أكابر ... أيضاً
تعلم ذلك الشاب في حياته أن من المروءة والدين حفظ مقامات الناس سيما الكبار، وذكر جميلهم، وتتبع صواباتهم، عوضاً عن التقاط الهفوات والعيوب والمؤاخذات، وكل إنسان له ما يحمد، وعليه ما يذم، بيد أن من الناس من يقرأ الخطأ، ويختصر الإنسان فيه، ويجعله لازماً له، ويقدم نفسه في مقام التصحيح والحكم، وليست المذكرات والأحاديث الذاتية مكاناً للمحاكمة يتطلب الموقف فيها ذكر العيب وتسجيله، بل إن كثيراً من الأقوال هي أقرب إلى الحديث العابر الذي يقترب من النفس فيقتضي نظام الخلق الكريم فيه اعتماد الإجمال والتجمل، وذكر الحسن وستر القبيح..
وكتب التراجم الإسلامية شاهدة بهذا، المهم أن صاحبنا في مدرج الجامعة أخذ عن كثيرين، غالبهم ذوو فضل وعلم وديانة، بل لعلهم جميعا كذلك؛ لفيف من الأشياخ المتخصصين في علوم الشريعة واللغة والثقافة والتربية من شتى البقاع، وهو يعده شرفاً لا ينسى أن يتتلمذ على أمثال هؤلاء، ولا يذكر أحداً منهم إلا تخيله في شكله، ونبرة صوته، وطريقة أدائه، وتداعت إلى الذاكرة مواقف تتراوح بين الطرافة والإحراج، لكنها جميعاً شاهدة على تلك الأيام وذلكم الجيل:
• د. علي القوني بعلمه الغزير في النحو، وصرامته في التعليم، وصبره على الطلبة، وهيهات ينسى لثغته المحببة ونبرة صوته المتواصل وهو يندفع في الشرح فلا يجد وقتاً لابتلاع ريقه..
• د. محمد متولي أستاذ التفسير، صاحب الطرفة والدعابة، وهو بحر حين يسرد الأقوال، ويدلل ويعلل ويختار..
• د. عبد الكريم بكّار أستاذ النحو واللغة والثقافة، والمربي القدير الذي أصبح بعدُ علماً من أعلام الفكر والدعوة والإصلاح.. صحبهم د. بكار في رحلة طلابية إلى الإحساء فكان مثال الدماثة والتواضع والاندماج مع الطلبة في جدهم ولهوهم، واستيعاب المواقف الصعبة..
• د. محمد فضل مراد من أبناء سوريا البررة، وهو أستاذ في الأصول وصاحب أدب رفيع..
• د. عبد الحميد أبو زنيد أستاذ الأصول من الجامعة الإسلامية، وصاحب الخبرة في الحياة والتعليم، والمتميز بخلقه وتواضعه ووفائه، كانت علاقة راقية تجاوزت العلاقة الجامعية إلى الود والإخاء، لقد كتب الدكتور بحثاً فريداً في مسألة "إقرار الله للناس في زمن النبوة.. هل يعد دليلاً"؟ وجمع فيها نصوصاً وأقوالاً وتأنى في إخراج الكتاب وعرضه على تلميذه وصديقه للاستنارة.. ثم طبع بعد، وكان إضافة للمكتبة الأصولية، ثم توثقت العلاقة في زيارات متبادلة، كان آخرها في منزلة في عَمَّان -بفتح العين-.
• د. عزت علي عيد عطية المحدث المتفقه، وهو يتذكر طول نَفَسه في الجدل وصبره وهدوءه، دخل معه في جدل حول مسائل عديدة، مثل تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحبنا الشاب الجامعي يتذكر جيداً سرور الطلاب بهذا الحوار، لا لأنه سيوصل إلى نتيجة معرفية، بل لأنه سيضيع وقت الحصة، ويعوق الأستاذ عن الشرح! وهكذا هم الطلاب في الكثير من الأحوال، تتغير الأشكال والأجيال، إنما تتفق طبائعهم تجاه دروسهم وتعليمهم ما دام هذا التعليم يحمل طابع الروتين والمعلوماتية الصرفة، والحديث من جانب واحد.
لم تكن لغة الحوار سائدة في قاعة الدرس إلا قليلاً، وكان سيّد التدريس هو التلقين والحشو، والترداد الذي قد يملأ خانات الذاكرة، لكنه لا يدرب على التفكير والنظر والتفكيك. والذين استطاعوا أن يشقوا طريقهم فعلوا ذلك بجهدهم الخاص وملكتهم الذاتية، واستطاعوا بهذا الجهد الذكي توظيف المعلومات والمحفوظات والنصوص ضمن آلية علمية تلقوها عبر الكتب، أو المحاضن الخاصة.
حين كان نظام (الأستاذ الزائر) قائماً، زارهم الشيخ مناع خليل القطان أستاذ التفسير وعلومه في الدراسات العليا بجامعة الإمام بالرياض. كان يعرفه من مصنفاته الكثيرة، وقد قرأ له (مباحث في علوم القرآن)، ومجموعة رسائل صغيرة منها (الإسلام وتهذيب الغرائز)، كما استمع إليه غير مرة في خطبة الجمعة، وكان يلقيها في الرياض، وفي برامج كانت تبث من إذاعة القرآن وإذاعة الرياض.
وسمع عنه الكثير باعتباره من قيادات الإخوان المسلمين الذين جاءوا إلى السعودية فراراً من اضطهاد النظام الناصري، وكان يشكل مرجعية للإخوان المصريين في السعودية، وقد أدرك صاحبنا هذا حين توفي أحد الإخوان في (الأسياح) في منطقة القصيم وظهر اسم الشيخ مناع مدبراً لشأنه وشأن الكثير من أمثاله.
ألقى الشيخ مناع القطان عليهم العديد من المحاضرات في التفسير، يتذكر جيداً أنه تلا عليهم قول الله سبحانه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31]، وسألهم عن المعنى، ووافق على كل المعاني التي اقترحوها، كخروج الكافر من المسلم، والمسلم من الكافر، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة.. وكان حسناً أن يفتح لهم باب الحوار، وأن يقبل بسعة النص وشموله للاحتمالات الممكنة، بيد أن طريقة الشيخ في الإلقاء يغلب عليها السرد، والإنشاء، والنبرة الواحدة الهادئة؛ مما يسبب الشرود، وخمول الذهن، فتعلم أن لا يصبح كذلك فيما بعد!
• الأستاذ أحمد محمد جمال - من جامعة الملك عبد العزيز بجدة - كاتب قدير، وصاحب مؤلفات واسعة الانتشار، ولعل أشهرها (مكانك تحمدي)، والذي كان صرخة إصلاحية في وجه التغريب الذي يجتاح عالم المرأة، ويبدو أن الحجاز كانت تشهد معركة آنذاك حول قضايا المرأة، ولذا كتب الأستاذ جمال كتابه، وكتب محمد أحمد باشميل كتاباً عنوانه: (لا .. يا فتاة الحجاز!)، وقصيدة عنوانها: (هل هذا من العروبة) وطبعت في كتيب، لقد حفظها آنذاك، والآن يتذكر مطلعها فحسب..
تاج الحيا يعلو على التيجان تزهو به حوا على الأقران
كان يتابع ما يكتبه أحمد محمد جمال، وكم كان سروره عظيماً حين وجد له ديواناً، وهو الذي يعشق الشعر، ووجد فيه جيد الشعر وما دونه.. من جميل شعر جمال أبياتٌ يرد فيها على شاعر رمز لاسمه بـ: ح. س، ويظن أنه الشاعر حسين سرحان رحمه الله، حيث نشر قصيدة في خمسة عشر بيتاً جاء فيها:
ذكرتك والسحر الغريب مرفـرف على شفتيك الّلعس أو خدك الدامي
مضى لك يوم في صباك محجّـــل ويا ربّ يوم في الغرام كأعــــوام
ويا ربّ عطف لان منك على يــد منزّرة النعمى مكثّرة الـــــــــــذّام
وفي كلّ نفس من غرورك بضعة تلوح وتخفى في جلاء وإبهــــــام
فأنشأ الأستاذ أحمد جمال قصيدته المعنونة بـ (إفك مدفوع)، يقول فيها:
رميت أخاك العفّ في عرضه السامـي فوا بؤس مرمي، ويا بئس مـــن رام
وأصوب ما أحجـــــــــوه أنك ناضـــح بما فيك.. هل ما فيك نبعة إجــــــرام
فلو جئت تستفتي صحائف حاضــــري وغابرتي، أعظمتني أيّ إعظــــــــام
حبست صباي الغض للدرس، أستقــي من المنهل الأقصى لا ملأ أيامـــــــي
فأي فتى لا يملأ الجـــدُ يومــــــــــــــه يلم بأرجاس الصبا أيّ إلمــــــــــــــام
وكم أقدمت صـــوبي (ظباء) فمسّــني هواها مساس النور … لامس إظـلام
وحين جاءهم أستاذاً زائراً فرحوا به.. ولكنهم سرعان ما دخلوا معه في جدل محتدم حول صلاة الجماعة في المسجد، والتي أبدى الأستاذ أنه لا بأس أن يصليها المرء مع ولده وأهله في منزله، ليعلمهم الصلاة ويربيهم عليها.. ليتحول الأمر بعد ذلك إلى لغة: كنا نحبك، وكنا نظن بك خيراً! وبالمناسبة فإن صاحبنا الجامعي أعد بحثاً جامعياً أيضاً عن صلاة الجماعة، وتولى الإشراف عليه الدكتور عبد الكريم بكّار، وقرأ وجمع أقوال الأئمة والعلماء، ممن يقول بأن الجماعة شرط لصحة الصلاة، إلى من يقول: بأنها سنة كفاية، وهو وإن اختار القول بالوجوب أخذاً بظواهر الأدلة إلا أنه تعلّم أن معرفة الخلاف، والإحاطة بالأقوال، والوقوف على الأدلة يورث هدوءاً في النفس، ويوسع دائرة العذر للمخالف، ويمنح مجالاً لحسن الظن به، ويحفظ معاقد الولاء والبراء التي هي أصول الدين ومحكماته وقواعده، فلا يتحول الخلاف الفقهي أو الاجتهادي إلى سبب للخصومة والبغضاء والتعصب.
ومن هذه المواقف ونظائرها أدرك أهمية أن يلقن الشباب أدب التعلم والتعليم والتفقه مع كل مسألة تعرض عليهم، ليتحول هذا الأدب النظري إلى سجية وطبع وسلوك دائم ملازم، وليس تحصيلاً معرفياً مجرداً من التأثير.كثيرون هم أولئك الأفاضل الذي أثروه في مرحلته الجامعية، وكانت علاقته بهم تتجاوز حدود الدرس والتلقي في مقاعد الفصل، إلى الاتصال الشخصي والتزاور والحديث وتبادل الكتب والحوار.
فالعلاقة الشخصية بعيدة الأثر في صياغة الطالب وتكوينه ورسم مستقبله، ونقل العلم والسلوك من جيل إلى جيل. ليس من همه هنا أن يستوعب الأسماء كلها، إذ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، بحسبه أنه مدين لتلك المرحلة، ولتلك النخبة من الأشياخ الذين توفروا على طلابهم، تعليماً ورعاية، وصبراً، وتحملوا شغب الشباب وشرته وعنفوانه بروحٍ عالية، فكانوا مع اندماجهم مع قضايا الشباب واهتماماتهم وفتح صدورهم لأبواب الحوار معهم كانوا أيضاً (كوابح) فكرية ودعوية لهم عن مأزق الاندفاع والحماس، فكانوا كلما أوشكت ذخيرة الصبر لديهم على النفاد داواها حافز {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}!
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف: