قواعد في الشكر

منذ 2013-12-07

هذا من فضل الله ورحمته، فالشكر يحافظ على بقاء النعم، ثم لا يكتفي بذلك فقط بل يزيدها، فهل بعد هذا البيان عذر في التقصير؟! أم هل هناك مُبرِّر للتقاعس وعدم النفير؟! فإن هذا مما يستنهض الهمم، ويجعلها تعرف قدر عبادة الشكر وتقدِّره قدره.

 

يقول الله عز وجل: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل من الآية:18]، فلو مكث أحدنا عُمره ليَعدَّ نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يُحصيها فمتى وكيف يشكرها؟!

ونظراً لأهمية هذا الموضوع وتقصيرنا فيه، فالواجب أن يتكاتف الجميع بالحض والتذكير، ويتسابقون نحوه بالجد والتشمير، فالشكر عبادة جليلة قال الله عن أهلها: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ من الآية:13].

فهلّا حدثت نفسك بأن تكون من هذا القليل! لم لا! والله جلّ جلاله هو الغني الحميد، المستحق للحمد والثناء والتمجيد، جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه.

لذا فقد جمعت هنا طائفة من الآيات والآثار، ونتف من الأقاويل والأخبار، في شكل يسير ومبسط، ليسهل حفظها وتذكرها وتطبيقها بشكل عملي، علنا أن نشكر الله عز وجل بقدر ما نستطيع كما قال سليمان التيمي: "إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم" ا.هـ.

القاعدة الأولى: الشكر قيد النعم.

فمن كان ذا مال أو صحة أو مكانة أو نحوها، فليُحِطْها بسياج الشكر، وليدفع عن حياضها بسلاحه، وليعلم بأنها لن تبقى إذا لم يُؤدِّ حق الله فيها، فإذا أردنا المحافظة على نعمة وبقاؤها، فعلينا بالشكر فإنه "قيدُ النعم" كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.

القاعدة الثانية: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم من الآية:7].

وهذا من فضل الله ورحمته، فالشكر يحافظ على بقاء النعم، ثم لا يكتفي بذلك فقط بل يزيدها، فهل بعد هذا البيان عذر في التقصير؟! أم هل هناك مُبرِّر للتقاعس وعدم النفير؟! فإن هذا مما يستنهض الهمم، ويجعلها تعرف قدر عبادة الشكر وتقدِّره قدره.

قال ابن القيم: "والشكر معه المزيد أبداً لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر" ا. هـ.

فمن لم يلمس الزيادة في إيمانه وعبادته، فليُراجع نفسه، ومن لم ير البركة في ماله وعياله، فليًراجع نفسه، فإن الله وعد الشاكر بالمزيد، والله لا يُخلِف الميعاد.

القاعدة الثالثة: احذر الاستدراج.

قال أبو حازم: "إذا رأيتَ الله عز وجل سابغ نعمه عليك وأنتَ تعصيه فاحذره" ا. هـ. وذلك حين ترى زيادة النعم وإسباغها بدون شكر لله عز وجل.

فهذه علامةُ خطرٍ ينبغي الوقوف عندها، كما قال الله عز وجل: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56].

ولذا فسّر سفيان ابن عيينه قول الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف من الآية:182]، قال: "نُسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر" ا. هـ. نعوذ بالله من ذلك.

القاعدة الرابعة: "كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية".

كما قال ذلك أبو حازم رحمه الله تعالى، وقال الحسن رحمه الله: "إن الله ليُمتِّع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذابًا". هـ. وانقلاب النعمة عذاباً مما نراه في واقعنا، فكم رأينا صاحب المال يعذب بماله، وذا العيال يشتكي من عقوق أبنائه، وصاحب المنصب والجاه ينكوي بلظى النعيم الذي يراه الناس يتقلَّب فيه.

خامساً: لا تعصيه بنعمه.

وهذه قاعدة متينة من قواعد الباب، لذا عرف كثير من السلف الشكر بذلك، فقد سُئِل الجنيد عن الشكر فقال: "أن لا يُستعان بشيءٍ من نعم الله على معاصيه" ا. هـ.

وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: "إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه: أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلًا إلى معصيته" ا. هـ.

وكان مخلد بن الحسين يقول: "كان يقال: الشكر ترك المعاصي" ا. هـ.

فهل من الأدب أن نستعين بنعم الله على معصيته! فنعمة البصر ينظر بها للحرام، ونعمة السمع لا تَسمع الذكر والقرآن، والمال لا يُزكَّى ولا يُنفق منه في سبيل الرحمن، وتُستغل المناصب والجاهات والقدرات والمواهب في غير ما يُحب واهب النعمة، فلنسأل أنفسنا إذاً: هل نحن ممن يشكر الله أم ممن يعصيه بنعمه؟!

سادساً: الشكر بالعمل.

وذلك بالعبودية لله عز وجل والتقرب إليه بأداء الفرائض أولاً، فلم يشكر الله عز وجل من لم يُؤدِّ فرائضه، ثم بأداء النوافل والقربات، ثم بحسن التعامل مع خلقه ولين الجانب لهم والبُعد عن ما يُضاد ذلك من سوء الأخلاق والظلم والشطط.

ثم بصرف النعم في مصارفها، واستغلالها فيما يناسبها، فكيف يكون شاكراً من يلهج لسانه بالحمد والشكر على نعمه ثم تُرمى بعد ذلك النعم في النفايات! أو يَصرف نعمة البصر والمال والصوت والسمع... إلخ، في غير ما يُحب الله عز وجل ثم يحمده ويشكره عليها بعد ذلك.

ولذا قام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى تفطَّرت قدماه فقيل له: "أتفعل هذا وقد غَفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر؟!" قال: «أفلا أكون عبداً شكورًا» (متفقٌ عليه واللفظ للبخاري).

فيجب أن يتواطأ القلب واللسان والجوارح بالشكر، فهي منظومة متكاملة، آخذ بعضها بآخية بعض، ولهذا جاء الحض عليها في القرآن {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ من الآية:13].

سابعاً: لا يشكر الله من لا يشكر الناس.

فمن قواعد الشكر أن تكافئ من أسدى لك معروفاً أو خدمة ومعونة، مهما كان حجمها وقدرها، فإن لم تستطع مكافأته حسياً، فلتشكره بلسانك وتثني عليه خيراً بما قدَّم لك، كما في حديث جابر مرفوعاً: «من صُنع إليه معروفٌ فليجز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره».

وهذا هو التوازن المطلوب من المسلم، الذي حين فقدناه سقطنا في قاع الانفصام النكد، فتجد من يتورع عن الربا ولكن لا يبالي بمال اليتيم.

ومن تورَّع عن الكذب وهو يفري أعراض الناس، والتوازن هو منح الناس حقهم من الشكر والإحسان "لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه وأبى أن يقبلهما إلا معاً لأن أحدهما دليلٌ على الآخر وموصولٌ به‏ فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع وبشاهده استخف‏ ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة قائم في العقل‏: ‏ أن من كفر نِعم الخلق كان لنِعم الله أكفر؛ لأن الخلق يُعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة وثقل العطية على القلوب والله يُعطي بلا كلفة‏ ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه‏". ‏

تاسعا: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر من الآية:8].

فهذه الآية فيها ما يكفي من الحث على الشكر والاهتمام به، لأنها تشمل كل نعمة على العبد قد تمتع بها كما قال الطبري رحمه الله: "فالله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يُخصِّص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض".

وقال ابن كثير: "أي ثم لتُسألنَّ يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ما قابلتم به نعمه من شكره وعبادته" ا. هـ.

فيا لله ما أعظم غفلتنا عما يُراد بنا! فإن كان ربنا يقول: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، فلو مكث أحدنا عمره ليعد نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يحصيها فمتى وكيف يشكرها.

ثم ما من نعمة إلا ونحن نتمتع بها وإن لم نعلم بها أو نستشعرها، ثم بعد هذا التمتُّع السؤال عن هذا النعيم، فهل أعددنا لهذا الموقف جواباً، وهل نبدأ بمراجعة أنفسنا ومحاسبتها لنذوق بعد طعم المزيد الذي وعدنا به لنُدرِك بعد ما فاتنا من خير ونعيم: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ} [البقرة من الآية:272].