المحكم والمتشابه في الشريعة (2)

منذ 2014-02-18

والقرآن تتشابه آياتُه وأحكامه، فيُؤيِّد بعضُها بعضًا وهذا ما يُسمَّى بالتشابه العام في القرآن؛ لأنَّ آياتِه وأحكامَه متناسبة، مؤتلفة متصادقة، فلا تعارضَ بينها ولا تناقضَ ولا تنافر

 

الخطبة الأولى

 

الحمدُ لله العليم الحكيم؛ أنزل آياتِه وأحكمَها، وبيَّن شريعتَه وفصَّلها، وألْزم عباده بها، وجعل الثوابَ والعِقاب عليها، نحمده على وافرِ نِعمه، ونشكره على جزيلِ عطاياه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل من الآية:53]، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحْده لا شريكَ له؛ ابتلى عبادَه بكتابه ونبيِّه ودِينه؛ فَمِن الناس مُصدِّق مُذعِن، ومنهم مُكذِّب مستكبر، ومنهم مُذبْذَب يأخذ ما يَهوَى، ويترك ما لا يَهوَى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ عظمتْ برسالته مِحنة العباد، وبها تمايز المؤمنون من الكفَّار، والأبرار من الفجَّار قال الله تعالى له: «إنما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وأبتليَ بِكَ» (رواه مسلم)، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يومِ الدِّين.

أما بعد:

 

فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنَّ الشيطان يُسلِّط أهلَ الأهواء والشُّبهات على عباده؛ فيَقذفون الشُّبهَ في دِينهم، ويُحلُّون لهم ما حرَّم ربُّهم، ويُسقطون ما أوجب عليهم، فهم دُعاةٌ على أبواب جهنمَ مَن أجابهم قذفوه فيها، ولا نجاةَ إلا بالإيمان بالشريعة كلِّها، وردِّ متشابهها إلى مُحْكَمها، ومجانبة أهل الأهواء وما يقولون، ولزوم الرَّاسخين في العِلم، والصدور عنهم {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ . رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آلِ عمران:7-8].

أيُّها الناس:

 

حين أنزل الله تعالى القرآن على عباده ليهتدوا به، وفرَض عليهم شريعتَه ليعملوا بها؛ فإنَّه سبحانه أحْكَمها وفصَّلها {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصِّلت:3]؛ وذلك لأنَّه كتابٌ {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت:42].

 

فالإحكام هو صِفةُ القرآن، وما جاء به مِن أحكام، فلا تناقضَ فيه ولا اختلاف؛ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82].

 

بخلاف كلام البشَر وتشريعاتهم، وأنظمتِهم وأحكامهم، ففيها من التناقُض والاختلاف ما فيها {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ . يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:8-9].

 

والقرآن تتشابه آياتُه وأحكامه، فيُؤيِّد بعضُها بعضًا وهذا ما يُسمَّى بالتشابه العام في القرآن؛ لأنَّ آياتِه وأحكامَه متناسبة، مؤتلفة متصادقة، فلا تعارضَ بينها ولا تناقضَ ولا تنافر، ومِن هذا المعنى قولُ الله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمر من الآية:23].

 

ومِن آيات القرآن وأحكام الشريعة ما يقع فيه الاشتباهُ على بعض الناس بسبب الجَهْل أو الهوى، فيتركون المُحكَمَ المفصَّل، ويتبعون المتشابهَ المُجْمل {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آلِ عمران من الآية:7].

 

وكم يقع مِن الفِتْنة والبَلْبلة في الناس بسبب شُبهاتهم التي يقذفونها لهم في دِينهم، فيسقطون بها الواجبات، أو يُحلُّون بها المحرَّمات، وقد أخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن المتشابهات في الأحكام بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وإِنَّ الحرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناس» (رواه الشيخان).

 

فهذه المشتبهات لا يعلم حُكمَها كثيرٌ من الناس، فيركبهم صاحبُ هوًى أو جهل فيلبس عليهم بها، ويأتيهم بما لم يَعرفوا مِن قبل، وذلك مِصْداقُ ما أخبر به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «سيكون في آخِرِ الزمان ناسٌ من أمَّتي يُحدِّثونكم بما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم» (رواه أبو يعلى، وصحَّحه الحاكم).

