من أفعال الباطنيين بالمسلمين

منذ 2013-12-05

من أعظم ما ابتُلِيَت به هذه الأمة الخاتمة المباركة ظهور النفاق والمنافقين فيها، وتأثيرهم في ماضيها وحاضرها، وتلويثهم لتاريخها، وإعاقتهم لانتصاراتها وفتوحها، وممالأتهم الأعداء عليها؛ حتى لا تكاد توجد فترة من تاريخ المسلمين؛ عَزَّ فيها سلطانهم، واتسعت دولتهم، وانتصروا في حروبهم، وخضع لهم أعداؤهم إلا قام المنافقون بمهمتهم؛ فأفسدوا النصر، واتصلوا بالعدو، وكادوا المكائد، وغدروا بالإسلام وأهله. وهو ابتلاء أصاب المسلمين في كل بقعة من الأرض، ولم يخل منه قرن من القرون السالفة.


الحمد لله ربّ العالمين، ولي المؤمنين، وناصر المستضعفين، وكابت الكافرين {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20-21].

نحمده حمداً كثيراً، ونشكره شكراً مزيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قهر الخلق بعزته وقدرته، وأمضى فيهم قدره بحكمته، فلا يقضي في المؤمنين قضاء إلا كان خيرا لهم، ولو بدا في الظاهر خلاف ذلك يعلم {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أقام الحجة، وأوضح المحجة، وقطع المعذرة، فمن تبعه فقد اهتدى ونجا، ومن خالفه فقد غوى وهوى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينه، والزموا شريعته، ولا تغتروا بكثرة المبدلين والمغيرين؛ فإن الحق لا يتغير بقلة أتباعه، وإن الباطل لا يصير حقًا بقوة أنصاره {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور من الآية:52].

أيها الناس: من أعظم ما ابتُلِيَت به هذه الأمة الخاتمة المباركة ظهور النفاق والمنافقين فيها، وتأثيرهم في ماضيها وحاضرها، وتلويثهم لتاريخها، وإعاقتهم لانتصاراتها وفتوحها، وممالأتهم الأعداء عليها؛ حتى لا تكاد توجد فترة من تاريخ المسلمين؛ عَزَّ فيها سلطانهم، واتسعت دولتهم، وانتصروا في حروبهم، وخضع لهم أعداؤهم إلا قام المنافقون بمهمتهم؛ فأفسدوا النصر، واتصلوا بالعدو، وكادوا المكائد، وغدروا بالإسلام وأهله. وهو ابتلاء أصاب المسلمين في كل بقعة من الأرض، ولم يخل منه قرن من القرون السالفة.

وهذا الابتلاء العظيم فيه من المنافع ما يجل عن الوصف، ويستعصي على الحدّ والعدّ؛ ففيه تنقية الصفوف من الدخن، وإنهاض المسلمين من الدَّعة والكسل، وإذهاب ما بهم من الفتور، وحفّزهم للدفاع عن دينهم.

وكانت الفرق الباطنية من أشرس أعداء الإسلام والمسلمين، وأشدهم نكاية بهم؛ فهم لا يرعون لهم حرمة، ولا يُفون لهم بذمة، ولا يردون إحسان المسلمين فيهم إلا بأشد الأذى والإساءة؛ ذلك أن الأحقاد قد أكلت أكبادهم، واحتقارهم للمسلمين أفسد أمزجتهم، وإخفاء مذهبهم الفاسد مكن لهم، وغرَّ كثيراً من المسلمين بهم.

إنهم قوم خلطوا المجوسية باليهودية وبعض الأفكار الفلسفية، وأنشئوا منها ديناً ومعتقداً يتداوله أئمتهم، ويخفونه عن عامتهم، خرجوا به عن الشرائع؛ فتركوا واجباتها، واستحلوا مُحرّماتها، وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، واتخذوا عباد الله من المسلمين أعداء لهم وإن عاشوا بينهم، ونعموا بعدلهم وبرهم.

