دروب التيه

منذ 2013-12-24

هي امرأة تمتلك قلمًا أدبيًا ساحرًا، ولغة آسرة، تنقلت بين المنتديات حتى قرأ لها أحدهم وبعث لها بأنه تم ترشيحها لأن يكون لها عمود في احدى الصحف المحلية الأكثر توزيعاً.

 

هي امرأة تمتلك قلمًا أدبيًا ساحرًا، ولغة آسرة، تنقلت بين المنتديات حتى قرأ لها أحدهم وبعث لها بأنه تم ترشيحها لأن يكون لها عمود في احدى الصحف المحلية الأكثر توزيعًا. وافقت صاحبتنا بعد أن سألت عن الحكم الشرعي حيث وصلتها فتوى العلامة ابن باز التي يقول فيها: (المشاركة في الصحافة في الكتابة وإرسال المقالات النافعة للمرأة لا بأس به). كانت تعرف أن كل حرف صادق وصائب من امرأة كاتبة عن قضايا المرأة، أشد أثرًا من آلاف الكلمات من كاتب رجل عن قضاياها، وكانت مستعدة للتعبير عن رأيها بشجاعة، فانطلقت تكتب عن قناعاتها بنور من الله.


في بداية كتاباتها تحدثت عن العاطفة الصادقة والأحاسيس المشتركة، فكونت لها رصيدًا كبيرًا من المتابعين. وبعد ذلك بدأت تنوع بالحديث عن ضرورة الحفاظ على القيم الأخلاقية، فوهبها الله قبولًا بين القراء وانهمرت عليها الدعوات الصادقة من كل حدب. ثم بدأت تثني على تلك الأرواح النقية من المصلحين والإيجابيين، حتى أنها في احدى المرات أفردت مقالات لتتحدث فيه عن أحد العلماء المعاصرين بلغة إجلال عذبة، لكن ذلك لم يعجب رئيس التحرير الذي لم يتنبه للمقال إلا بعد نشره!!


وبالرغم من تعجب صاحبتنا من عدم وجود سبب لغضب سعادة الرئيس..


إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ليحفزها للبحث عن السبب الرئيس .. لغضب سعادة الرئيس!!


في أثناء تلك السنوات كانت صاحبتنا قد قطعت شوطًا طويلًا في قراءة المقالات التي يكتبها زميلاتها وزملائها والتي تعج بالقدح في الدين ونبذ المخالفين، وتمجيد المارقين، دون أن تستطيع معرفة الرد على شبهاتهم، ورغم أنها كانت تتألم وهي تقرأها إلا أنها لم تتنبه أنها كانت كالإسفنج الذي يمتص الشبهات ببطء، وقد يفيض بها يوماً.


في احدى المرات تلقت صاحبتنا دعوة لحضور (لقاء إعلامي ثقافي رفيع المستوى)، أعقبه اتصال من احدى زميلاتها تؤكد عليها لحضور اللقاء الذي سيتحدث فيه أحد كبار المفكرين العرب.


قالت زميلتها - بحماس مفرط -: "إن هذا المفكر العظيم، هو ذاته مؤسس (علم الجهل)، ومكتشف (نظرية الغرق)، والمتخصص في مبحث (الشك الموصل لليقين)!".


بدت تلك الألفاظ رنانة لامرأة تمتلك حساً أدبياً وعاطفة حالمة، (علم جهل)، و(نظرية غرق)، و(شك يهدي لليقين)، ولم تعرف ذلك الحين أن (الظلام يبقى ظلام)، وأن للغرق (معنى واحد) مهما تغيرت ألفاظه، وأن (دروب التيه) لايهتدي فيها أحد.


تحمست صاحبتنا وذهبت لذلك اللقاء وما أن دخلت القاعة حتى وجدت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، وهناك على طاولة تحتل منتصف المسرح، جلس خلفها رجل ثائر الشعر يجلس في صمت ملجم، ويمتلك غموضا عجيبا يستثير فضول من يشاهده لاستكشافه. لم تكن تتوقع أن يكون المسرح مختلطاً، فآثرت الجلوس المؤقت على مقعد قريب من الباب حيث كانت تعتزم الرحيل.


بدأ المتحدث حديثه دون أن يلقي السلام فقال: "الإنسانية في خطر" ثم غلبته عبرته فسكت!!


ثم تجاسر فأكمل قائلاً: "الإنسانية في خطر، والتسامح يحتضر، والناس تغرق في الجهل ولا تدري" وانعقد لسانه مرة أخرى!!


بدا وكأنه يحمل على كاهله حملاً تنوء به الجبال، أخذ نفسا عميقا وأتم حديثه: "وأنتم معشر العاملين في الإعلام، وحدكم القادرون على إنقاذ الانسانية، وإحياء التسامح، ونشر نور المعرفة الحرة بتعلم فلسفة المعرفة، وفلسفة الوجود، والتمكن منهما دون الاستعانة بأحد!!"


صفق الجميع وغلب الإنبهار على المكان، وتلاشت الأفكار في آن، لتنصهر العقول في عقل واحد، وتندثر القناعات في بوتقة واحدة، وتشيع ثقافة (تأجير العقول) تطبيقاً لا تنظيراً.


لم يتنبه أحد أن (المفكر الموشوم) إنما كان يطبق خلطة الإقناع وغسيل الدماغ، إثارة عاطفة الجمهور فانخفاض المحاكمة العقلية لأدنى مستوياتها، ثم غرس قناعة مشوهة بوصفها الحل الأمثل، في تحفيز لا مثيل له.


ولم تفهم صاحبتنا معنى (فلسفة المعرفة) التي تخدش حرارة اليقين، ولا (فلسفة الوجود) التي تذيب العقل بمحاولة معرفة (علم الغيب) الذي استأثر به عالم الغيب والشهادة، لكنها كانت مستعدة لتتعلمها حتى تتمكن من إنقاذ الإنسانية وإحياء التسامح، ورفع الجهل.


واصل المفكر -الموشوم- حديثه الحزين ببلاغة آسرة، فتحدث عن ضرورة الانعتاق عن كل القيم التقليدية البالية، وفتح الباب للإبداع المطلق، لتعود الأمة العربية للصدارة. وأكد على ضرورة تعلم (قيم الحرية) ولم يؤكد على العدل، ومجد قيمة (احترام حرية التعبير) حتى لو خالفت بعض نصوص الشرع!!


وطالب باستثارة العقل البشري لـ(يصنع الحقائق) وأن لا يكتفي بما يحاول أن تصوره كتب التراث بأن المصدر الوحيد للحقيقة اليقينية هو (القرآن) وعدم الركون لما يقوله بعض العلماء من أن وظيفة العقل هي (تفسير الحقائق)!!


كانت تلك المفاهيم أكبر من تلك العقول الحاضرة، وبدا أن المفكر نفسه تائه بين العديد من الأطروحات الفكرية، لكن الانبهار غلب، والتصفيق تسيد، وبدأ عقل صاحبتنا ينصهر وغرق في التساؤلات: "ماهي كتب التراث التي يعنيها المفكر الحزين؟!".


هي لا تعرف إلا (تراث السلف) وبلاغتها الأدبية تجعلها تستحضر أن (حرف التاء) في كلمة (تراث) إنما هي (واوا مقلوبة)، وأن (الورث) هو مايخلفه الميت لورثته، وأن السلف تركوا ميراثًا جليلًا من العلم تطهر به القلوب وتستقيم به الحياة، فكيف لا نأخذ به؟! لكنها فكرت أن المفكر إياه يتحدث بحرقه، وهذا دل على إنه يعني تراثًا مقيتًا ليس هذا!! هو يتحدث عن شيء آخر إذا هجرناه سننقذ الإنسانية، وسنعيد النصر للأمة.


- وما هي الحقائق التي يستطيع العقل أن يصنعها بدون الاستعانة بالقرآن؟!


ما تعرفه أن القرآن يخبرنا أن العقل هو الغريزة التي جعلها الله في الإنسان ليعقل صاحبه عن المعصية وليتفكر في آيات الله، وأن إطار صلاحياته هو تفسير الحقائق لا صناعتها.


لكن المفكر الحزين يتحدث عن عقل آخر، هو بالتأكيد لا يقصد أن يخالف القرآن بل ربما يتحدث عن معنى مختلف!!


- ثم لماذا لم يقل (الأمة الإسلامية) وصدح بــ(الأمة العربية)، مع أن الرابطة الأسمى  ومنبع الهوية الثقافية هي الدين الإسلامي وليس القومية العربية؟


حسنا..لعله قد خانه التعبير وربما أنه يقصد أن العربية هي لغة القرآن، فأراد الاستدلال بها!!


وما أن هدأت حتى باغتها تساؤل أشد: "كيف ستتمكن من (فلسفة المعرفة) و (فلسفة الوجود) دون الاستعانة بأحد؟ مع أن الصحابة استعانوا بنبي الرحمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على معلم الناس الخير، والله أنزل القرآن لنستعين به وأوصانا بسؤال أهل الذكر؟!"

 

لكن لعل مفكرنا أراد شيئا آخر، لا يتعارض مع هذا المفهوم. لعله أراد أن نصل للحقيقة بالاعتماد على أنفسنا دون تواكل، نعم .. لعله أراد ذلك!!


واصلت صاحبتنا التبرير والتماس الأعذار، و واصل (المفكر الموشوم) حديثه حول المعرفة وأهمية العقل و علة الوجود و ذكر بعض الكتب الفلسفية لجوته، وكانت، ونيتشه، وشبنهاور كمصادر موثوقة مؤكدا عدم التعارض بين الشرع والفلسفة مستشهدا بأقوال ابن رشد التي لم يفقهها أحدا منهم، وانتهى اللقاء. غادر الجميع المكان وترك بعضهم عقله بين يدي ذاك المفكر الموشوم والمتفلسف المشؤوم، وكانت صاحبتنا من أولئك البعض!!


ثم عاودت هي الكتابة في عمودها اليومي، لكنها هذه المرة قررت أن تلعب دوراً آخر، غير ذلك الدور التقليدي الإيجابي، وأن تنبذ القيم التقليدية لتنقذ الإنسانية وتشيع ثقافة التسامح. لكن مقالها بدا مهترئًا، وتاهت البداية فيه وتلاشت النهاية، وحل الظلام محل النور والشك محل اليقين!! كانت كمن يستميت ليلبس ثوبًا لا يطابق مقاسه ولوناً لايناسبه!!


ولأول مرة منذ سنوات تشعر بالعجز والتشتت، ولما طالت الحيرة وامتد العجز تقدمت بطلب إجازة طويلة. حضرت لقاءات مشابهة لذلك اللقاء المشؤوم، وتجاذبتها الآراء حينا لكنها قررت ..

نعم قررت أن تغوص في (الشك) لتهتدي لـ(اليقين)!!


وتتعلم (الجهل) لتملك (العلم)!!


وتؤثر (الغرق) لتظفر بمفتاح (النجاة)!!


وتفرغت لقراءة تلك الكتب التي تعج بالنظريات الفلسفية، لتصل للحقيقة (دون الإستعانة بأحد)!!


وفي أول مقال بعد العودة، كتبت صاحبتنا عن (التشدد) دون أن (تفقه التوسط)، وعن (الأدلجة) دون أن (تعرف الفطرة)، وعن (سلطة الكهنوت) دون أن تعلم أن العلماء مثل النجوم في السماء. عادت بعد أن فقدت بوصلتها، وأضاعت دليلها، وأطفأت سراجها. عادت لتتحدث عن الله بكلمة (الرب)، وعن العلماء بعبارة (رجال الدين)، وعن الكافر بمصطلح (الآخر).


عادت لتؤكد أن (الحق نسبي)، وأن (الحقيقة ليست واحدة)، وأن الذي يخبرك أن الطريق نحو الشمال صادق، والذي يقول أنه نحو الجنوب أيضا صادق، دون أن تخبرنا أي الخبرين نصدق، وأي الطريقين نسلك؟!

 

عادت لتطعن في كل من يخالفها الرأي وتشكك في ولائه ووطنيته، لتجعل (الوطن المعطاء) حصرا على من (يتعلم جهلها) و(يعيش شكها) و(يغرق غرقها)!!


عادت لتقول أن الإسلام بات (تهمة)، وأن السلفية (جناية)، وأن (التحزب) هو الحياة، وأن (الإختلاف) هو النجاة!!


عادت لتنال من (الهيئة) ولتشوه جمال المعروف بـ(تهمة الوصاية)، وتلمع المنكر بـ(طلاء الحرية)، وتسنكر الإنكار بالقلب وهو أضعف الإيمان!!


عادت لتثني على الأمريكي الراقي، والبريطاني المتطور، والفرنسي الخلوق، وتكيل الشتائم للسعودي الـمحافظ، بذريعة النقد البناء !!


عادت لتخبرنا أن (قضية المرأة) ليست جزءا من (قضية الأسرة)، وأن القوامة (سلطة ذكورية)، و(التكامل) بين الجنسين يجب أن يتحول إلى (صراع أبدي)، لتسترد المرأة كرامتها على حساب سحق الرجل !!


عادت لتطالب بتنحية أقوال الصحابة و السلف في (فقه المرأة) لأنهم ذكور، وعدم سؤال (أهل الذكر) لأنهم ذكور، وعدم سماع (الدعاة) لأنهم ذكور، ولما أعيتها الحيلة، أعلنت أنه جاء الوقت لنعيد تفسير القرآن تفسيرا إبداعيا أنثويا متحررا يلبي احتياجات الأنثى!!!


عادت لتقنعنا أن لحوم العلماء (ليست مسمومة)، وأن شتمهم (نقد هادف)، والقدح فيهم (تقويم)، والتشكيك في نواياهم (مباح ومتاح) حتى تثبت برائتهم!!


عادت لتقول كل ذلك..


وليتها قبل أن تقول ما قالت علمت: 

أن (البلاغة) لا تغني عن (الوعي)، وأن (الأدب) لا يكفي عن (العلم)، وأن (الشجاعة في التعبير) لا (تحمي القناعة الصحيحة) من الانهيار.


ليتها لم تدخل (ساحة الإعلام) دون استبصار بطبيعة البيئة الإعلامية المشوهة بالمصالح، والمتدثرة بالشبهات، والغارقة في أتون الماديات، والمشككة في الغيبيات.


ليتها قبل أن تدخل علمت ..


أن  (بعض دروب الإعلام) باتت (دروب تيه).


هند عامر