وقد وَقَع هذا الخبرُ النبوي الغَيْبي، ورأيناه رأيَ العين، وسمعْنا مَن يُحدِّث الناس في أمر دينهم بما لم يَعرفوا هم ولا آباؤهم فيُحلُّون لهم المحرَّمات، ويُسقطون عنهم الواجباتِ، ويبخسون الشريعةَ، وينقصون منها بحسب طلب أهل الأهواء منهم، وتأمَّلوا نُصْح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حين أخبر عنهم فقال محذِّرًا: «فإيَّاكم وإيَّاهم» أي: اجتنبوا مجالسَهم، فلا تستمعوا لما يقولون، ولا تقرؤوا ما يكتُبون سواءً كان ذلك بخطابٍ مباشر، أو عبر إذاعة أو فضائيَّة، أو صحيفة أو مجلَّة، وسببُ أمْر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم باجتنابهم حِفظُ القلوب لئلاَّ يُداخلَها شيء من الزَّيْغ والضلال والباطل بسبب شُبهاتهم؛ لأنَّهم قوم يُقرِّرون أحكامًا في رؤوسهم تُوافق هوى مَن يُحرِّكونهم، ثم يعمدون إلى الكتاب والسُّنة وتراث الأمَّة لاستخراج ما يؤيِّد أهواءهم فيأخذون المشتبهَ، ويضربون به المُحكَم.

 

ومَن ترَك محكمات الشريعة، واستخرج متشابهاتِها؛ استطاع أن يستدلَّ على إسقاط الواجبات بأدلَّةٍ من الكتاب والسُّنة، كما يستطيع أن يُبيحَ المحرَّماتِ بأدلة من الكتاب والسُّنة أيضًا، ولا عَجبَ في ذلك أبدًا؛ إذ إنَّ ما هو أعظم مِن ذلك يمكن أن يقع؛ فيستطيع صاحبُ الشُّبهة أن يُبيح الكفر للناس، ويَشْرَع لهم الشِّرْك بالله تعالى، ويستطيع أن يجعلَ الإيمان والكُفر سواءً معتمِدًا على قول الله سبحانه: {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف من الآية:29].

 

فيزعم أنَّ الله تعالى خَيَّر الناس بيْن الإيمان والكفر، والتخيير بينهما يقتضي استواءهما، ويغضُّ الطَّرْف عن الآيات الكثيرة التي تتوعَّد الكافر بالنار، ومنها آخِرُ هذه الآية التي يستدلُّ بها على فساد قوله، فهي في سياق التهديد والوعيد، وليس فيها تخيير{وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف:29].

 

بل يستطيع مُتَّبِع المتشابهات أن يحكمَ بالجنة لأصحاب الدِّيانات الأخرى ممن كَفروا بالإسلام مستدِلًا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62]، متعاميًا عن معنى الآية وهو: "مَن آمن منهم برسوله قبلَ بعثة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ومات على إيمانه، ويترك هذا الملبِّسُ مئاتِ الآيات والأحاديث التي تحكم بالنار لكلِّ مَن لم يتبع دِينَ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم".

 

وأعجبُ من ذلك أيها الإخوة؛ أنَّ النصرانيَّ يستطيع أن يستدلَّ على عقيدة التثليث، وعلى بُنوَّة المسيح لله تعالى بالقرآن الكريم، مع أنَّها شِرْك أكبر، وقدْح في الله تعالى؛ وذلك حين يأتي النَّصراني إلى الآيات التي فيها أنَّ عيسى عليه السلام يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى، ويُخبر ببعض الغَيْب؛ فيستدلَّ بها على ألوهية عيسى عليه السلام باعتبار أنَّ هذه الأفعال التي قام بها عيسى من خصائص الله تعالى، ويَعْمَى عن الآيات التي تُثبِت بشريتَه، وأنَّه مخلوق لله تعالى، وأنَّ الله تعالى أجرى عليه يديه هذه الخصائصَ معجزةً تُثبت صِدْقه عليه السلام: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آلِ عمران:59].

 

ثم يأتي إلى الآيات التي تُثبت أنَّ عيسى ولدٌ بلا أبٍ، فيستدل بها على بنوته لله تعالى، ويَعْمَى عن الآيات الكثيرة التي تنفي الولدَ عن الله تعالى، والآياتِ التي تَذكُر قصة ولادة عيسى عليه السلام.

 

ثم يأتي إلى الآيات القرآنية التي فيها كلامُ الله تعالى عن نفسه بصِيَغ جمْع العَظَمة نحو قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر:9]، وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس من الآية:12].

 

فيدَّعِي أنَّ الله تعالى متعدِّد وليس واحدًا، ويَعْمى عن الآيات التي فيها إثباتُ وحدانية الله تعالى، وبُطلان عقيدة التثليث والآلهة المتعدِّدة نحو قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة من الآية:73]، وقد روى أئمَّةُ التفسير وأهلُ السِّيَر: "أنَّ نصارى نجران احتجُّوا على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بهذه الحُجج زاعمين ألوهيةَ عيسى عليه السلام، وبُنوَّته لله تعالى، فأنزل الله تعالى صدرَ سورة آل عمران في دحْض حُجَجهم".

 

وإذا كان بإمكان مُتَّبِع المتشابه أن يُصحِّح العقائد الزائفة، ويُساوي الكفرَ بالإيمان، ويحكم لأصناف الكفَّار بالجنَّة، ويَستدل لما يقول بنصوص يَنتقيها مِن القرآن، ويُعرِض عن غيرها على طريقة أهل الكتاب في إيمانهم ببعض الكتاب وكُفْرهم ببعضه؛ فإنَّه يستطيع مِن باب أَوْلى أن يُبيح ما دون الشِّرْك والكفر مِن المحرَّمات كالاختلاط، والخلوة بالأجنبية، وسَفَر المرأة بلا مَحْرَم وغير ذلك، ويستدلّ لِمَا يريد بنصوص مشتبهة، ويترك المُحكَم الواضح.

 

وإذا كان يستطيع أن يُبطِلَ التوحيد بنصوصٍ ينتقيها من القرآن فلن يعجزَ عن إبطال ما هو دون التوحيد مِن الواجبات كصلاة الجماعة، وحجاب المرأة، ووجوب المَحْرم لها، وغير ذلك؛ نعوذ بالله العليِّ الأعلى مِن الضلال بعدَ الهُدى، ومِن سُبل أهل الزَّيْغ والانتكاس والرَّدى، ونسأله العِصمةَ والثبات على الحق والهُدى {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آلِ عمران:8].

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.


 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرْضى، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

 

فاتَّقوا الله ربَّكم، واستمسكوا بدِينكم، واعملوا بالمُحكَم من شريعتكم، ورُدُّوا المتشابهَ إلى المحكَم منها، واحذروا أهلَ الأهواء؛ فإنَّهم يضلُّون مَن استمع إليهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص من الآية:50].

أيُّها الناس:

 

اتِّباع المتشابه مِن القرآن والسُّنة، وضَرْب نصوص الشريعة بعضها ببعض؛ قد أخبر الصادقُ المصدوق صلَّى الله عليه وسلَّم عن وقوعه في هذه الأمَّة؛ كما في حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «سَيَخْرُجُ في أمَّتي أَقْوامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْواءُ كما يَتَجَارَى الكَلَبُ بِصاحِبِه، لا يَبْقَى منه عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إلاَّ دَخَلَهُ...» (رواه أبو داود).

 

و«الكَلَب»: "داءٌ يعرِض للكلب، فإذا عضَّ حيوانًا عَرَض له أعراض رديئة فاسِدة قاتلة، فإذا تجَارى بالإنسان وتمادَى هَلَك، والمعنى: يتواقعون في الأهواء الفاسِدة، ويتداعون فيها؛ فتفسد قلوبُهم بها، ويَهلِكون بسببها".

 

وكان سَلَفُنا الصالح يَنهَوْن عن اتِّباع المتشابه من النصوص، ولا يُجالسون أصحابَه، ولا يستمعون لأقوالهم خشيةَ الزيغ والفِتْنة؛ لأنَّ اتِّباع المتشابه يؤدِّي إلى تصغير الشريعة ونصوصها في القلوب، وتقديمِ الأهواء عليها، فيُعاقَب فاعلُ ذلك بزَيْغ قلبه، وصدوده عن الحق ومحاربته.

 

وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنَّه كان يُعاقِب مَن يراه يسأل عن المتشابه كما روى سُلَيْمَانُ بن يَسَارٍ رحمه الله تعالى: "أنَّ رجلًا يُقال له: صَبِيغ قدِم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمرُ -وقد أعدَّ له عراجين النخل- فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عبدُ الله صبيغ، فأخذ عمرُ عُرجونًا من تلك العراجين فضَربَه وقال: أنا عبدُ الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دَمِيَ رأسُه، فقال: يا أميرَ المؤمنين حسبُك قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي" (رواه الدارمي).

 

وجاء في روايةٍ أخرى: "أنَّ عمر رضي الله عنه نهى عن مجالسته، فهجره الناس حتى اشتدَّتْ عليه الوَحْدة، فتاب، وحسُنَتْ توبتُه، فأذِن عمر رضي الله عنه بمجالسته".

 

وكم في عصْرنا هذا مِن رؤوسٍ دَاخَلَها الهوى، فتتبَّعت المتشابه لتضلَّ الناس به، فتُسقط عنهم الواجبات، وتُحِلُّ لهم المحرَّمات، فما أحوجَها إلى عراجين عمر رضي الله عنه حتى يخرجَ الهوى منها، فتردّ المتشابه إلى المُحكَم.

 

إنَّ على مَن يُريد الحِفاظَ على قلْبه من الزَّيْغ، ودِينه من التحريف؛ أن يُجانب الاستماعَ لمن يتَّتبعون المتشابه، ويلزم غَرْزَ العلماء الربَّانيِّين الذين شابتْ ذوائبهم في مجالس العلم، وعليه ألا يحفلَ بأغرار يَنثرون شُبهاتِهم على الناس عبرَ الإعلام المفسِد؛ فإنَّ الشبهة إذا تمكَّنت من القلْب فتَكَت به.

 

قال التابعي الجليل أبو قلابة رحمه الله تعالى: "لا تُجالِسوا أصحابَ الأهواء فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويُلبِسوا عليكم بعضَ ما تعرفون".

وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم.