كن مبارَكًا
البركة؛ خيرٌ دائم.
البركة؛ خيرٌ دائم.
فكلٌّ يرغب بها، ويتمنى البركة في أحواله وأيامه.
لكن كون المرء ذاته يكون هو البركة؛ مما يُسْتَغْرَب ويُتَعَجَّبُ منه.
ولا عَجَب إذ كان عيسى ابن مريمَ عليه السلام قد قال كما حكى الله عنه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31]. والمعنى: معلِّمَاً للخير. وكل ما قيل في المعنى فهو عائدٌ إلى هذا.
فأخبر عيسى عليه السلام عن كينونته مبارَكَاً أينما كان. ومما لا شكَّ أن كلاَّ يرغب في صيرورته مبارَكَاً في المكان الذي هو فيه، والمجتمع الذي يعيشه.
ولقد كشَف ابن القيِّم عن عملِ (المُبَارَك) فقال: "فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} أي: معلماً للخير، داعياً إلى الله، مرغباً في طاعته.
فهذه من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومُحْقَتْ بركة لقائه والاجتماع به، بل تُمْحَقُ بركة من لَقِيَه واجتمع به". (انظر: رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه؛ [ص 5]).
والبركة إذاً أنواع متنوِّعة، وأقسامٌ شتى، يجمعها أمورٌ:
الأول: البركة في النفس.
ولا يستريب عاقلٌ أن مراعاة المرء البركة في نفسه، وتربيتها وتنميتها أولى من مراعاتها في غيره.
والبركة في النفس تشملُ أصولاً ثلاثاً:
الأول: البركة في الإيمان. وأعني بها: القُرُبات والصالحات.البركة فيها حِرْصُ المرء على أن يكون من أهل الطاعات والصالحات، ذا برٍّ وتُقى.
الثاني: البركة في العلوم. والمعنى: تنمية العقل والذهن بما ينفعه من العلم.
الثالث: البركة في التعامل. وهو فيما يتعلَّق بجانب الخُلُق، والأدب.
وهذه الأصول جوامعُ البركة في نفس الرجل.
الثاني: البركة في المكان.
لا يخلو المرء من مكان يقطنه، وأرض يطأها، والناس في ذلك أبناءُ عِلات تجمعهم طبيعة الركون إلى الأرض، ويختلفون في أجناس الأراضين. والمُوَفَّقُ من كان في الأرض الحالِّ بها (مُبارَكاً) و(مُبَارِكَاً) فيها.
وكونه (مُبارِكاً) فيها أي: أن يكون آتياً بأعمالٍ ثلاث:
الأول: ناشراً عِلماً مُهْمَلاً.
الثاني: مُحْيياً طاعةً مُمًاتةً.
الثالث: نافياً معصيةً.
ولا بدَّ من كونه ذا:
- حكمةٍ في التبيلغ.
- علمٍ فيما يدعو إليه.
- رحمةٍ بمن جانب طريق الطاعات.
الثالث: البركة في الزمان.
هذا ظرفٌ ثانٍ يكتنف الناس، وإيجادُ البركة فيه من جهة أن يكون الزمان محلاً مناسباً لإيجاد البركة فيه.
والأزمنة أقسام:
الأول: أزمنة خاصة؛ فيُرَاعى فيها ما يليق بمن هي خاصةٌ به.
فمثلاً: الإجازات؛ زمانٌ خاصٌّ، فكلُّ واحد له عملٌ في زمنه.
فيأتي المُبارَك فيجعل زمن المرء مُبارَكاً بدلالته على أسنى درجات استغلاله، وأعلى أحوال الانتفاع به.
والناس مختلفون في الإجازة؛ فمنهم من يستغلها في: علم، دعوة، عملٍ، سفرٍ، فيُعطى كلٌ بحسب ما يناسبه.
الثاني: أزمنة عامة.
وهي الأزمنة التي تُشغلُ أقواماً وفئاتٍ من الناس، والمُبارَكةُ فيها بإشغال الناس بما يتوافق مع حقيقة وضع ذاك الزمن.
ففي مناسبات الجهاد يكون حديث المُبارَك عن: أحكام الجهاد، وأسراره، موارد النصر، و... و....
وليس من المبارَكة أن يُغْفَلَ حديث الساعة ويُشْغَلُ الناس بحديث مُجانِبٍ لما هم فيه.
والسرُّ الجامع لـ (البركة) أن يكون (المُبارَكُ) عارفاً بوظيفة الوقت، وهي: "العمل على مرضاة الربِّ في كل وقت بما هو مُقتضى ذلك الوقت ووظيفته". أ.هـ (المدارج: [1/109])
وهو ما سبق أن بينته في ثنايا الكلام.
وأسَفٌ أن تَلْقَ المُبارَك نادراً في زمانه، وحيداً في مكانه، مُهْمَلاً من أخدانه، وإن كان موجوداً فإنه على قلَّة، والتأريخُ مليء بأخبار (المبارَِكين) منهم على سبيل التمثال لا الحصر:
1- الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فإن الناظر في سيرته يرى أنه ما كان في أرض ولا في زمان إلا وهو ناشراً خيراً، ومُظْهِراً طاعة، ولكَ أن تنظر شأنه في المحنة فإنه لما عَلِمَ أن ذاك زمانٌ لا بدَّ فيه من إظهار الحق، والجلَدِ في تبيانه كان منه ما كان.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله وشأنه معروف مشهور.
وحاله في موقفه مع أهل البدع، وحاله في ساحات العراك مع التتر، وتربيته لطلابه، ونفيه من بلاده؛. تراه في كل ذلك يعيش عملاً يتناسب مع حاله وزمنه.
3- الشيخ عبد العزيز ابن بازٍ رحمه الله وهذا مدرسة (مبارَِكة) متكاملة، ومن عرفه عرف أبعادَ ما أقولُ.
وختاماً: أبوح بنداءٍ لعلَّ هناك من يسمع دويَّه فأقول:
ألا لا يلعبنَّ بنا الهم، ولا يعبثنَّ بنا الشيطان صرْفاً عن إدراك مكنونات البركة، وظَفَرَاً بنا في ساحات المحق والصدِّ عن العمل للدين.
ولِيَعْلَمَ كلٌّ أن البركة سائرةٌ، وأن المُبارَِك لا تخلو منه أمكنة ولا أزمنة، وأن كلاًّ فيه من البركة ما كتب الله له، ولكن الموفَّق أظهره الله، والآخر إما أنه أهملها الرجل نفسه، أو أن الله حرمه (البركة)، والاستسلام لأوهام المحق حاجبٌ لأنوار البركة.
جعلني الله وإياكم مبارَِكين أينما كنا، وأن يجعلنا ممن إذا أعطيَ شكر، وإذا ابتليَ صبر، وإذا أذنب استغفر.
عبد الله بن سليمان العبد الله
- التصنيف:
- المصدر: