ارتباط النفاق بالعقلانية والإصلاح
منذ 2007-07-11
ورأى المنافقون مرات عدّة أن الأمور لا تسير بحساباتهم، ولا تقاس بعقولهم، فمسبب الأسباب ـ سبحانه وتعالى ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
للشريعة
الإسلامية خصوصية تكاد تكون مطلقة، تطال كل شيء، المعاني اللغوية
للألفاظ، والمفاهيم والتصورات .
نعم قد تتقاطع مع غيرها أحيانا إلا أنها بجملتها تظل مستقلة، فالصلاة في اللغة غير الصلاة في الشرع وإن تقاطعت المعاني، والصوم في اللغة غير الصوم في الشرع وإن تقاطعت المعاني، والآذان في اللغة غير الآذان في الشرع وإن تقاطعت المعاني. وكذا مفهوم النصر والهزيمة في الشرع غير مفهومه عند الجاهلية وإن تقاطعت المعاني .
هذه الخصوصية تتصادم مع ما يكن في صدور المنافقين، فمن يقول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل قريشا، ويهاجم بني سليم ـ وهم فرسان ذوي عدد ـ ويرسل السرايا لنجد وطيئ وغطفان ودومة الجندل ـ وهم ألوف مؤلفة ـ ويراسل الملوك بما يشبه التهديد ( أسلم تسلم )، ويخرج للروم يرابط في أرضهم، وكل هذا ولم يَبْنِ أسوارا حول المدينة، ولم يتخذ تلك الاحتياطات التي يتكلم بها ( استراتيجيو ) اليوم .
من يقول بهذا ؟
قد كان يعتمد على أسباب أخرى يطلب بها النصر ويدفع بها الهزيمة .
يتعارض هذا مع ما يكن في صدور المنافقين، أولئك الذين يحسبون الأمر بحسابات أخرى عقلية وحسية، ولا ترى أعينهم إلا تحت أقدامهم، ولا يثقون إلا بما في أيديهم. وتدبر :
في العام الخامس من الهجرة تحزبت الأحزاب من شمال مصر وجنوبها، بتحريض من يهود، وزحفت على المدينة كالجراد المنتشر. عدد المقاتلين ثلاثة أضعاف ـ أو يزيد ـ مَن بالمدينة من الرجال والنساء، سُليم بفرسانها، وقريشٌ تعضُّ على أضراسها غيظا على أبنائها وأشرافها، وغطفان بطَمََعها وحمقها وكثرة عددها، وأفاعي يهود سوداء صلعاء سمينة طويلة حقود في جحورها تدور عيونها ... تبحث عن ثغرة وتنتظر فرصة لتغدر كعادتها، هنالك كان قول المؤمنين : {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب: 22]، وكان قول المنافقين {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [ الأحزاب : 12]، وهم يحفرون الخندق، راح رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يدك الكدية بالمعول ويكبر ويكبرون، ويبشر بفتح الفرس والروم، ويصدق المؤمنون، ويتغامز المنافقون : ( يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا ها هنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) قد كان المنافقون عقلانيون، أو قد كان العقلانيون هم المنافقون، ينظرون للأمور بعقلانية، لم يفهموا أن للشريعة خصوصية، وأن هناك خصوصية للشريعة في الأسباب التي تبذل لطلب النصر ودفع الهزيمة .
إنهم المنافقون ... العقلانيون .
والأمور لا تسير بتلك العقلانية، والأشياء لا تحصل بتلك الأسباب التي يتكلم بها العبيد، قد صدق الله ورسوله، وأنجز الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وفتحت فارس بنطحة أو نطحتين، وخرجت الروم ذات القرون من الشام. ومكن الله لأوليائه .
وقفوا يومَ بدر بين المشركين ـ بدعوى أنهم مضطرين ـ ونظروا للفريقين، بنظرة المنافق الذي يحسب الأمور بعقله، ويغيب عنه التوكل على الله، وأن للشريعة خصوصية في طلب النصر ودفع الهزيمة، فقالوا قولتهم التي سجلها عليهم القرآن {غرّ هؤلاء دينهم} ،{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال :49]
وقفوا يسخرون من عقول المسلمين وتفكيرهم الذي جعلهم يقدمون على يوم كيوم بدر .
وفي العام السادس من الهجرة والحرب لم تضع أوزارها، خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة معتمرا، وكان الذهاب إلى مكة بلا سلاح ولا عتاد وفي ذلك الحين والحرب لم تضع أوزارها وقريش لم تثأر لأشرافها وأبنائها يخالف ما تمليه العقول على أصحابها فقد قتل أشرافهم وأذل بالأسر رجالهم وأخذ أموالهم، وهم قد غدروا به وتنكروا لأعرافهم هم قبل أعراف غيرهم فلم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة، وهم قد جاءوه بالأمس في المدينة طلبا لثأرهم في يوم أحد ويوم الخندق، واليوم يذهب إليهم محرما ؟! بلا سلاح ولا عتاد ؟!
من يقول بهذا ؟
أي عقل يقبل هذا ؟!
راح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يستنفرهم، ويعظهم بالله ويذكرهم، ولكن المنافقين كانوا ـ ولا زالوا ـ عقلانيين، واقعيين . . . يقيسون الأمر بعقولهم القاصرة، فقالوا قولتهم قَالَوا : " نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم ! فاعتلوا بالشغل " وهذا قول الله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)} [ الفتح: 11-12]
نعم وكانوا قوما بورا .
ورأى المنافقون مرات عدّة أن الأمور لا تسير بحساباتهم، ولا تقاس بعقولهم، فمسبب الأسباب ـ سبحانه وتعالى ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، رأوا ذلك رأي العين في يوم الفرقان حين التقى الجمعان، حزب الرحمن وحزب الشيطان، ورأوه في يوم الأحزاب، وفي يوم الحديبية. ولكن المنافقين لا يفقهون .
في يوم العسرة، جيش المسلمين ثلاثين ألفا، فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرجوا يريدون الروم، ولم تفهم عقلية المنافق الدرس مع أنها سمعته عدة مرات نظريا ورأته بعينها عدة مرات، لم تفهم لأنها لا ترى إلا الأسباب الحسية التي في أيديها . وراحت تتكلم ثانية، تشكك في النصر على الروم تقول : "أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال" . وقد كان جلاد بني الأصفر أقل من جلاد العرب، وما فهم المنافقون . بل عادوا يسخرون ويستهزئون .
ونفر ممن يخالطون المؤمنين حين يرون حركة الإسلام بهذه الخصوصية المطلقة يحسبون أنها ضرب من اللاعقلانية والعجلة وسوء التخطيط، كإخوانهم الذين نافقوا في عهد النبوة. وتراهم في كل حين يسألون :
إن تولى الإسلاميون الحكم ثارت عليهم الدنيا . فكيف سيتعاملون ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم حاصرتنا الأمم ورمتنا عن قوس واحدة . فكيف ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم ثارت الأقليات طلبا لثأرها . فكيف ؟
يصرون أن يحاكموننا إلى أعراف الجاهلية . إلى المفاهيم الدنيوية الدنية .
وأعراف الجاهلية لا نعرفها، ونؤمن تماما بأن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في كل شيء .
ارتباط النفاق بالإصلاح :
يقول الله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [ البقرة:11] كانوا يوالون الكافرين، ويتلطفون في الحديث معهم، ويكشفون عوارات المسلمين لهم يقولون : " إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب" ويقسمون أنهم مصلحون، أو ـ كما يقول السياق ـ أنهم هم المصلحون . ينشرون الفساد في المجتمع يدعون بذلك الإصلاح (فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق) كما يقول الشيخ السعدي رحمه الله وهو يفسر الآية .
وتركوا التحاكم إلى الله ورسوله، وراحوا يقسمون بالله أنهم ما فعلوا ذلك إلا إحسانا وتوفيقا. {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] إحسانا إلى المتخاصمين وتوفيقا بينهم. لا يريدون شوشرة، ولا مجاهدة، يريدون أمنا في الأنفس والمال، وكلنا يريد ذلك، ولكنهم لا يبصرون إلا تحت أقدامهم .
