إليك أعود دوما .. يارباه

منذ 2014-02-22

كم نحن بحاجة إلى معاني الروحانية، ولمحات الإيمانية التي تمس القلب الجاف الصديء، فلا تتركه إلا وقد أزالت جفافه وصدأه، فعاد رطبا لامعا.

بينما ننكر أنفسنا، ونستغرب أخلاقنا، وننعي المروءة فينا، وبينما تنكشف أقنعة زائفة، وينجلي الغبار عن المواقف الواقعية، وتظهر حقائق الناس والأشياء.
وبينما تعاقب الصدور المضيئة على نقائها، وتحاسب القلوب على صدق نبضاتها، وتتلون الحياة بلون داكن.
وبينما ترى الجميع يبحثون عن ذات مصالحهم الشخصية، ويتصارعون على كل متاع، وبينما تضيق النفس، وتختنق العبرة، ويموج البحر الهائج، عندها تغيب المعاني جميعها إلا معنى يربطك بالله سبحانه، ويتقزم الناس جميعا إلا من يذكرك بموعود الله، ويتحيد الكون كله والأشياء إلا ذكر الله وما والاه، عندها تفيض جميع معاني التجرد والافتقار، وتتلون الأجواء بلون الدمعة التي تغرورق فتكسو حدقة العين، فلا يبدو في الآفاق أمل إلا في الله، ولا يبدو في الأحداق منجى إلا إلى الله، ولا يبدو في الطرقات رجاء إلا من الله.
إنها لحظات غالية، وأوقات صادقة تلك التي يتجرد فيها المرء من كل قيد، ويتعالى عن الدنيا بكل ما فيها، فتصعد نفسه شفافة متعالية فوق كل أنواع الصراع.

وبينما تلامس الجبهة تراب الأرض ساجدة ملتجئة فقيرة مستذلة ضعيفة منكسرة فهي تعلو على كل دنيء، وتتسامى فوق كل وضيع، إنها تقترب من الملأ الأعلى، وتسبح وتستغفر وتندم على تقصيرها؛ لذا فقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الرائع في كلمات قليلات إذ يقول: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (أخرجه مسلم) ، إنه لمعنى لو تعلمون عظيم. 

كم نحن بحاجة إلى معاني الروحانية، ولمحات الإيمانية التي تمس القلب الجاف الصديء، فلا تتركه إلا وقد أزالت جفافه وصدأه، فعاد رطبًا لامعًا.
ولكم نحن بحاجة إلى وقفات روحانية ممنهجة تبعا للسنة النبوية الصحيحة، تهدف إلى ترقيق القلوب، وإدماع العيون، والدفع نحو التوبة، والتذكير بالآخرة، وتقييم ما فات، وتجديد العهود والمواثيق على سبل الاستقامة.

إن المرء الذي يظل بعيدا عن تلك المعاني الروحانية الإيمانية، لحقيق عليه أن يخشى من تقلب قلبه ومرضه بأمراض مختلفة.
إن أحب القلوب إلى الله سبحانه قلب تمكنت منه ذلة وخوف فهو ناكس الرأس بين يدي ربه حياء وخجلًا فإذا به يسجد سجدة المخلصين التائبين الخاضعين يجمع فيها معاني تقصيره وينيب فيها ويناجي ربه أن: أطمع في مغفرتك، وأتكل على عفوك، وأحسن الظن بك، وأرجو كرمك، وأطمع في سعة حلمك، ولا طريق لي إلا الاعتصام بك.
والمؤمن يفر من ضيق صدره بالهموم والغموم والمخاوف التي تحدث له في كل يوم، يفر من ضيق صدره إلى سعه فضاء بالثقة بالله، ويهرب من همومه وأحزانه إلى حسن الرجاء لجميل صنع الله.


وأبواب الفرار إلى الله مفتوحة فلا ينبغي على المرء أن يكسل فليقم وليطرق الباب فمن أدام الطرق يوشك أن يفتح له.
والصالح يستشعر بالإشفاق طوال حياته، فهو يشفق على نفسه من الهوى ويشفق على عمله من الضياع، ويشفق على علمه من التفريط.
والمؤمن إذا استشعر الإشفاق عظم إليه ذنبه، وحببت إليه طاعته، واستفاد من كل دقيقة في عمره، وحرص على الإخلاص في كل عمله، قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25-28] .
والصالح مخبت بين يدي ربه، متواضع ساكن، قد غلبت عصمته شهوته وغلبت نيته غفلته، وغلبت محبته لربه وحشته، فقهر شهوته باعتصامه بالله، وأيقظ نفسه بنيته الصالحة، وأنس بربه، وأكثر من ذكره، فلم يستوحش من قلة السائرين من حوله.

وهو مازال لائما لنفسه يهذبها وينقيها، ويروضها ويمد قلبه بمدد التوحيد الخالص فإذا ذكر الله اضطرب قلبه خوفًا ورجاء، وإذا أصابه من أمر الدنيا شيء يضره رضي وصبر وحمد واسترجع، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ . الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج:34-35] .

وهو في كل ذلك متبتل لربه مجتهد في العبادة يجعل نفسه وقفا لله، حتى إن عمل أعمال الدنيا فهو يعملها بنية صالحة لله سبحانه وتعالى، فقطع رغبة النفس في المدح، ورغبتها في الشهرة، ورغبتها في الإمارة والرئاسة، ورغبتها في العلو في الأرض.