سامحيني يا أُمَّاه!

منذ 2014-01-01

يُعرَف دوماً عن زوجة الأب القسوة والشدة في معاملتها التي قد تنتُج عنها نماذج مضطربة التفكير غير قادرة على قيادة نفسها، فضلاً عن قيادة الآخرين.


هيه هيه هيه... جول جول... واحد صفر لنا على الفريق المنافس... تلك كانت صيحات الشباب التي اختلطت بأشعة الشمس الدافئة في حصة الألعاب بعد إحرازهم هدف الفوز على فريقهم المنافس.

وإذ بعين تلك المربية -مُدرِّسة- تلمح ذلك الشاب الذي بدا حزيناً مهموماً شارداً بذهنٍ غيرِ صافٍ مشاهِداً تلك المباراة الذي لطالما قد حلم أن يكون سعيداً يوماً مثل أقرانه من الشباب وهم يفرحون مبتهجون بالفوز؛ فتسير إليه بخطواتها الهادئة الرزينة وما أن وصلت إليه إلا وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامةً حانيةً رقيقةً سائلةً إياه: "لماذا لا تلعب مع أقرانك يا معاذ؟!".

لم يرد معاذ على مربيته فجلست مستطرِدة حديثها: "هل تعلم يا معاذ! كل أصدقائك معجبون بصوتك العذب الهادئ في تلاوة القرآن، أنت شاب وسيم، مهذَّب، ذو خلقٍ دمث، محبوب من الجميع، جميل...".. لم تستطع متابعة حديثها بعد أن سمِعت صوت بكائه المكتوم.

عاودت الحديث مرةً أخرى قائلة: "وها هي قد علَّمتك والدتك الأخلاق الكريمة الفاضلة؛ تاركةً وراءها شابٌ يافعٌ نافعٌ لبلده ولأسرته ولنفسه أيضاً.. أليس كذلك؟".

وهنا علا صوت معاذ وقد أجهش في البكاء ولم يستطع تلك المرة السيطرة على بكائه؛ فهي تفهم سبب حزنه وتعلم قصة وفاة والدته وكيف أنه تفوَّق بعد وفاتها وها هو قد أصبح اليوم تلميذاً ناجحاً نافعاً قدوة لغيره.

عاد معاذ إلى منزله متعباً من عناء اليوم؛ فما أن دخل المنزل؛ إلا ووجد زوجة أبيه وقد أحضرت له الطعام الشهي، فقال لها بضيقٍ وضجر: "أنا لست جوعان ولا أريد أن آكل".

فعاودت المحاولة معه دون فائدة، تارِكاً إيَّاها مكرِّراً كلِمته "لستُ جوعان ولا أريد أن آكل"... وهكذا كانت علاقته مع زوجة أبيه على غير ما يرام.

وذات يوم اتفق معاذ مع أصدقائه للذهاب إلى ملجأ الأيتام الذي يقع على مقربةٍ من بيته؛ فظلوا يلعبون مع الصغار وإذ بفتاة جميلة رقيقة توقظه من غفوته معطيةً إياه مطوية مكتوب عليها (أحب أبي وأحب أمي) فنزل إليها مُقبِّلاً خدَّها الرقيق الحنون وفي عينه لمعة دموعه يحبسها على استحياءٍ شديد عن أن تراها تلك الفتاة.

"كيف حالك يا معاذ؟"؛ هكذا كان سؤال الحاج "إبراهيم" القائِم بأعمال ملجأ الأيتام الذي يعرِف معاذ معرفةً جيدة، معاذ: "الحمد لله يا عمَّاه".

استطرد الحكيم قائلاً وقد رأَه شارداً: "يا ولدي الأيام تمرُّ وتأخذ معها الآلآم والأحزان، يا ولدي اِعلم أنه يذهب الألم ويبقى الأجر... يا معاذ احتسب الآجرة في وفاة والدتك واشكر الله عز وجل على زوجة أبيك الطيبة الحنونة الخلوقة".

ولكن معاذ لا ينسى أن تلك المرأة قد أخذت مكان أُمُّه الحانية الرقيقة التي لطالما حنَّت عليه، وتذكَّر وهو في طريق رجوعه إلى البيت تلك المطوية التي أعطتها إياه تلك الفتاة الصغيرة (أحب أبي وأحب أمي) فحمد الله شاكراً أن له أباً صالحاً وزوجة أب أيضاً تحبه وتحب الخير له.

فاشترى هدية وهو في طريق عودته ودخل مُقبِّلاً رأس زوجة أبيه؛ وقال لها في رقةٍ ممزوجةٍ بالحنان: "سامحيني يا أُمَّاه؛ قد قسوت عليكِ كثيراً فسامحيني"، وكانت أول مرةٍ يقول لها تلك الكلمة "يا أُمَّاه" فبكت بكاءً حاراً هي الأخرى.. بكاء زوجة تنظر إلى الجنة في تربية ذلك الشاب.

يُعرَف دوماً عن زوجة الأب القسوة والشدة في معاملتها التي قد تنتُج عنها نماذج مضطربة التفكير غير قادرة على قيادة نفسها، فضلاً عن قيادة الآخرين.

القسوة تترك آثاراً نفسيةً مؤلمةً على الأطفال، قد تدفعهم إلى العناد والعدوانية، وتُعيق وصولهم إلى مرحلة النضج العقلي، وتشعرهم دائماً بالعدوانية والإهانه وفقدان الكرامة.

وبذلك نتطرَّق إلى الحل في المشهد المؤلم التي تُمثِّله دوماً زوجة الأب؛ وهي تتمثَّل في المعاملة الحسنة الطيبة، لأنها ذات عامل نفسي هام فقد جعلت من قلب معاذ وتأثُّرَه بالفتاة الصغيرة إلى أن يذهب مُقبِّلاً رأس ويدِ زوجة أبيه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشبِع هذه الحاجة في نفوس الأطفال؛ ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم احتضن الحسن بن علي رضي الله عنهما وكان طفلاً فقال: «اللهم إني أُحبُّه فأَحبَّه وأَحِبَّ من يُحبُّه».

فمعاملة زوجة الأب في هذا الموضع الحسَّاس يجب أن يتضمَّن بعض النقاط:

1- عدم إشعاره أنه ليس بولدها؛ وذلك هو الفخ الذي تقع فيه كثير من زوجات الأب -إلا من رُحِم-.

2- المعاملة الطيبة الحسنة دوماً قد تُغيِّر مَن أمامك، على الرغم من أن الخلاف قد يطول ولكن عواقبه طيبة.

3- لا تجعل ابنك يشعر بأنك تتلذَّذ بعقابه حتى لو أخطأ -وتلك من عادات زوجة الأب- أو تحمل له شيئاً من الضغينة التي قد تدفعه إلى الإنحراف بكل معانيه.

4- علِّم ولدك الإيمان بالقضاء والقدر، واحتساب الأجر، وقل له: {لَنْ يُصِيبنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا} [التوبة من الآية:51]، واعلم أن الألم يذهب ويبقى الأجر.

5- علَّم ولدك الرجولة، والثقة والاعتماد على النفس، واتركه يوماً يستشعر آلام الآخرين، ويحاول التخفيف عنهم ليخوض التجربة.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

محمد أحمد وهبي