العفو عن الناس
إن كثيراً من الناس يظنون أن العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة، وهذا غير صحيح، فالعفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّة والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70]. أما بعد:
أيها المسلمون: إن العفو شِعار الصالحين الأنقياء ذوي الحلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط لخلق نقي تقيٍّ ينفذ بقوة إلى شغاف قلوب الآخرين، فلا يملكون أمامه إلا إبداء نظرة إجلال وإكبار لمن هذه صفته وهذا ديدنه. إن العفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ له في النفس ثقل لا يتم التغلُّب عليه إلا بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقام للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصوا على حظوظ النّفس ورغباتها، وإن كانت حقًّا يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء» (أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم: 6522).
عباد الله: إن العفو له فضل عظيم، وأجر كبير، فقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. «وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاءٍ في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله تعالى- أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله تعالى أحلم من أن يعود بعد عفوه» (أحمد: 1/85، وقال أحمد شاكر(2/649)، إسناده حسن). أيها المسلمون: لقد أثنى الله تعالى على عباده المتقين، ووصفهم بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس والإحسان إلى الخلق، ووعدهم جنة عرضها السموات والأرض، فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]؛ قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى والعافين عن الناس: "أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال" (ابن كثير: 1/535).
وقد أمر الحق جلَّ وعلا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم العفو بأن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك. وقد أمر الله المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فقال جل من قائل: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس" (نضرة النعيم: 7/2907).
أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس يظنون أن العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة، وهذا غير صحيح، فالعفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّة والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا" (البخاري- كتاب المظالم)، قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: "لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه" (راجع: الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/319)، وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة" (أدب المجالسة ص: 116)، وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان".
ثم إنَّ بعض الناس قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي، ليس إلا. ترونَه وترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه، وإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار. ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه، وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: "ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل" (رواه مسلم برقم: 2328). عباد الله: إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، قال الله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] (خلق العفو والصفح، للشيخ سعود الشريم).
أيها المسلمون: تعالوا بنا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم أسوتنا الحسنة، وقدوتنا الصالحة، ومثلنا الأعلى، الذي بعثه الله معلماً للبشرية، ورحمة للإنسانية. تعالوا بنا لنرى نبينا الأكرم، ومعلمنا الأعظم، وهو يدخل مكة فاتحاً، وهي التي ائتمرت على قتله، وأخرجته، وعذبت أصحابه، ونكَّلت بهم، وقاطعته، وكذبته، وقاتلته في بدر، وأحد، والخندق، وألَّبت عليه العرب جميعاً. لقد ألقى أهلها كل سلاح، ومدوا إليه أعناقهم، ليحكم فيها بما يرى، فأمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعاً معلقة بين شفتيه وهذه عشرة آلاف سيف تتوهج يوم الفتح، فوق رُبى مكة، تأتمر بأمره وتنتظر إشارة منه، إنها تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في لمح البصر. لقد دخلها يوم الفتح الأعظم، دخول المتأدبين الشاكرين، معترفاً بعظم الفضل، ولم يدخلها دخول المتكبرين المتجبرين، ثملاً بنشوة النصر. لقد سار النبي صلى الله عليه وسلم في موكب النصر يوم فتح مكة حانياً رأسه، حتى تعذر على الناس رؤية وجهه، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً، بينه وبين نفسه، ابتهالات الشكر المبللة بالدموع. سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام: يا معشر قريش، ويا أهل مكة فاشرأبت إليه الأعناق، وزاغت عند سؤاله الأبصار، سألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ وصاحت الجموع الوجلة بكلمة واحدة، كأنما كانوا على اتفاق بترديدها، قالوا: خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم.. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، عفا عنهم، وصفح عن أعمالهم، مع أنه كان قادراً على الانتقام لكنه خلق عظيم، منه صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (رواه مسلم برقم: 1795). وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنقه اليمنى، وقد أثرت بها حاشية البردة من شدة جبذته، فقال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء. وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (متفق عليه).
وكذلك كان العفو من هدي الرسل الكرام. فهذا نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم، حسده إخوته وألقوه في الجب، ونال منهم ألواناً من الأذى. ثم هو يقول لهم: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل نجد، «فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاثا ولم يعاقبه وجلس» (البخاري/ الفتح: 2910، واللفظ له، ومسلم: 843). ومن عفوه صلى الله عليه وسلم- أنه عفا عن اليهودية التي جاءت بالشاة المسمومة، وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ورواية البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل له: ألا نقتلها؟ قال: لا" (رواه البخاري برقم: 2617). وفي رواية مسلم: «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك علي. قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا» (مسلم برقم: 2190). وورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل هذه المرأة لكن لم يكن لأجل شخصه ولكن لأنها تسببت في مقتل رجل آخر.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هادي الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها المؤمنون: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في عفوهم وصفحهم عن الناس، فقد تخلقوا بأخلاق نبيهم في العفو والصفح، فقد روى البخاري عن بن عباس، عن عيينة بن حصن، أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا ابن الخطاب، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه: خذ العفو وأعرض عن الجاهلين، وإن هذا من الجاهلين، فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله عز وجل.
أيها المسلمون: وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه خير الناس بعد الأنبياء، كان من قرابته مسطح بن أثاثة، وكان أبو بكر ينفق عليه، ويحسن إليه فلما خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق، فعاتبه ربه عز وجل وأنزل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفّر عن يمينه.
وهذا زين العابدين بن علي رضي الله عنه أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.
العفو من شيم الكرام:
قال الإمام الشافعي:
أحب من الإخوان كل مواتي *** وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني فـي كل أمر أريده *** ويحفظني حيـا وبعـد ممـاتـي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته *** لقاسمتـه مالـي مـن الحسنـات
تصفحت إخواني فكان أقلهم *** على كثـرة الإخوان أهل ثقـات
عباد الله: قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة! إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها. وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: "أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة". وراحة النفس في العفو: فقد قال أحد الشعراء:
لما عفوتُ، ولم أحقدْ على أحدٍ *** أرحتُ قلبي من غَمِ العداوات
إني أُحي عدوي عندَ رؤيته *** لأدفعَ الشرَ عني بالتحيات
وأُظهِر البشرَ للإنسانِ أُبغِضُه *** كأنما قد حَشى قلبي محبات
عباد الله: إن العفو والصّفح هما خلقا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح" (رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين). {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 36، 37].
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: