إنها اللغة التي لا يفهمها الكثيرون

منذ 2014-02-17

إنها لغة أخرى؛ لغة تجعل منك جسدا يمشي على الأرض، وروحا مهاجرة إلى ربها لتجد النجاة يوم العرض تمضي إليه وقد فتت الشوق كبد قلبها للقائه، فلا تسل عن أنس الحياة هنالك وطيب الإقامة والنعيم والملائكة.

إنها اللغة التي لا يفهمها الكثيرون. نعم وهي كذلك، فقليل أولئك الذين يعونها تماما، بل ويتحدثون بها لأنها لغة لا تجاريها المفردات، بل هي إحساس آخاذ لا تستطيع الأحاسيس المعتادة أن تشعر بماهيته. هي لغة تأبى إلا العلو في سماء العظمة؛ لتنتقل بك هناك تماما ببعد السماء وأكثر، فتفيض على روحك كنف الطمأنينة وأجواء الأنفاس الإيمانية.

إنها لغة لا يفهمها إلا القليل، والقليل هم من كانت لهم حق الغربة في دنيانا وصراعها الأزلي. نعم هم القليل الذين صدقت في حقهم معجزة نبوية وآية محمديه قالها -بأبي هو وأمي- قبل 1400 قرن من الزمان، فتنصرم القرون، وتتخطف السنون ليأتي ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قال فيه: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

نعم إنها اللغة التي عز على كثير منا فهمها، فهي تعلم أنها لم تُخلق لتبقى هنا، بل لتكون كالراكب ذي الزاد القليل ببساطة عيشه ورباطة جأشه، كما أن اليقين يلازم إيمانا في أعماقها فيجعلها تعلم تمام العلم أنها وجدت هنا لا لتدوم لها هنيئة من عيش أو رغد من الحياة، بل وجدت لغاية سامية فلا تجد إلا قلبا ممتثلا في أبهى حلة من التقوى، تكسوه مهابة عليها من الوقار والاحترام كساء لا يهترئ أبدا.

هنا لا بد أن نعلم إنها لغة تعثر على الكثير فهمها يستلقي ليعلم أنه ربما لا يعود ليستيقظ من جديد، فلا يفكر بحطام زائل ولا بزلة من كائن، بل ينطلق بفكره في خيالات أوسع وفضاء متسع يأخذه إلى العالم الرباني، تقطر معه أدمع مشتاقة لرؤية ربها بعظمته وجلاله وهي تستذكر في شريط لا يقل عظمه عن ذلك فستقرئ من مشكاة النبوة حديثا قال فيه نبيها محمد صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ أَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (رواه مسلم وابن ماجه).

يا الله إنها لغة أخرى؛ لغة تجعل منك جسدا يمشي على الأرض، وروحا مهاجرة إلى ربها لتجد النجاة يوم العرض تمضي إليه وقد فتت الشوق كبد قلبها للقائه، فلا تسل عن أنس الحياة هنالك وطيب الإقامة والنعيم والملائكة.

لكن عندما تعلم أنها اللغة التي عزّت على الكثيرين فزهدوا فيها فتتأسف من حال أولئك، وتداري نفسك لتحافظ على لغتك فما تدري ما يكون بعد ذلك، فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيفما يشاء.

فالحمد لله أنك لازلت صاحب قلب يعي ويفقه كثيرا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. والحمد لله أنك من القليل الذين اغتربوا في مجتمعهم. والحمد لله أنك تملك مفاتيح تلك اللغة. والحمد لله الذي أيقظ الحق في نفسك، فكانت حياتك وإلا فأنت بلا خالقك ضعيف لا يقويك إلا رباط الإيمان؛ لتنتصر على داعي الشيطان، فترفع كفيك لله حامدا شاكرا بأنك تفهم اللغة التي لا يفهمها الكثيرون.

لطيفة محمد القعيمي