كان أول ظهورهم في خلافة بني العباس حين تُرجمت كتب فلاسفة اليونان، وبراهمة الهند، ونُقلت ثقافة المجوس إلى عاصمة الخلافة؛ ففي أوائل القرن الثالث خرج بابك الخرمي في نواحي آذربيجان، وأظهر دعوته، وكثر أتباعه، وتسلَّط على المسلمين سفكاً لدمائهم، واستحلالاً لأعراضهم وأموالهم، حتى ذكر المؤرخون أنه قَتل ربع مليون مسلم، واستباح من حريم المسلمين أكثر من سبعة آلاف حُرّة عفيفة خلال عشرين سنة، واستفحل أمره، وعظم خطره، وطالت مدته، وأفتى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بقنوت النوازل عليه، حتى تمكّن الخليفة المعتصم من كسره والقبض عليه وقتله وصلبه، وكان المعتصم قد امتحن الناس بفتنة خَلْق القرآن، وسجن الإمام أحمد رحمه الله وضربه بالسياط حتى غُشِي عليه وكاد يقتله، ومع ذلك فإن الإمام أحمد جعل المعتصم في حِلّ من ذلك كله بسبب قضائه على فتنة بابك الخرمي الباطني.

وفي أوائل القرن الرابع الهجري تفاقم خطر الباطنيين، وسيطروا على كثير من الأقاليم، ومنهم القرامطة الذين ساروا إلى مكة وقت الحج، فبلغوا الحرم يوم التروية عام سبعة عشر وثلاث مئة للهجرة، فأعملوا السيوف في الطائفين من الحُجاج، وفي فجاج مكة وبطاحها، وانتهبوا أموالهم، وسبوا حريمهم وصبيانهم، فقتلوا في فِجاج مكة ثلاثين ألفاً، وقتلوا ألفاً وسبع مئة من الطائفين في حرم الله تعالى، وصعد قائدهم أبو طاهر الجنّابي القرمطي على باب الكعبة، وخطب والناس يقتلون حوله فقال:


أَنَا بِالله وَبِالله أَنَا *** يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
 

وردم بئر زمزم بجثث الحجاج، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها، وشقها بين أصحابه، وأمر بنزع الحجر الأسود، وكان الخبيث يقول ساخرا بالقرآن: "أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟" وكان بعض أتباعه يقتل الناس ويقول: "يا حمير، أليس قلتم في بيتكم هذا {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران من الآية:97]، فأين الأمن؟!"

ثم قلع الحجر الأسود وأخذه إلى هجر فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى أُعيد، وفي هذه الحادثة الشنيعة تعطّل الحج ذاك العام، فلم يقف الناس بعرفة، ولا أعلم أنه تعطّل الحج منذ حج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ذلك العام عام سبعة عشر وثلاث مئة.

وفي تلك الحقبة أيضاً خرج في المغرب عبيد الله بن ميمون القداح الباطني، فأسس دولة العبيديين في شمال إفريقية، وهي الدولة التي كان حاكم ليبيا الباطني القذافي قبل سقوطه يدعو إلى إعادتها من جديد، وسار أتباع القداح الباطني الذين تلقبوا بالفاطميين إلى مصر، فانتزعوها من العباسيين، وأقاموا الدولة العبيدية في مصر والشام، وأذلُّوا المسلمين ونكّلوا بهم، وقتلوا علماءهم، وأهانوا دينهم، وادّعى بعض حكامهم النبوة ثم الربوبية كالمُعِزّ لدين الله والحاكم بأمر الله وقال شاعرهم في حاكمهم المعز:


ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار


قال الذهبي: "فلعن الله المادح والممدوح، فليس هذا في القبح إلا كقول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعات:24]".

وأما الحاكم بأمر الله العبيدي الباطني فقد ادّعى الربوبية وكلَّف بعض أعوانه أن يُحصي من يعتقدون أنه إله من دون الله تعالى، وأباح مصر لجنده، فقَتلوا الناس، وانتهكوا أعراضهم، وسبوا أموالهم، واجتمع علماء المذاهب الفقهية فأصدروا محضراً كفّروا فيه العبيديين، وبيّنوا مخازيهم للأمة.

ومن مخازي العبيديين أنهم كاتبوا الصليبيين يدعونهم لأخذ الشام نكاية بالسلاجقة السنة الذين أثخنوا في الصليبيين، وكان والي العبيديين على القدس افتخار الدولة، فما نجا من سيوف الصليبيين إلا هو وأهله وحاشيته جرّاء خيانتهم.

ولذا فإن نور الدين ثم صلاح الدين رحمهما الله تعالى توجهت همتهما للقضاء على الباطنيين في مصر والشام أكثر من حرب الصليبيين؛ لأن الباطنيين كانوا هم الخطر الحقيقي على المسلمين لغدرهم وخيانتهم وفتكهم بأهل الإسلام.

وخيانة ابن العلقمي الرافضي الباطني للخليفة العباسي المستعصم أشهر حدث في نهاية دولة دامت قروناً بخيانة وزيرها لمن ولّاه ووثق به، حتى أسقط دار الخلافة تحت حوافر خيول التتر، فأبادوا أهل بغداد بخيانة ابن العلقمي والنصير الطوسي، وكلاهما باطنيان.

وفي القرن العاشر لما قام إسماعيل الصفوي بدعوته واستولى على إيران كان أكثر أعوانه، وعماد جيشه من قبائل القزلباش التركية النصيرية، فأعانوا الباطني على دولتهم؛ لاتحادهم معه في المذهب الباطني، والكيد للإسلام والمسلمين.

ولما حاصر بنو عثمان فيينا، ولو فتحوها آنذاك لأضاءت أوروبا كلها بالإسلام، حرّك الأوروبيون إسماعيل الصفوي الباطني فطعن الجيش العثماني من الخلف، واستولى هو وباطنيته من النصيريين على بغداد مما اضطر الجيش العثماني إلى فك الحصار عن فيينا والتوجه إلى بغداد لتخليصها من الصفويين.

ولما استوطن اليهود فلسطين بعد سقوط دولة بني عثمان كان الباطنيون في فلسطين وسائر الشام من الدروز والنصيريين والإسماعيلية عيوناً للدولة اليهودية على الفدائيين الفلسطينيين، والتحق كثير من دروز فلسطين بجيش الاحتلال للانتقام من المسلمين.

وأخبار الباطنيين في التاريخ غزيرة، وأذاهم للمسلمين كثير، وخياناتهم متكرّرة، ولكن أين من يقرأ التاريخ؟ وأين من يعي دروسه، ويفقه حوادثه؟!

اللهم اكفنا شرّ أعدائنا، وبصِّرنا بمن يَكيد لنا، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مكر الباطنيين يا ربّ العالمين.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].

أيها المسلمون: إن كانت هذه شذرات من سيرة الباطنيين، وأفعالهم بالمسلمين منذ ظهورهم في القرن الثالث إلى سقوط الخلافة العثمانية؛ فإن أفعالهم اليوم لا تختلف عن أفعالهم بالأمس.

وإذا كان أبو طاهر القرمطي قد ذبح الحُجاج في حرم الله تعالى، وادّعى الربوبية، وفعلها بعده الحاكم العبيدي في مصر؛ فإن قرامطة الشام يفعلون ذلك اليوم، وتنقل المقاطع المسجلة للباطنيين وهم يُكرِهون الناس تحت العذاب وتهديد السلاح أن يعترفوا بربوبية رئيسهم النصيري القرمطي من دون الله تعالى.

وإذا كان أبو طاهر القرمطي والحاكم العبيدي قد سَخِرا من الله تعالى، وأزريا بشعائر الإسلام، فإن المشاهد المصوّرة من بلاد الشام هذه الأيام قد نقلت أفعال النصيريين بالمساجد حين دخلوها، وقارفوا المحرَّمات فيها، وأهانوا القرآن ومزقوه، واستهزئوا بالصلاة، وقتلوا المصلين.

وإذا كان الباطنيون عبر القرون قد استباحوا دماء المسلمين، وانتهكوا أعراضهم، وانتهبوا أموالهم؛ فإن قرامطة الشام اليوم يذبحون المسلمين، ويعذبون أطفالهم، ويغتصبون نساءهم. نعم والله إنهم ليختطفون الفتيات من أمهاتهن، وينتهكون أعراضهن، ثم يقطعون أطرافهن.

لقد ابتُلِيَت بلاد الشام المباركة بتسلُّط أقوامٍ ينتحلون أخبث دين وهو الباطنية النصيرية، وينتمون لأشد المذاهب الفكرية كُفراً وحرباً على الإسلام وأهله وهو حزب البعث، فانصهرت الباطنية الكفرية في البعثية الملحدة؛ ليتشكل منها نظام الحكم في سوريا.
وقد قال شاعر البعث:


آمنت بالبعث ربًّا لا شريك له *** وبالعروبة دينًا ما له ثان


وقال آخر:


سلام على كُفرٍ يوحّد بيننا *** وأهلًا وسهلًا بعده بجهنم
 

وما انتحل الباطنيون في الشام فكر البعث المادي إلا ليتسلقوا عليه ليحكموا الأغلبية الساحقة من المسلمين، ولا مكن المستعمرون الأوروبيون للباطنيين من حكم المسلمين تحت لافتة هذا الحزب إلا لعلمهم بخيانة الباطنيين للمسلمين، وشدة حقدهم عليهم وعلى دينهم.

إن إخواننا المستضعفين في الشام المباركة لفي كربٍ شديد، وعُسرٍ عظيم، ونازلة كبيرة، وهم تحت رحمة من لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ولا تعرف الرحمة لقلوبهم طريقاً، يمدهم في بغيهم وعدوانهم الصفويون وحلفاؤهم كلهم قد اجتمعوا على عزل مستضعفين تخلّى عنهم العرب والعجم تحت بنود السياسة الجائرة التي لا تعرف إلا المصالح المادية الآنية، ولو أُبيدَت أُمّة بأكملها، فلا حول لهم ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، فأكثِروا لهم من الدعاء، وانصروهم بأقوالكم وأقلامكم، وبما تستطيعونه من أنواع النصرة؛ فإننا والله نخشى من العقوبة إن خذلناهم وتخلينا عنهم، و«المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه» (متفق عليه)، و«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» (متفق عليه)، وأي ظلم نزل بقومٍ أعظم مما ينزل الآن بأهل الشام المباركة.

اللهم فرج كربهم، وأظهر أمرهم، وثبِّت أقدامهم، وقوِّ عزائمهم، واربط على قلوبهم، واخذل أعداءهم، اللهم أمدّهم بجندك ونصرك، وأعنهم بحولك وقوتك، وأمطر عليهم سحائب النصر والتمكين، اللهم احفظ دماءهم، وصن أعراضهم وأموالهم، وأدر دوائر السوء على أعدائهم، اللهم اشف جريحهم، وأطعم جائعهم، وأمّن خائفهم، اللهم املأ قلوبهم أمناً وسكينة، وأنزل عليهم الطمأنينة، اللهم تقبّل قتلاهم في الشهداء، واثأر لليتامى والآيامى والمكلومين والمقهورين من عبادك المؤمنين.

اللهم عليك بالنصيريين ومن أعانهم على ظلمهم يا ربّ العالمين، اللهم لا تُحقِّق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، وزلِّزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وانزع الملك منهم، وأسقط دولتهم، وأبدلهم بالعِزِّ ذُلاً، وبالقوة ضعفاً، يا قويُّ يا عزيز، يا حيُّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.