لغة الحوار وامتصاص الغضب

منذ 2014-02-05

لغة الحوار هي رأس هرم نشوء الحضارات الإنسانية، منشؤها وقاعدتها الكتابات الإنسانية التي تشير إلى الواقع في مصداقية للنقل تكون قريبة من أحاسيس ووجدان الناس، معبرة عن مشاكلهم ومتطلباتهم، وحاجاتهم ورغباتهم، وطموحاتهم وأمانيهم.

 

 
عندما كنت صغيرة، حفظت الدرس الأول من والدي بارك الله فى عمره يوم عاقبنى أشدّ العقاب قائلاً لي: انظري، لم أخسر شيئاً، بل كسبت نفسي، تعود حكاية هذه الجملة إلى حكايتى مع جارتنا رحمها الله، وغفر لها، كانت تسكن فوق بيتنا، ذات يوم كنست الدرج من باب بيتها حتى باب بيتنا، وضعت الأوساخ، طرقت الباب علينا، فتحت لأرى من الطارق.
 
المرأة بتهكم وثقة قالت: لمن الأوساخ.
 
جالت عيناى فى فسحة المكان الضيق من فوق حتى تحت، ومن تحت حتى فوق، وأنا فى حالة صمت مع الأشياء والأفكار التي راودتنى حينذاك، كنت أفكر أن أدافع عن حقنا فيما اقترفته يداها.
 
لم تدعنى أكمل، مثل قصف عشوائى رشت الكلام، وهددتني إن لم أفعل ما طلبته مني سوف تشكوني إلى والدي، وحدث أني لم أفعل ما طلبته مني، كانت عقوبتي حرماني من مصروفي مدة أسبوع، ومقاطعتي بالكلام معه.
 
يومها انبهرت من تصرف والدي كثيراً، الرجل بكل عنفوانه قام على لمِّ جميع الأوساخ من أمام باب البيت، ووضعها فى كيسها المخصص.
 
وعمتى التي تشبه أخاها حكت لي عن حكايتها مع جارتها هي الأخرى لأضيف درساً جديداً على الدرس الأول، كانت تغسل الثياب، في تلك الأيام المرأة لم تكن تستعمل الغسالة الآلية، كن يغسلن الثياب بأيديهن بالصابون، ومادة الصودا التي تزيل البقع من الدهون والشحوم، ويستعملن مادة الزراق للأبيض كي يزهو لونه، فى حمأة انشغالها بإنهاء غسيلها طرقت الجارة الباب مطالبة عمتي بغسل الدرج، حين رفضت؛ انهالت كلمات المرأة بوابل رصاص الحرب، التزمت عمتي بالصمت، ووقفت تتطلع فى وجه ولسان المرأة اللذين لم يكفا عن الكلام بعد حتى ساد المكان هدوء مغتم.
 
عندئذ دارت عمتي بظهرها، ودخلت بيتها، بعد أن قالت بصوت خفيض: سامحك الله، بعد مدة قرعت الجارة الباب مرة أخرى، فتحت عمتي فوجئت بها تحمل صينية القهوة، وفنجانين من الودع.
 
هذه المقدمة ضرورية للبحث فى صدامات علائقنا الأدبية على الأصعدة كافة، والأدب رسالة سامية، وأعتبرها بمنزلة رسائل الأنبياء إلى البشر جميعهم للتحلي بالأخلاق الحميدة من حسن فى الإصغاء إلى الطرف الآخر، وامتصاص غضب الآخر بالصمت، أو القول الجميل.
 
كيف سنحقق وحدة الكلمة إذا كنا مختلفين من أجل أفكار لم يعجبنا طرحها، ولا الخوض فى تحليلها لأنها لا تتناسب مع ذائقتنا الفكرية، وميولنا وتوجهاتنا، لكل أديب قناعته فيما يكتب، وله الحق فى هذا، ولكل ناقد رأيه ورؤيته في التحليل، ولكل باحث فانوسه للبحث عن حقيقة واقع المسيرة الأدبية، أو لعلم من أعلام الفكر والثقافة، وإذا تجرأت المرأة وكتبت فى أخطاء المجتمع، وما كشفته تجربتها على الصعيد الشخصي والصعيد العام؛ نقف لها بالمرصاد لنقتل لغتها، ونخلق في طريقها بلبلة لن تقدم سوى الإساءة لكلا الطرفين.
 
نحن أمام نص، والحكم الفصل في هذا النص هو القاضي الناقد، القاضي الذى يستعمل الحياد فى تفكيره مع فكرة وجوهر بنائية النص، وإذا كانت الحياة تتطلب منا اليوم (أشدد وأؤكد على كلمة اليوم) أن نكون أكثر توازناً وعقلانية فى مواجهة خطواتنا، علينا ألاّ ننسى الخطر الأكبر الذي يحيق بنا من الأطراف كافة خاصة في مواجهة الإمبريالية الأمريكية الصهيونية الماسونية بكل قوتها وغطرسة وجودها.
 
لغة الحوار نحتاجها أكثر مما نحتاج إلى الكتابة، سبب أزماتنا عدم لجوئنا إلى لغة الحوار البناء، وعدم تقبل الرأي الآخر، بماذا ينفعنا الغضب، وبماذا تنفعنا الإساءة لبعضنا؟
 
في الماضي كانت الجارة تحافظ على نشر غسيل جارتها فى بيتها، تطويه وتقدمه لها باسمة معبرة عن الرضا بما فعلته لترضي جارتها عنها، أما اليوم وبدخول الغسالات الآلية فما عادت الجارة تحتاج إلى حبل غسيل، بل تبحث فى وجه جارتها عن صونها لكرامتها، وفى عدم ترصدها لكشف أسرار بيتها، وعن نصف ابتسامة فى وجهها.
 
نحن أمام مواجهة كبيرة وخطيرة، مواجهة العدو تحتاج منا إلى تضافر الجهود كافة: الفكرية والأدبية، والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية؛ في سبيل إعلاء كلمة الحق، من أجل رفع شأن الأمة العربية، وإعادة أمجاد من سطروا لنا بدمائهم البقاء فى أوطاننا معززين، مكرمين.
 
صراع المرأة مع الرجل فكرياً بلا حوار فيه مشورة واستئناس برأي الطرف الآخر، وعدم احترام لما تحمله أنت من فكر وأدب، ولما أحمله من الموازي الأخلاقي الأدبي أمر جدُّ هام، ويشكل خطراً على سلامة الفكر العربي، ويترك الغسيل منشوراً يتعرضه المطر والهواء المغبر المتسرطن ببلوى الحقد والكره؛ ليفرح ويشمت العدو.
 
الإساءة والتحامل على بعضنا لن تورثنا فى النهاية سوى الخيبة والمرار، لن ينفعنا فى مواجهتنا لأعداء الأمة العربية سوى التضامن ضمن أسس الشمولية الفكرية الأخلاقية المتعلقة بأنثروبولوجيا علم الحياة.
 
إذا كنا نحن كأدباء لا نحترم كتابات بعضنا؛ فالأجدر بنا ألاّ نتوجه بلوم القادة السياسيين فى مؤتمراتهم حينما لا يتفقون، كل شيء كبير ينبت من شيء صغير مثله مثل حبة قمح تزرعها لتعطيك فيما بعد عدة حبات، وكيفما تكون التربة يكن العطاء.
 
يبدو لي مما يحدث الآن أن المرأة أصبحت أكثر جرأة من ذي قبل، فهي تسعى للكشف عن تشوهات المجتمع التي هي أحد أهم أركان الفساد الذي استشرى في مجتمعاتنا من خلال أعمالها الأدبية، وفي هذا على القاضي الناقد أن يقف موقف الحياد مما رصدته، ويقرأ بعيون كثيرة: عين القلب، وعين العقل، وعين الفكر، وعين الوعي، وعين الصدق، وعين التحرر من تبعيات ومخلفات الموروث الجاهلي، وما خلّفه لنا الاستعمار طيلة أحقاب عدة لا بعين واحدة.
 
هذه الحقيقة علينا أن نواجهها بمنطق العلم والوعي الفكري الاجتماعي، فهي تخص كلا الطرفين، وإذا راجعنا أنفسنا نجد الخطأ موجوداً في كلا الطرفين معاً، هذه تهاجم تلك، وذاك يهاجم هذا، أو ضد بضد، والنتيجة نشر العداوة، وتهميش دور لغة الحوار، ولغة الحوار هي رأس هرم نشوء الحضارات الإنسانية، منشؤها وقاعدتها الكتابات الإنسانية التي تشير إلى الواقع في مصداقية للنقل تكون قريبة من أحاسيس ووجدان الناس، معبرة عن مشاكلهم ومتطلباتهم، وحاجاتهم ورغباتهم، وطموحاتهم وأمانيهم، لأننا بأمس الحاجة إلى كشف الستار عن بواطن الفساد محلياً لنكون قادرين على الخروج نحو جهة الضوء الأحمر لنضع الحلول الناجعة والمفيدة لأجيالنا وأجيال أجيالنا، حتى متى سنظل وراء العيب نختفي؟ والحرام المحلل فى نظرهم أصبح مباحاً في العتمة والضوء، أثرياء الحروب، وأثرياء الرشوة، وأثرياء الممنوعات يقلدهم فى هذا الفقراء!!
 
«النساء شقائق الرجال» قوله صلى الله عليه وسلم، وكلمة الشقيقة تعني الأخت بالمعنى الدارج العامي، أما لغوياً فتعني: الشق الثانى من الشيء، إن الذكر والأنثى يشبهان حبة الفول، إذا فصلتهما عن بعضهما كان الشق منها مساوياً لرديفه بالشكل والطعم واللون، وتبقى ردود الأفعال رهينة العقل والفكر والقلب، كلّ حسب امتلاء ذاكرته بعناصر الحكمة، واكتسابه خبرات التربية وسلوكه الحميد، وطالما هن شقائق الرجال فلماذا لا يقف الرجل موقف الحياد أو العقلانية من صراحة وجرأة المرأة فى أدبها حين تصف مجتمعاً موبوءاً بسموم العلائق المشوهة؟ لا أعتقد أنها تريد من وراء هذا العمل الإساءة إلى شخصها، بل تسليط الضوء على ما تناسينا أهمية خطورته فى بيئتنا التى تعنى مجتمعنا؟
 
المقولة الشهيرة لمعاوية بن أبى سيفان: "لو أن بينى وبين الناس شعرة لما انقطعت، فإذا شدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها" تجعلنى أقول: لماذا لا تكون شعرة معاوية بيننا دائماً، لماذا نحاول أن نقص الشعرة حتى تقصر، أو تكاد لا تظهر؟
 
مسؤوليتنا نحو مجتمعنا العربى يجب أن تأخذ أولويتها فى حياتنا، ومن خلال مسيرتنا الأدبية كى لا تطالنا يد الشر من قبل المتربصين بنا.

سها جلال جودت