علامة الحب في الله

منذ 2013-12-06

اعلم أن الناسَ -من حيث الحب والبغض- لا يستوون، إنما هم على أقسام: - قسم نحبُّهم جملة وتفصيلاً، وهم المؤمنون الطائعون لله عز وجل. - قسم نُبغضهم ولا نحبهم جملة وتفصيلاً، ولكن لا نظلمهم، وهم الكفار. - قسم نحبهم من جانب، ونُبغضهم من جانب، وهم المسلمون العصاة، نحبهم لأنهم مسلمون، ونُبغض معاصيَهم.

 

الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه أنَّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ، فقال: "متى الساعة؟" قال: «وماذا أعددتَ لها؟»، قال: "لا شيء إلا أنِّي أحبُّ اللهَ ورسوله صلى الله عليه وسلم"، فقال: «أنت مع من أحببتَ». قال أنس: "فما فرحنا بشيءٍ فرَحنا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببتَ»". قال أنس: "فأنا أُحبُّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر، وأرجو أن أكونَ معهم بحبِّي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالِهم" [1]. وفي رواية: «ما أعددتَ لها؟»، قال: "ما أعددتُ لها من كثير صلاةٍ ولا صومٍ ولا صدقةٍ، ولكنِّي أحبُّ اللهَ ورسوله"، قال: «أنت مع من أحببتَ» [2].

فيه مسائل:
المسألة الأولى: معاني الكلمات:
قوله: «ما أعددتَ لها؟» قال الطيبي: "سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن وقت الساعةِ، فقيل له: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، وإنما يُهمُّك أن تهتمَّ بأُهْبَتها، وتعتني بما ينفعُك عند إرسالها من العقائد الحقَّةِ، والأعمال الصالحة، أجاب بقوله: "ما أعددتُ لها إلا أني أحبُّ اللهَ ورسوله".

قوله: "ما أعددتُ لها كبيرَ صلاة" بالموحَّدة، وفي رواية للبخاري "كثيرَ صلاة" بالمثلَّثة.

قوله: «وأنت مع من أحببتَ»؛ أي: مُلحقٌ بهم، حتى تكونَ من زُمرتهم، وبهذا يندفع إيرادُ أن منازلَهم متفاوتةٌ، فكيف تصحُّ المعيَّةُ؟ فيقال: إنَّ المعيةَ تحصل بمجرَّد الاجتماع في شيءٍ ما، ولا يلزم في جميع الأشياء، فإذا اتَّفق أن الجميعَ دخلوا الجنة، صدقت المعيةُ، وإن تفاوَتت الدرجاتُ؛ كذا في الفتح.

قوله: "فما رأيتُ فرح المسلمين بعد الإسلام"؛ أي: بعد فرحِهم به، أو دخولهم فيه، "فرَحَهم" بفتحاتٍ؛ أي: كفرَحِهم "بها"؛ أي: بتلك الكلمة، وهي: «أنت مع من أحببتَ»، وفي رواية للبخاري: قال: «إنك مع من أحببتَ»، فقلنا: "ونحن كذلك؟" قال: "نعم، ففرِحنا يومئذ فرحًا شديدًا". وفي بعض الروايات: «المرءُ مع من أحبَّ»؛ أي: يُحشر مع محبوبه، ويكون رفيقًا لمطلوبه؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، وظاهرُ الحديث العمومُ الشامل للصالح والطالح، ويؤيِّده حديث: «المرء على دين خليله»، ففيه ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وفي رواية: «وله ما اكتسَب»، وفي رواية البيهقي في شعب الإيمان: «أنت مع من أحببتَ، ولك ما احتسبت»، قال القاري: "أي: أجرُ ما احتسبت، والاحتساب: طلبُ الثواب، وأصل الاحتساب بالشيء: الاعتدادُ به، ولعله مأخوذٌ من الحساب أو الحسَب، واحتسب بالعمل: إذا قصد به مرضاةَ ربه"، وقال التوربشتي: و"كلا اللفظين -يعني: احتسب واكتسَب- قريبٌ من الآخرِ في المعنى المراد منه"؛ قال الطيبي رحمه الله: "وذلك لأن معنى ما اكتسَب: كسب كسبًا يُعتدُّ به، ولا يرِدُ عليه سببُ الرياء والسمعة، وهذا هو معنى الاحتساب؛ لأن الافتعال للاعتمال، ومعنى الحديث: أن المرءَ يُحشر مع من أحبَّه، وله أجر ما احتسب في محبتِه [3].

المسألة الثانية: الولاء والبراء:
الولاء والبراء هما أصلٌ من أصول الإسلام، وهما مظهرانِ من مظاهر إخلاص المحبةِ لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين. والبراء: مظهرٌ من مظاهرِ كراهية الباطل وأهلِه، وهذا أصلٌ من أصول الإيمان، وأما أهميَّتُه بالنظر للوقت الحاضر؛ فلأنه قد اختلط الحابلُ بالنابل، وغفَل الناسُ عن مميزات المؤمنين التي يتميَّزون بها عن الكافرين، وضعُفَ الإيمانُ في قلوبهم؛ حتى ظهرت فيهم مظاهرُ يكرهها المؤمنُ من موالاةِ الكافرين أُممًا ودُولاً، وزهِدوا في كثيرٍ من المؤمنين، وحطُّوا من قدْرهم، وساموهم سوء العذاب. ولَمَّا كان لا يتحقَّق معنى لا إله إلا الله والعملُ بها، إلا بتحقُّق الولاءِ لمن يستحقُّ الولاءَ، والبراءِ ممن يستحق البراءَ، فهذه القضية من القضايا المهمة التي ينبغي الاهتمامُ بها؛ فهي قضيةُ كفرٍ وإيمان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23، 24]. وغيرها في القرآن كثيرٌ يحثُّنا على التبرؤ من الكفر وأهلِه، والمولاةِ للإيمان وحزبه.

ولما ترَك المسلمون هذا الأصلَ الأصيل، ظهرت فيهم صورٌ شتى لموالاة الكفَّار؛ منها:
1- محبة الكفار وتعظيمُهم ونُصرتهم على حربِ أولياء الله، وتنحيةُ شريعة الله عن الحُكم في الأرض، ورميُها بالقصور والجمود، وعدم مسايرة العصر، ومواكبة التقدم الحضاري.
2- ومنها: استيراد القوانين الكافرة -شرقية كانت أم غربية- وإحلالُها محل شريعة الله الغراء، وغمزُ كلِّ مسلم يطالب بشرع الله بـ(التعصُّب والرجعية والتخلُّف).
3- ومنها: التشكيكُ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعنُ في دواوينها الكريمةِ، والحطُّ من قدر أولئك الرجال الأعلام الذين خدموا هذه السنةَ حتى وصلت إلينا.
4- ومنها: قيام دعوات جاهلية جديدة -تُعتبر جديدةً في حياة المسلمين- ذلك مثل: دعوة القوميَّةِ العربية، والقومية الهندية، والليبرالية، والعلمانية، والمدَنية، والدِّيمقراطية... إلخ.
5- إفسادُ المجتمعات الإسلامية عن طريق وسائلِ التربية والتعليم، وبث سموم الغزو الفكريِّ في المناهج والوسائل الإعلاميَّة بكل أصنافِها.

ورحم اللهُ الإمام المجدِّد شيخَ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حين قال: "إن الإنسانَ لا يستقيمُ له إسلامٌ ولو وحَّد اللهَ وترك الشركَ إلا بعداوةِ المشركين؛ كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

وهنا أمرٌ مهمٌّ ينبغي التنبيهُ عليه، وهو أن هناك فرقًا بين البر والمودةِ، فالبرُّ هو توصيل الحقِّ إلى أهله ولو كان كافرًا، فلو أن أحدًا من المشركين عامَلَ المسلمين لا يظلمونه لمجردِ أنه مشركٌ؛ ولكن لا نحبُّه، وهذا هو المقصودُ من التبرؤ من المشركين، أما المودةُ وهي الحب فلا يجوز حبُّ المشركين.

واعلم أن الولاءَ والبراء من لوازم لا إله إلا الله؛ فمن المعلوم أن العبدَ كي ينتفع بقولِ: لا إله إلا اللهُ في الدنيا والآخرة، فعليه أن يأتي بشروطها، كما تقدم عند الكلام على شروطها، ومن ضمن هذه الشروطِ: المحبةُ لهذه الكلمة، ولِما اقتضته ودلَّت عليه، ولأهلها العاملين بها، الملتزمين لشروطها، وبُغضُ ما ناقض ذلك؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. وفي حديث أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ من كنَّ فيه، وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان، أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذَه اللهُ منه، كما يكره أن يُقذفَ في النار»[4].

قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: "وعلامةُ حبِّ العبدِ ربَّه تقديمُ محابِّه وإن خالفَت هواه، وبُغضُ ما يُبغض ربُّه، وإن مالَ إليه هواه، وموالاةُ مَن والى اللهَ ورسولَه، ومعاداةُ من عاداه، واتباعُ رسولِه، واقتفاءُ أثرِه، وقَبولُ هداه" [5]. والأدلة على أنَّ الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله كثيرة، نذكر منها:

- قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
- ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].
- ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

ومما سبق يتَّضح أن الولاءَ في الله هو محبةُ الله ونصرةُ دينه، ومحبة أوليائه ونُصرتهم. والبراءُ هو بُغض أعداء الله ومجاهدتُهم، وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول بـ: (أولياء الله)، والفريق الثاني بـ: (أولياء الشيطان)؛ قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] [6].

اعلم أن الناسَ -من حيث الحب والبغض- لا يستوون، إنما هم على أقسام:
- قسم نحبُّهم جملة وتفصيلاً، وهم المؤمنون الطائعون لله عز وجل.
- قسم نُبغضهم ولا نحبهم جملة وتفصيلاً، ولكن لا نظلمهم، وهم الكفار.
- قسم نحبهم من جانب، ونُبغضهم من جانب، وهم المسلمون العصاة، نحبهم لأنهم مسلمون، ونُبغض معاصيَهم.
___________________
[1] البخاري (3688)، مسلم (2639) باب: المرء مع من أحب، وأحمد (12075).
[2] البخاري (6171).
[3] تحفة الأحوذي (13/ 58 – 59).
[4] البخاري (16)، ومسلم (43).
[5] معارج القبول (1/ 383).
[6] انظر:كتاب الولاء والبراء؛ لمحمد بن سعيد القحطاني.
 

 

محمد عبد المنعم آل علاوة