هم كانوا صادقين عند أنفسهم في أنهم يريدون توفيقا وإصلاحا، وإخوانهم اليوم، أولئك الذين تحاكموا إلى الطاغوت وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولون ذات القولة، يريدون الإصلاح ( التعايش )، ( السلام العالمي ) الإحسان والتوفيق، بطريق وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء و يأخذون من هذا ويأخذون من ذاك، ولن يرضى هذا ولن يرضى ذاك .
والعجيب، والغريب، والمريب أن كل الدعوات المشبوهة اليوم ترفع شعار الإصلاح. أتاتورك بالأمس ( جمعية الإصلاح والترقي )، و محمد عبده كان شعاره ( الإصلاح )، إصلاح الدين وإصلاح السياسة وإصلاح الأدب. وما أصلح بل أفسد وتقنطر حتى عبر عليه الكافر لثوابتنا الشرعية فعرى نساءنا باسم ( الإصلاح ) وغرّب الشريعة باسم ( الإصلاح ) .
المنافقون الأول كانوا يدعون الى الإصلاح. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12)} [ البقرة :11-12 ] وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [ الأعراف:30]
والغريب أن كل الدعوات التي خرجت في واقعنا المعاصر ترتدي ثوب الإصلاح، ترفع كلمة المنافقون الأول، جمعية الإصلاح والترقي التي ترأسها أتاتورك في توركيا، دعوة الإصلاح التي نادى بها محمد عبده في مصر، وغير ذلك كثير .
ولا نعرف أن هناك أحدا يقول بعدم القبول لشرع الله .. ولا أحدا يجاهر برَد الشرع .بل الكل يدعي أنه على الطريق المستقيم .
لذا فالعبرة بالأفعال لا بالأقوال . الفعلُ أقوى في الدلالة على المراد من القول . وإن اختلف قول وفعل فلا عبرة بأقوالٍ كذبتها الأفعال .
فمن قبل ادعى قوم المحبة فجُعل الإتباع شرطاً لصحة دعواهم . {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.. } [ ال عمران : 31 ]، "ونطقت نفوس مريضة بالإيمان فكُذبت"، قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [ البقرة :8 ] .ونطق لسانهم بالصلاح، ونطق فعالهم بالفساد فكان القول قول الفعال لا قول اللسان . قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12)} [ البقرة :11-12].
نعم قد تتقاطع مع غيرها أحيانا إلا أنها بجملتها تظل مستقلة، فالصلاة في اللغة غير الصلاة في الشرع وإن تقاطعت المعاني، والصوم في اللغة غير الصوم في الشرع وإن تقاطعت المعاني، والآذان في اللغة غير الآذان في الشرع وإن تقاطعت المعاني. وكذا مفهوم النصر والهزيمة في الشرع غير مفهومه عند الجاهلية وإن تقاطعت المعاني .
هذه الخصوصية تتصادم مع ما يكن في صدور المنافقين، فمن يقول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل قريشا، ويهاجم بني سليم ـ وهم فرسان ذوي عدد ـ ويرسل السرايا لنجد وطيئ وغطفان ودومة الجندل ـ وهم ألوف مؤلفة ـ ويراسل الملوك بما يشبه التهديد ( أسلم تسلم )، ويخرج للروم يرابط في أرضهم، وكل هذا ولم يَبْنِ أسوارا حول المدينة، ولم يتخذ تلك الاحتياطات التي يتكلم بها ( استراتيجيو ) اليوم .
من يقول بهذا ؟
قد كان يعتمد على أسباب أخرى يطلب بها النصر ويدفع بها الهزيمة .
يتعارض هذا مع ما يكن في صدور المنافقين، أولئك الذين يحسبون الأمر بحسابات أخرى عقلية وحسية، ولا ترى أعينهم إلا تحت أقدامهم، ولا يثقون إلا بما في أيديهم. وتدبر :
في العام الخامس من الهجرة تحزبت الأحزاب من شمال مصر وجنوبها، بتحريض من يهود، وزحفت على المدينة كالجراد المنتشر. عدد المقاتلين ثلاثة أضعاف ـ أو يزيد ـ مَن بالمدينة من الرجال والنساء، سُليم بفرسانها، وقريشٌ تعضُّ على أضراسها غيظا على أبنائها وأشرافها، وغطفان بطَمََعها وحمقها وكثرة عددها، وأفاعي يهود سوداء صلعاء سمينة طويلة حقود في جحورها تدور عيونها ... تبحث عن ثغرة وتنتظر فرصة لتغدر كعادتها، هنالك كان قول المؤمنين : {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب: 22]، وكان قول المنافقين {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [ الأحزاب : 12]، وهم يحفرون الخندق، راح رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يدك الكدية بالمعول ويكبر ويكبرون، ويبشر بفتح الفرس والروم، ويصدق المؤمنون، ويتغامز المنافقون : ( يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا ها هنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) قد كان المنافقون عقلانيون، أو قد كان العقلانيون هم المنافقون، ينظرون للأمور بعقلانية، لم يفهموا أن للشريعة خصوصية، وأن هناك خصوصية للشريعة في الأسباب التي تبذل لطلب النصر ودفع الهزيمة .
إنهم المنافقون ... العقلانيون .
والأمور لا تسير بتلك العقلانية، والأشياء لا تحصل بتلك الأسباب التي يتكلم بها العبيد، قد صدق الله ورسوله، وأنجز الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وفتحت فارس بنطحة أو نطحتين، وخرجت الروم ذات القرون من الشام. ومكن الله لأوليائه .
وقفوا يومَ بدر بين المشركين ـ بدعوى أنهم مضطرين ـ ونظروا للفريقين، بنظرة المنافق الذي يحسب الأمور بعقله، ويغيب عنه التوكل على الله، وأن للشريعة خصوصية في طلب النصر ودفع الهزيمة، فقالوا قولتهم التي سجلها عليهم القرآن {غرّ هؤلاء دينهم} ،{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال :49]
وقفوا يسخرون من عقول المسلمين وتفكيرهم الذي جعلهم يقدمون على يوم كيوم بدر .
وفي العام السادس من الهجرة والحرب لم تضع أوزارها، خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة معتمرا، وكان الذهاب إلى مكة بلا سلاح ولا عتاد وفي ذلك الحين والحرب لم تضع أوزارها وقريش لم تثأر لأشرافها وأبنائها يخالف ما تمليه العقول على أصحابها فقد قتل أشرافهم وأذل بالأسر رجالهم وأخذ أموالهم، وهم قد غدروا به وتنكروا لأعرافهم هم قبل أعراف غيرهم فلم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة، وهم قد جاءوه بالأمس في المدينة طلبا لثأرهم في يوم أحد ويوم الخندق، واليوم يذهب إليهم محرما ؟! بلا سلاح ولا عتاد ؟!
من يقول بهذا ؟
أي عقل يقبل هذا ؟!
راح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يستنفرهم، ويعظهم بالله ويذكرهم، ولكن المنافقين كانوا ـ ولا زالوا ـ عقلانيين، واقعيين . . . يقيسون الأمر بعقولهم القاصرة، فقالوا قولتهم قَالَوا : " نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم ! فاعتلوا بالشغل " وهذا قول الله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)} [ الفتح: 11-12]
نعم وكانوا قوما بورا .
ورأى المنافقون مرات عدّة أن الأمور لا تسير بحساباتهم، ولا تقاس بعقولهم، فمسبب الأسباب ـ سبحانه وتعالى ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، رأوا ذلك رأي العين في يوم الفرقان حين التقى الجمعان، حزب الرحمن وحزب الشيطان، ورأوه في يوم الأحزاب، وفي يوم الحديبية. ولكن المنافقين لا يفقهون .
في يوم العسرة، جيش المسلمين ثلاثين ألفا، فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرجوا يريدون الروم، ولم تفهم عقلية المنافق الدرس مع أنها سمعته عدة مرات نظريا ورأته بعينها عدة مرات، لم تفهم لأنها لا ترى إلا الأسباب الحسية التي في أيديها . وراحت تتكلم ثانية، تشكك في النصر على الروم تقول : "أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال" . وقد كان جلاد بني الأصفر أقل من جلاد العرب، وما فهم المنافقون . بل عادوا يسخرون ويستهزئون .
ونفر ممن يخالطون المؤمنين حين يرون حركة الإسلام بهذه الخصوصية المطلقة يحسبون أنها ضرب من اللاعقلانية والعجلة وسوء التخطيط، كإخوانهم الذين نافقوا في عهد النبوة. وتراهم في كل حين يسألون :
إن تولى الإسلاميون الحكم ثارت عليهم الدنيا . فكيف سيتعاملون ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم حاصرتنا الأمم ورمتنا عن قوس واحدة . فكيف ؟
وإن تولى الإسلاميون الحكم ثارت الأقليات طلبا لثأرها . فكيف ؟
يصرون أن يحاكموننا إلى أعراف الجاهلية . إلى المفاهيم الدنيوية الدنية .
وأعراف الجاهلية لا نعرفها، ونؤمن تماما بأن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في كل شيء .
ارتباط النفاق بالإصلاح :
يقول الله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [ البقرة:11] كانوا يوالون الكافرين، ويتلطفون في الحديث معهم، ويكشفون عوارات المسلمين لهم يقولون : " إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب" ويقسمون أنهم مصلحون، أو ـ كما يقول السياق ـ أنهم هم المصلحون . ينشرون الفساد في المجتمع يدعون بذلك الإصلاح (فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق) كما يقول الشيخ السعدي رحمه الله وهو يفسر الآية .
وتركوا التحاكم إلى الله ورسوله، وراحوا يقسمون بالله أنهم ما فعلوا ذلك إلا إحسانا وتوفيقا. {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] إحسانا إلى المتخاصمين وتوفيقا بينهم. لا يريدون شوشرة، ولا مجاهدة، يريدون أمنا في الأنفس والمال، وكلنا يريد ذلك، ولكنهم لا يبصرون إلا تحت أقدامهم .
هم كانوا صادقين عند أنفسهم في أنهم يريدون توفيقا وإصلاحا، وإخوانهم اليوم، أولئك الذين تحاكموا إلى الطاغوت وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولون ذات القولة، يريدون الإصلاح ( التعايش )، ( السلام العالمي ) الإحسان والتوفيق، بطريق وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء و يأخذون من هذا ويأخذون من ذاك، ولن يرضى هذا ولن يرضى ذاك .
والعجيب، والغريب، والمريب أن كل الدعوات المشبوهة اليوم ترفع شعار الإصلاح. أتاتورك بالأمس ( جمعية الإصلاح والترقي )، و محمد عبده كان شعاره ( الإصلاح )، إصلاح الدين وإصلاح السياسة وإصلاح الأدب. وما أصلح بل أفسد وتقنطر حتى عبر عليه الكافر لثوابتنا الشرعية فعرى نساءنا باسم ( الإصلاح ) وغرّب الشريعة باسم ( الإصلاح ) .
المنافقون الأول كانوا يدعون الى الإصلاح. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12)} [ البقرة :11-12 ] وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [ الأعراف:30]
والغريب أن كل الدعوات التي خرجت في واقعنا المعاصر ترتدي ثوب الإصلاح، ترفع كلمة المنافقون الأول، جمعية الإصلاح والترقي التي ترأسها أتاتورك في توركيا، دعوة الإصلاح التي نادى بها محمد عبده في مصر، وغير ذلك كثير .
ولا نعرف أن هناك أحدا يقول بعدم القبول لشرع الله .. ولا أحدا يجاهر برَد الشرع .بل الكل يدعي أنه على الطريق المستقيم .
لذا فالعبرة بالأفعال لا بالأقوال . الفعلُ أقوى في الدلالة على المراد من القول . وإن اختلف قول وفعل فلا عبرة بأقوالٍ كذبتها الأفعال .
فمن قبل ادعى قوم المحبة فجُعل الإتباع شرطاً لصحة دعواهم . {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.. } [ ال عمران : 31 ]، "ونطقت نفوس مريضة بالإيمان فكُذبت"، قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [ البقرة :8 ] .ونطق لسانهم بالصلاح، ونطق فعالهم بالفساد فكان القول قول الفعال لا قول اللسان . قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12)} [ البقرة :11-12].
المصدر: خاص بطريق الإسلام
- التصنيف: