شهوة الكتابة

منذ 2014-01-24

كل شيء حولنا أصبح مُغرياً بفضل التقنيات الحديثة، فالتسوق الذي كان يوماً في الشهر أو في الأسبوع أصبح كل يوم. وبرامج التواصل الاجتماعي الصوتية والكتابية تتحرش دائماً بأيادينا، لكي نرسل رسالةً، أو نسمع صوتاً، أو نرى مشهداً. والرغبة الجامحة في الكتابة وسُعار (التغريد) مع كل قضيةٍ عامةً أو خاصةً، محلية أو دولية أصبحت من علامات معظم المستخدمين لهذه التقنيات.

 

كل شيء حولنا أصبح مُغرياً بفضل التقنيات الحديثة، فالتسوق الذي كان يوماً في الشهر أو في الأسبوع أصبح كل يوم. وبرامج التواصل الاجتماعي الصوتية والكتابية تتحرش دائماً بأيادينا، لكي نرسل رسالةً، أو نسمع صوتاً، أو نرى مشهداً. والرغبة الجامحة في الكتابة وسُعار (التغريد) مع كل قضيةٍ عامةً أو خاصةً، محلية أو دولية أصبحت من علامات معظم المستخدمين لهذه التقنيات.



ولكن هل أنتج هذا السلوك العشوائي وهو الكتابة في كل شيء والتحدث عن كل مجال؟



هل جاء بفكرٍ أو قدم رأياً أو أخر قراراً أو أسهم في تفكيك أو حل معضلة؟





إن الله تعالى خلق لكل مجالٍ أُناسه، وهيأ لهم من الإمكانات والمواهب ما به يقدرون على خدمة ذلك الحقل بمهارةٍ واحتراف. لكن المعضلة الكبرى تكمن في أن بعضنا لا يدري أين مجاله ولا يدري ما هي قدراته وإمكاناته. لذا فهو يتخبط خبطاً عشوائي في كل الموضوعات ويرمي برأيه ودَلوه في بئرٍ لم يبلغْ قعرها لقصر حبله، ويظن أنَّه فلتة زمانه وسراج عصره ونور أمته. ولا يعلم إن كان يعلم أن من تكلم في غير فنه جاء بالطَّوام؛ لأنه لا يُدرك جذور ذلك الفن فضلاً عن الشُعب والأغصان.



ومتى يعلم مثل هؤلاء الذين تجد لهم في كل رأي رأياً وفي كل قضيةٍ وجهةً نظر أن إدراك أبعاد أي موضوع ضربٌ من المستحيل وشيءٌ من الخرافة والتكهن؟



أنت لا تستطيع أن ترى إلا جانباً واحداً من الشيء المادي وتَخْفى عليك أجزاؤه الأخرى، فكيف بالموضوعات الإنسانية المعقدة المتقلبة التي تتعرض لعوامل يصعب حصرها فضلاً عن دراستها وتحليلها فضلاً عن إصدار رأياً فيها؟



فليس كل قضيةٍ يَسهُل إدراك محيطها عند المتخصص فكيف بمن ليس لديه إلا شهوة الكلام؟!





كما أن من أكبر المخاطر الكتابةُ في كل شيءٍ عن كل شيء، فإن هذا من أكبر فخاخ الزلل، ومصائد الأخطاء؛ ولذا كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كثر كلامه كثر خطأه" وهذا ليس على سبيل الرأي ولكنه على سبيل الطبيعة. فالمكثر من الكلام لا يجد وقتاً كافياً ليراجع في كلامه، أو يفكر فيه، أو يقرأ ما يرقي عقله ووعيه؛ لأنه مشغول بالكلام. وقل مثل ذلك في الأمور المحسوسة، فاللاعب الذي يجهد نفسه في التمارين بالإكثار منها لا يمكن أن يؤدي أداءً جيداً على أرض الميدان، بل وربما تكثر أخطاؤه الفادحة التي تقوده، أو فريقه إلى الخسارة والضياع.




وأخيراً: فإن فضيلة الصمت في الكتابة لا تقل أهميةً عن فضيلة الصمت في الكلام، خاصةً فيما ليس لك به علم، أو لم يحن أوان الكلام فيه. وللشافعي في هذا المعنى أبيات تُطرب لها النفوس غير الثرثارة:

لا خير في حشو الكلام *** إذا اهتديت إلى عيونه

والصمت أجمل بالفتى *** من منطقٍ في غير حينه

وعلى الفتى لطباعه *** سمة تلوح على جبينه


ولا يعني هذا الصمت على الباطل أو السكوت المطلق، فهذا إن لم يكن تقصيراً في بيان الحق والباطل فهو مفسدةٌ للبيان كما كان يقول الجاحظ: "إن الحكماء عبر الثقافات والعصور عرفوا أن تميُّزهم في سر صمتهم، وأدركوا فضل الصمت المحمود على الحديث الذي ليس من ورائه إلا إشغال حاسة السمع عن غناء الطبيعة، وموسيقى الجمال، ولذا قال أحدهم وهو سقراط: "خلق الله لك لساناً واحداً وأذنين لتسمع أكثر مما تتكلم".

محمد فايع عسيري