول الحسنة أن يتبعها العبد بحسنة أخري.
فما هو حالك بعد رمضان؟ هل تخرجت من مدرسة التقوى في رمضان فأصبحت من المتقين.
هل تخرجت من رمضان وعندك عزم الاستمرار على التوبة والاستقامة؟
هل أنت أحسن حالاً بعد رمضان منك قبل رمضان؟
إن كنت كذلك فاحمد الله، وإن كنت غير ذلك فابك على نفسك يا مسكين فربما أن أعمالك لم تُقبَل منك، وربما أنك من المحرومين وأنت لا تشعر.
الوقفة الثالثة:
أقسام الناس بعد رمضان:
لقد انقسم الناس بعد رمضان إلى أقسام:
1- الصنف الأول: قوم كانوا على خير وطاعة، فلما جاء رمضان شمروا عن سواعدهم، وضاعفوا من جهدهم وجعلوا رمضان غنيمة ربانية، ومنحة إلاهية، استكثروا من الخيرات، وتعرّضوا للرحمات، وتداركوا ما فات، فلعله أن تكون قد أصابتهم نفحة من النفحات.
فما انقضى رمضان إلا وقد حصلوا زادًا عظيمًا، علَت رتبتهم عند الله، وزادت درجتهم في الجنات، وابتعدوا عن النيران.
علموا أن لا مستراح لهم إلا تحت شجرة طوبى، فاتعبوا هذه النفوس في الطاعات.
علموا أن الصالحات ليست حكرا على رمضان، فلا تراهم إلا صومًا قومًا، حافظوا على صيام الست في شوال، حافظوا على صيام الاثنين والخميس والأيام البيض.
دمعتهم على خدودهم في جوف الليل، وعند الأسحار استغفار أشد من استغفار أهل الأوزار، يعيشون بين الخوف والرجاء، حالهم كما قال الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
في السنن من حديث عائشة قالت: "قرأ رسول الله هذه الآية، فقلت: "يا رسول الله: أهم الذي يسرقون ويزنون ويشرب الخمر ويخافون من الله؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »" فهؤلاء هم المقبولون، هؤلاء هم السابقون، هؤلاء هم الذين عتقت رقابهم، وبُيّضت صحائفهم، فطوبى ثم طوبى لهم.
2- الصنف الثاني: قوم كانوا قبل رمضان في غفلةٍ وسهو ولعب، فلما أقبل رمضان أقبلوا على الطاعة والعبادة، صاموا وقاموا، قرأوا القران وتصدقوا ودمعت عيونهم وخشعت قلوبهم، ولكن ما أن ولى رمضان حتى عادوا إلى ما كانوا عليه، عادوا إلى غفلتهم، عادوا إلى ذنوبهم.
فهؤلاء نقول لهم:
من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
إن الذي أمرك بالعبادة في رمضان هو الذي أمرك بها في غير رمضان.
يا عبد الله:
يا من عدت إلى ذنبوك ومعاصيك وغفلتك، تمهّل قليلاً، تفكّر قليلاً.
كيف تعود إلى السيئات، وربما قد طهرك الله منها.
كيف تعود إلى المعاصي وربما محاها الله من صحيفتك.
يا عبد الله:
أيعتقك الله من النار فتعود إليها؟ أيُبيِّض الله صحيفتك من الأوزار وأنت تسودها مرة أخرى؟
يا عبد الله:
آهٍ لو تدري أي مصيبة وقعت فيها.
آهٍ لو تدري أي بلاء نزل بك، لقد استبدلت بالقرب بُعدًا، وبالحب بُغضًا.
يا عبد الله:
إياك أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ انكاثًا.
لا تهدم ما بنيت، لا تسود ما بيّضت، لا ترجع إلى الغفلة والمعصية فوالله أنك لا تضر إلا نفسك.
يا عبد الله:
إنك لا تدري متى تموت، لا تدري متى تغادر الدنيا. فاحذر أن تأتيك منية وأنت قد عُدت إلى الذنوب والمعاصي. وتذكر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11]، فغيّر من حالك، اترك ذنوبك، أقبل على ربك حتى يُقبِل الله عليك.
3- الصنف الثالث: قوم دخل رمضان وخرج رمضان، وحالهم كحالهم، لم يتغير منهم شيء، ولم يتبدل من أمر، بل ربما زادت آثامهم، وعظمت ذنوبهم، واسودت صحائفهم، وزادت رقابهم إلى النار غلاً. هؤلاء هم الخاسرون حقًا. عاشوا عيشة البهائم، لم يعرفوا لماذا خلقوا عوضًا أن يعرفوا قدر رمضان وحرمة رمضان، ولقد سمعت والله أحدهم يتبجح ويجاهر بالفطر في نهار رمضان. فهؤلاء ليس أمامنا حيلة معهم إلا أن ندعوهم إلى التوبة النصوح، التوبة الصادقة، ومن تاب، تاب الله عليه.
وإليك يا أخي كلمات من كلمات سلف هذه الأمة، فوالله أن كلامهم لقليل ولكنه يحي القلوب.
قال أبو الدرداء: "لو أن أحدكم أراد سفرًا، أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه؟" قالوا: "بلى". قال: "سفر يوم القيامة أبعد، فخذوا ما يصلحكم؛ حجوا لعظائم الأمور. صوموا يومًا شديد حرّه لحرّ يوم النشور. صلّوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور. تصدّقوا بالسرّ، ليوم قد عَسر".
وقال الحسن البصري: "إن الله جعل رمضان مضمار لخلقه؛ يتسابقون فيه بطاعته فسبق قومٌ ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون".
اللهم اجعل ما نقول حجة لنا لا علينا.
- التصنيف:
- المصدر: