الرقائق وحاجتنا إليها
موضوع (الرقائق) موضوع مهمٌّ جدًّا لشدَّة حاجتنا إليه.
كم قتلوا من المسلمين المحاصَرين في غزة؟! لقد قتلوهم بالقنابل، وبالأسلحة المحرَّمة دوليًّا، وبالحِصار الجائر يُرِيدون به نشرَ المجاعة فيهم، وتَفاقُم أمراض المرضى من أطفالهم ورجالهم ونسائهم!
كم قتل النصارى من المسلمين في البوسنة والهرسك؟!
كم قتَلُوا في العِراق وأفغانستان، وباكستان والشيشان؟!
وما زالوا يَقتُلون ويَذبَحُون الأطفال والنِّساء، والشباب والشيب، و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة من الآية:156].
ولنَعُد إلى أنفسنا نحن المسلمين.
ألا نَشكُو من قسوة القلوب؟ إنَّ واقع كثيرٍ من المسلمين اليوم واقعٌ تُسَيطِر فيه الدنيا على القلوب والأفكار، فلا يَكادُون يُفكِّرون في أمرٍ غير الدنيا.
إنهم يُفَكِّرون في الحصول على المال الوافِر، والمسكن الفاخر، والطعام الطيِّب، والسيَّارات الفخمة، ويَعمَلون جاهِدين على تأمين المستقبل الزاهر لأولادهم الذي لا يرَوْنَه إلاَّ في تحصيل الدنيا، إنهم يَرغَبون أن يتعلَّم أولادهم ليكونوا أطبَّاء أو مهندسين أو رجال أعمال يملِكون المليارات، ولا شيءَ بعد ذلك، وهذا هو الذي خَشِيَه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلقد جاءَه مالٌ من البحرين، فسَمِع الناس بذلك، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصَرَف فتعرَّضوا له، فتبَسَّم حين رآهم ثم قال: «أظنُّكم سمعتُم أنَّ أبا عبيدة قَدِمَ بشيءٍ من البحرين؟»، فقالوا: "أجل يا رسول الله"، فقال: «» (رواه البخاري برقم [3158]، ومسلم برقم [2961])
إنَّ الاشتِغال بالدنيا ونسيان الآخرة يُورِث قسوةً في القلب ووقوعًا في المعاصي، وذلك يَقُود إلى الشقاء المحقَّق.
فما أجدَرَ المسلمَ الذي يُرِيد الفوزَ والنَّجاة في الآخِرة أن يُسارِع إلى التوبة! ما أجدَرَه أن يخشى من عذاب الله، وأن يُحاسِب نفسَه قبل أن يُحاسَب، ما أجدَرَه أن يعمل للآخِرَة؛ ذلك لأنَّ البقاء في الدنيا قليلٌ مهما طال، ولأنَّ الآخِرة هي دار الخلود والقَرار، والمصير إمَّا إلى نعيمٍ مقيم، وإمَّا إلى جحيمٍ أليم؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ . وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الإنفطار:13-16].
إنَّ علينا أن نتذكَّر ونذكِّر مَن حولنا بحقيقة الدنيا التافِهَة الزائلة، إنَّ علينا أن نتذكَّر ونذكِّر مَن حولنا بأنَّ علينا رقيبًا لا تَفُوتُه حركة ولا سكنة، ولا نظرة ولا همسة.
قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]، وقال سبحانه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18].
إنَّ علينا أن نُذَكِّر أنفسنا ومَن حولنا بأنَّ أعضاءنا ستَشهَد علينا يوم القيامة؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:20-21].
وقال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
إنَّ الذي يَذكُر ذلك ويستَحضِره سيكون رقيقَ القلب، عظيمَ الخشية من الله، ويَعُدُّ لذاك اليوم عدته، يُؤتَى كلُّ عبد كتابه؛ قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
إنَّ كلَّ واحدٍ من بني آدَم مُعرَّض للوقوع في الذنب، فعلى المسلمِ إذا وقَع في ذنب أن يُسارِع إلى التوبة والاستغفار؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133-136].
أمَّا إذا لم يُسارِع العبدُ المُذنِبُ إلى التوبةِ، وعاد إلى الذنب يعلو قلبه الرَّان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]» (رواه الترمذي برقم [3334]، وابن ماجة برقم [4244]).
وقال الحسن البصري: "الرَّان: هو الذنب على الذنب حتى يعمَى القلب فيموت".
فنحن بحاجةٍ إلى مُذَكِّرين يعمَلُون على ترقيق القلوب:
- نحن بحاجة إلى مُذكِّرين للمُذنِبين، يُوقِظون الإيمان في قلوبهم، ويُذكِّرونهم بأنَّ الله يغفر الذنوب جميعًا مهما عَظُمَتْ هذه الذنوب إذا صدَق العبد في التوبة؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ج?مِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
- ونحن بحاجةٍ أيضًا إلى مُذكِّرين للصالحين يُذكِّرونهم بنعمة الله عليهم، وبآياته التي تُرقِّق القلوب، ويحضُّونهم على الاستِمرار في طريق الهدى، ويحذِّرونهم من الانحراف ويبشِّرونهم بالجنة؛ قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر من الآية:17-18].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعِظُ أصحابه المواعظ المؤثِّرة التي يَظهَر أثَرُها على الصَّحْبِ الكرام، حتى تذرف منهم العيون، وتَوجَل منهم القلوب.
عن العرباض بن سارِيَة رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: "يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا"، قال صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة» (رواه أبو داود برقم [4607]، والترمذي برقم [2676]).
ويقول أنس رضي الله عنه: "خطَبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعتُ مثلَها قَطُّ فقال: «لو تَعلَمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا»، فغطَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين" (رواه البخاري برقم [540]، ومسلم برقم [2359]، والخنين هو البكاء مع غنّة وانتشاق الصوت من الأنف).
وقد ذكَر كتاب الله أن من صفات المؤمنين أنهم إذا ذُكِّروا بآيات القرآن خَرُّوا سجدًّا وبُكيًّا؛ قال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15].
وقد حذَّرَنا ربُّنا سبحانه من أن نكون مثل أهل الكتاب الذين قَسَتْ قلوبهم فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
ومن المُفِيد أن نَذكُر بعضَ الكتب والبحوث التي أُلِّفت في الرقائق:
ومن أنفَعِها ما ذكَرَه البخاري في (صحيحه) في كتاب الرِّقاق، وكذلك ما ذكَرَتْ كُتُب السنَّة الأخرى، ومن هذه الكتب كتاب (الترغيب والترهيب) للإمام المنذري، وكتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي.
ومنها كتاب (الزهد) للإمام أحمد، وكتاب (الزهد) لعبد الله بن المبارك، والكُتُب التي بهذا العنوان.
ومنها الكُتُب التي ألَّفَها الحافظ ابن أبي الدنيا في الموضوع، وهي كثيرةٌ، منها: (الورع)، و(محاسبة النفس)، و(ذمُّ الدنيا)، و(التوكُّل على الله)، و(الشكر)، و(المرض والكفَّارات)، و(الإخلاص والنيَّة)، و(أهوال يوم القيامة)، و(حسن الظن بالله)، و(ذمُّ الملاهي)، و(الرِّضا عن الله والصبر على قضائه)، و(صفة الجنة وما أعدَّ الله لأهلها من النعيم)، و(قصر الأمل)، وكلها مطبوعة.
ومنها كتاب (الرقة والبكاء)، وكتاب (التوابين)؛ وكلاهما لابن قدامة.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
محمد لطفي الصباغ
أستاذ علوم القرآن والحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود - بالرياض
- التصنيف:
- المصدر: