رسالة إلى مصطاف
أيها الأخ المبارك: هذه رسالة كتبتها
بمداد الحب وسطرتها وقد سكبت فيها من روحي لعلها تصل إلى روحك، لا بل
تصل إلى سويداء قلبك فتلامس شغافه، كتبتها وأنا أسائلك أن تصحبني
بعقلك الذي يمنعك من ارتكاب كل قبيح، بعيداً عن التشنجات والمغالطات
والمهاترات التي لا تغني من الحق شيئاً.
إني أريدك يا أخي أن تأخذ ما سأطرحه عليك بكل موضوعية، وبكل إنصاف
بدون أي انحياز لرغبات النفس وشهواتها فالعدل مطلوب والإنصاف واجب
والظلم ظلمات يوم القيامة.
أيها الأخ المبارك: إن موضوعي معك هو ما تفكر فيه الآن، وتبحث عن مكان
يناسبك ويلائمك أنت وأسرتك وربما أعددت العدة له، نعم هو النزهة
والترفيه عن النفس، إننا لا نعتب عليك بادئ ذي بدء أن تفكر في هذا
الموضوع فالنفس مجبولة على ذلك وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها،
ولا نعتب عليك أن تأخذ أسرتك وأولادك في نزهة برية أو رحلة خلوية أو
غيرها، وإن غير ذلك يعتبر مصادمة للواقع، ولذا عندما لقي حنظلة رضي
الله عنه أبا بكر قال له نافق حنظلة، قال أبو بكر : ( سبحان الله! ما
تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة،
حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، قال أبو بكر:
فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : « وما ذاك؟ »
قلت: يا رسول الله! نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي
عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا
كثيراً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده إن لو
تدمون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي
طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة » - ثلاث مرات ) إذن لا بد من
الترويح عن النفس، لابد من التخفيف عنها، كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم « ساعة وساعة ».
وهنا أخي العزيز يأتي دور الأهواء والرغبات في فهم كلام النبي صلى
الله عليه وسلم « ساعة وساعة » وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه حينما قال : ( أخاف عليكم اثنتين: اتباع الهوى، وطول
الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة ).
ساعة وساعة، نعم ساعة وساعة لكن هل يعني ذلك أنها ساعة للطاعة وساعة
للمعصية!؟ هل المراد ساعة لربك، وساعة لنفسك تفعل فيها ما تشاء
وتختار!؟ إن هذا المفهوم لا يمكن أن يحتمله كلام النبي صلى الله عليه
وسلم، أو أن يفهم منه، إذ كيف يتصور أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بمعصية ربه، والتعدي على حدوده؟! وانتهاك محارمه؟! أما علمت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت محارم
الله اشتد غضبه، واحمر وجهه؟!، فكيف يأذن إذاً بالمعصية وهذا منهجه؟
وهذه طريقته؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، إن المفهوم الصحيح لقول النبي
صلى الله عليه وسلم ساعة وساعة هو ساعة لطاعة الله عز وجل، وساعة يلهو
بلهو مباح كما هو ظاهر الحديث والذي يوافق روح الشريعة الغراء، يقول
الله عز وجل: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ
اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ
فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
[القصص : 77]، هاهو ربك عز وجل يأمرك أن تستعمل ما وهبك من المال
الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي
يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة { وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
} مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والمساكن والمناكح،
فأي دين أعظم من هذا؟ وأي شريعة أكمل من هذه الشريعة؟ التي راعت بين
جوانب الحياة كلها وأعطت كل ذي حق حقه.
أيها الأخ العزيز: إن الإسلام لا يقف في وجهك حجر عثرة عن التنزه
والترفه إذا كان ذلك وفق الضوابط الشرعية التي تكفل لك ولأسرتك
السلامة والعافية في الدارين.
ولكن إذا صاحب ذلك تفريط وإفراط هنا يأتي التحذير والمنع لا من أجل
حرمانك من التمتع؟ كلا، بل من أجل المحافظة عليك من أن تحيط بك
السيئات من كل جانب فتهلك فتكون من الخاسرين، ما أجمل والله أن تكون
النزهة عامرة بذكر الله عز وجل والمحافظة على فرائض الله، ما أجمل أن
يكون لك بهذه النزهة عبرة ومدكر فكما أنك لا تبني في هذه النزهة
قصوراً ولا تؤمل فيها آمالاً، لأنك على يقين من أن لك داراً في
المدينة ستعود إليها، كذلك فإن عليك أن تعلم أن هذه الدنيا دار فناء
وأن لك دار أخرى تنتظرك.
محمد بن عبد الله الهبدان
إمام و خطيب جامع العز بن عبدالسلام في الرياض
- التصنيف: