حلمُ غزةَ أسمنتٌ وحديد
إذا كان حلم الجوعان عيش -خبز- فإن حلم المحرومين في غزة (الفقراء والأغنياء، والعامة والخاصة)، أسمنتٌ وحديدٌ، فهما الأكثر إلحاحاً والأشد حاجة، وهما شغل الناس ومحط اهتمامهم وعليهما يدور السؤال، ويقلق المواطنون ويصيبهم بغيابهما كسادٌ وخمول، وتحل عليهم جميعاً السكينة والهدوء، والكآبة والرتابة، فلا حركة ولا نشاط، ولا معدات ولا آليات، ولا شاحنات ولا معامل، ولا ورش ولا مكاتب هندسة، ولا مهندسين ولا عمال ولا مشرفين، بل صمتٌ شديد يغرق فيه القطاع، ومظهرٌ عامٌ كئيبٌ واحدٌ لا يتغير ولا يتبدل، فلا مباني جديدة، ولا مساكن معمرة، ولا بيوتاً مرممة، ولا شوارع مرصوفة أو طرقاً معبدة، ما يجعل واجهة المناطق واحدة ركاماً وبقايا أبنية مهدمة وشوارع رملية، وواجهات مباني غير مكتملة.
إذا كان حلم الجوعان عيش -خبز- فإن حلم المحرومين في غزة (الفقراء والأغنياء، والعامة والخاصة)، أسمنتٌ وحديدٌ، فهما الأكثر إلحاحاً والأشد حاجة، وهما شغل الناس ومحط اهتمامهم وعليهما يدور السؤال، ويقلق المواطنون ويصيبهم بغيابهما كسادٌ وخمول، وتحل عليهم جميعاً السكينة والهدوء، والكآبة والرتابة، فلا حركة ولا نشاط، ولا معدات ولا آليات، ولا شاحنات ولا معامل، ولا ورش ولا مكاتب هندسة، ولا مهندسين ولا عمال ولا مشرفين، بل صمتٌ شديد يغرق فيه القطاع، ومظهرٌ عامٌ كئيبٌ واحدٌ لا يتغير ولا يتبدل، فلا مباني جديدة، ولا مساكن معمرة، ولا بيوتاً مرممة، ولا شوارع مرصوفة أو طرقاً معبدة، ما يجعل واجهة المناطق واحدة ركاماً وبقايا أبنية مهدمة وشوارع رملية، وواجهات مباني غير مكتملة.
والأهم أنه بغيابهما تتوقف مشاريع الزواج، وتتعطل مخططات المخطوبين، ويعتريهما وأهلهما حزنٌ وألم وقلقٌ وجوى، وسهدٌ وسهر وشكوى وأنين، إذ لا بيوت تؤيهم، ولا غرف يسكنون فيها، كما لا عمل يقتاتون منه، ولا أمل يتراءى أمام عيونهم، إذ أن معاناتهم جميعاً يفرضها غياب مواد البناء ومستلزمات العمار، التي تنعدمُ أو ترتفع أسعارها، فتجعل من أحلامهم البسيطة صعاباً مستحيلة، وعقباتٍ لا يقوون على تجاوزها، أو إيجاد حلولٍ لها، إذ أنها ليست بأيديهم، ولا يقوون وحدهم على فرضها، أو خلق بدائل لها، كما أنهم ليسوا صناعها، أو السبب في خلقها.
أما في ظل وجود مادتي الأسمنت والحديد، فإن عجلة الحياة تدور وينشط التجار، وتزدهر تجارة العقارات، وينشغل البناؤون والحرفيون، والحدادون والنجارون، والدهانون وفنيوا الديكور، وعمال الصيانة والترميم، وتعمل مكاتب الهندسة، ويدور رجال البلديات يجبون الضرائب والرسوم ويجمعون الأموال، ويحررون المخالفات، ويفرضون العقوبات، وينشطون في إعادة رسم الشوارع وتخطيط المناطق، وتنسيق المباني والتجمعات، فتبدو المناطق أكثر تنسيقاً وجمالاً، وأفضل زينةً وبهاءًا.
وفي ظلهما تفتح بيوتٌ جديدة وتسكنها عائلاتٌ شابة، تبدأ مسيرة الحياة وتكافح من أجل البقاء، وتسعى لتحقيق الرسوخ والثبات فوق هذه الأرض الطيبة، وبهما يتزايد السكان ويكثر المواليد، وتعمر بنسلهم الأرض وتصطبغ بخلفهم فلسطين بهويتها العربية والإسلامية، ومن قبل يفرح الأهل ويسعد الآباء ببيوت أبنائهم الجديدة، وبأحفادهم القادمين ببسمةٍ مشرقةٍ وأملٍ وببراءةٍ وطهرٍ ووعدٍ بالغد.
كثيرةٌ هي العائلات الغزاوية التي يعيش كل أفرادها في غرفةٍ واحدة، يكدسون فيها حقائبهم وملابسهم، ويراكمون فيها فراشهم وأغراضهم، يفتحون حقائبهم كلما أرادوا منها حاجةً، ويفتحونها في أوائل الصيف ليخرجوا منها ملابس الشتاء، ويعيدوا إليها ثياب الصيف الخفيفة، منتظرين اليوم الذي يسمح فيه بإدخال الأسمنت والحديد، ليكملوا بناء بيوتهم، ويعمروا مساكنهم، وينقلوا إليها حقائبهم المغلقة، وأكياسهم المكدسة، لكن عمرهم ينقضي وأزمة الأسمنت والحديد لا تنقضي ولا تنتهي.
وأهل غزة أمام هذه المعاناة الكبيرة، التي تنعكس على كل المجتمع (إيواءًا وسكناً، وعملاً وتشغيلاً، ورفاهيةً ورخاءً، وسعةً وبحبوحة) فإنهم يواجهون إلى جانب كل المشاكل السابقة التي ذكرت والتي لم أذكر، إذ لو استمعنا لأمٍ غزاويةٍ فإنها ستحسن سرد معاناتها أكثر مني، وستبسط للقارئ ما يعاني أهل غزة، وما يواجهون من صعوباتٍ وتحدياتٍ في هذا الشريط الضيق الصغير الفقير المحروم المحاصر، ولعلهم يعانون في ظل ضائقة الأسمنت والحديد من مشكلاتٍ أربعة، وهي مشاكل كبيرة وعصية على الحل والتجاوز.
أولها ارتفاع أسعار سوق العقارات ارتفاعاً مهولاً، بما لا يقوى عليه الناس ولا يستطيعون إزاءه الشراء أو الكراء، فهي أسعارٌ عالية جداً بالمقارنة مع مداخيل المواطنين البسيطة التي لا تكفي للعيش والشراء أو الكراء والصحة والتعليم والمواصلات وغير ذلك، كما أنها لا تتناسب مع أعداد المواطنين، ولا مع تزايد حاجة الأزواج الشباب لبيوتٍ خاصة.
والثانية تتعلق بسوق العقارات أيضاً، ولكنها تتجاوز المباني إلى العقارات الأرضية، إذ ارتفعت أسعار الأراضي في قطاع غزة ارتفاعاً مذهلاً، ولم يعد في القطاع مساحةٌ من الأرض غير معمورة أو مملوكة ومجهزة للبناء والعمران، خاصةً أن مساحة القطاع محدودة جداً، فضلاً عن وجود مساحاتٍ منه يمنع فيها البناء أو العمل، أو المرور والسكن، كونها مناطق حدودية، متاخمة لخطوط التماس مع العدو الصهيوني، الذي يمنع بقوة السلاح الإقتراب منها، أو العيش فيها.
والمشكلة الثالثة تتعلق بالاحتكار والتهريب، وارتفاع أسعار مواد البناء التي باتت في حال توفرها أو نذرتها، تخضع لقوانين احتكارية شديدة، تلزم المواطنين بأسعارها، وتخضعهم لشروطها، فضلاً عن وجود طبقة صغيرة من كبار الملاك في قطاع غزة، الذين سيطروا على مساحاتٍ كبيرة منه، وفرضوا الأسعار التي يريدون، ووضعوا الشروط التي تناسبهم، ما جعلهم الأكثر قدرة على الشراء، بل الأوحد في سوق العقارات فلا ينافسهم أحد، ولا يقوى على الوقوف في وجههم تاجرٌ أو محتاج، وهو الأمر الذي حرم الجزء الأكبر من سكان قطاع غزة من فرصة امتلاك قطعة أرضٍ صغيرة، للبناء عليها لنفسه أو لأولاده، والسبب في ذلك ثورة الأسعار المجنونة التي صنعها محتكرون وسماسرة يعملون لجهةٍ واحدةٍ فقط.
أما المشكلة الرابعة، التي يتساوى فيها المواطنون ويخضعون أمامها معاً لقانونٍ ظالمٍ متغطرسٍ واحدٍ، فهي الاحتلال الإسرائيلي، الذي دأب على مهاجمة القطاع، واجتياح أرضه وتدمير مبانيه، وخلع أشجاره ونسف بيوته، وتجريف شوارعه وحرمان أهله من حرية العمل والبناء والتعمير، وهذا السبب الرابع هو الأبسط والأكثر قبولاً، كونه يصدر عن محتلٍ غاصبٍ وينفذه عدوٌ ماكر، الذي لا ننتظر منه رحمةً، ولا نتوقع منه تعاطفاً.
سيبقى حلم قطاع غزة أسمنتٌ وحديد، ولن ينتهي هذا الحلم إلا بانتصار الفقراء على المشكلات الأربعة الداخلية قبل الخارجية، وحتى تفرض السلطة الحاكمة قوانين تحقق من خلالها العدالة في التوزيع، والكفاءة في الفرص والإنماء المتوازن بين جميع الطبقات والفئات وفي كل المناطق، وإلا فإن سيف الفقر سيشهر..
وقديماً قالوا: "عجباً لمظلومٍ أو جائعٍ لا يخرجُ حاملاً سيفه".
مصطفى يوسف اللداوي
- التصنيف: