أداب حرية الرأي والتعبير

منذ 2014-02-24

إن القرآن الكريم له أحكامه الواضحة التي توجب الأخذ بنظام الشورى، وتوجب تساوي جميع الناس في جميع الحقوق؛ لأن قيام الحاكم بمشاورة أهل الحل والعقد لا يعني أن غيرهم من أفراد الشعب لا حق لهم في إبداء آرائهم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعدُ:

فقد سبق الحديث عن كيفية تحقيق الشورى في اللقاء السابق، وفي هذا اللقاء نبين:
4- حدود حرية الرأي: إن القرآن الكريم له أحكامه الواضحة التي توجب الأخذ بنظام الشورى، وتوجب تساوي جميع الناس في جميع الحقوق؛ لأن قيام الحاكم بمشاورة أهل الحل والعقد لا يعني أن غيرهم من أفراد الشعب لا حق لهم في إبداء آرائهم.

فالواقع أن لكل فرد أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة، أو إزالة مفسدة، وأساس ذلك أن الله تعالى كلّف كل مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعل القيام بهذا التكليف من صفات المؤمنين، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].

وقال سبحانه في حق الأمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وقال عز من قائل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
وقال تبارك اسمه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112].
وفي وصية لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

وروى الأئمة مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [مسلم 49].
 

  • ومن مجمل هذه النصوص وغيرها يتضح لنا:

    أن خيرية هذه الأمة وفلاحها مرهون بقيامها بحق هذه الفريضة؛ لأنها من عزم الأمور، وهي سمة أساسية من سمات المؤمنين العابدين، بل إنها قدمت على الإيمان الذي تنبني عليه كل الأعمال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] تنويهًا بفضلها وشرفها.

    ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم وُسِمَ بها في الكتب السابقة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } [الأعراف: 157].

    وعلى العكس من ذلك نجد التخلي عن القيام بهذه الفريضة، يجلب لعنة الله وسخطه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78].

    والتخلي عنه أمارة قوية من أمارات النفاق الذي يستوجب إهمال الله للعبد، قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
    ومن هنا أجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهذا الواجب يستلزم تمتع الفرد بحق إبداء رأيه بالمعروف الذي يأمر به وبالمنكر الذي يريد تغييره، وهذا الحق للأفراد متمم للشورى، ومساعد لها، ويتفق مع أهدافها.
    لأن به يُعان الحاكم على معرفة الصواب وتجنب الخطأ، فقد يفوت أهل الشورى بعض الأمور التي يعرفها غيرهم من أفراد الأمة.
    وعلى هذا لا يجوز للحاكم أو لغيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق للأفراد، كما لا يجوز للأفراد التنازل عنه أو تعطيله؛ لأنه حق أُوتوه من الشرع ليتمكنوا من أداء ما افترض عليهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ولهذا كان الحكام الصالحون يربون أفراد الأمة على حرية الرأي والتعبير، ويحثونهم على هذه الصفة، ويعيبونهم على تركها.
    وفي خطبة أبي بكر رضي الله عنه: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني" [راجع الطبقات الكبرى لابن سعد (3/183)].
    وقال رجل للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله يا عمر/ فقال له: ألا فلتقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.

    وعليه فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضٌ حتمٌ على كل مسلم، وأن الناس إذا أهملوا هذه الفريضة غدوا متفرقين لا جامعة لهم، ولكن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف لها مراتب:

    أولها: دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير، يعني الإسلام، وهو مطلوب من الأمة جميعها على حسب الاستطاعة بحكم أنها خير أُمة أُخرجت للناس، والقائمون بهذا يجب أن يكونوا علماء، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

    ثانيها: دعوة المسلمين بعضهم بعضًا، ولها طريقان:
    - دعوة كلية عامة: لبيان طريق الخير للناس، ويقوم بها العلماء العارفون بأسرار الشريعة.
    - ودعوة جزئية خاصة: وهي ما تكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، يأمرون بعضهم بالخير، ويحذرون من الشر.

    وكل واحد يأخذ من الفريضة العامة بقدره، وهذه الدعوة يستوي فيها العالم والجاهل.
    فهذه الأمة عليها مهمة الأخذ على يد الظالم، وتقويم عوج الحكومة، والنظر في تعليم الجاهلين من المسلمين، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ومهمة العلم، وطرق إفادته ونشره، وأمور العامة الشخصية، والأمور العامة التي هي من شأن الحكام؛ لأن الدعوة إلى الخير تشمل كل أمر نافع في الدنيا أو في الآخرة، كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء، وإنشاء المساجد، ودور التعليم، وتوجيهها التوجيه السليم، أي أن الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والأدبية، والإسلام يهدف من وراء كل ذلك إلى تكوين رأي عام مراقب، ينهض بالمجتمع ويتبنى قضاياه، ويوجه السلوك العام، ويراقب ويحاسب ذوي السلطان فيه، هذا فضلاً عن مقاومة المنكر وتغييره، ودفع الظلم والاعتداء، وتبني قضايا حقوق الإنسان.

    فالرقابة التي يمارسها المسلم من خلال فريضة الأمر والنهي، تتيح له قدرًا عاليًا من ممارسة حرية الرأي والنقد، سواء من خلال سلطته هو كفرد، أم من خلال الهيئة المنظمة المنتخبة، بل إن هذه الهيئة نفسها تخضع للمراقبة والمحاسبة والنقد من قبل المسلمين، وبذا يتحول المجتمع كله إلى هيئة رقابة على نفسه بممارسته هذه الفريضة.

    وعليه يتضح لنا أن مسئولية تغيير المنكر مسئولية تضامنية بين أفراد المجتمع جميعًا، ولكل دوره في هذا التغيير حسب درجات المنكر وسلطة المغيّر، كما دل على ذلك حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
    فالحديث ذكر ثلاث مراتب لتغيير المنكر، ولا ينتقل من مرتبة إلى التي هي أدنى إلا في حال العجز عن تحقيق التغيير بالأعلى.
    وأعلى هذه المراتب: "التغيير باليد"، وهي ترمز إلى القوة، مادية كانت أو معنوية، والقوة سلطة، ولكن يفهم من الحديث أنها غير مستطاعة لكل إنسان كل الوقت، ومع كل صاحب سلطة، وإنما تكون غالبًا لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، فالأب له سلطة على أولاده، والزوج على زوجته، والأمير على رعيته، والرئيس على مرؤوسيه، والعالم على العامة...إلخ.

    كل في حدود ما وَلِيَ، وأذن له فيه الشرع.
    ولكن ليس للسلطان أن يصادر حريات الناس، أو يكمم أفواههم، أو يتسلط على حرياتهم الشخصية، إلا بما يمس الأمر العام، والمصالح العليا للدولة، وليست لمصلحته الشخصية التي تتعلق باستقرار الملك له.
    وجماعة العلماء سلطتهم في تغيير المنكر غالبًا، سلطة معنوية بما لهم من مهابة ووقار في قلوب الناس، وليست لهم ولا لغيرهم سلطة تنفيذ العقوبات؛ لأن ذلك مما يثير الفوضى والاضطراب في المجتمع، ويؤدي إلى مفاسد كثيرة.
    فالعلماء ينصحون العامة ويرشدونهم ويوجهونهم، وكذا ينصح بعضهم بعضًا، إن رأوا شططًا من أحدهم نصحوه وحاوروه وجادلوه حتى يرجعوا به إلى الصواب.
    ولهم مع الحكام واجب النصح والإرشاد والمعارضة إن اقتضى الأمر مهما ازداد طغيان الحاكم واشتدت ضراوته، ولقد عد ذلك من الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»  (أبو داود 4344 وصححه الألباني). ففريضة الأمر والنهي هي ما يعبر عنه الفكر السياسي الغربي حديثًا المعارضة السياسية ولكنها تربو عليها في أنها لا تقتصر على أمور السياسة فقط، وليس الهدف منها هو الجانب السلبي المتمثل في المعارضة السياسية، والحد من سلطة الحاكم ونقده ومعارضته، ولكنها فريضة تهدف إلى تكوين رأي عام مراقب، ينهض بالمجتمع ويتبنى قضاياه، ويراقب وينصح، ويهيمن على القيم والمثل العليا، ويتبنى قضايا حقوق الإنسان.. إلخ.

    وهذا الحق له حدود وضوابط منها:
    1- أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للحاكم؛ لحديث: «الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» [مسلم 55].
    فلا يجوز أن يكون القصدُ التشهيرَ بالحكام أو تكبير سيئاتهم أو انتقاصهم.. إلخ.
    2- أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكام على أساس من العلم والفقه، فلا يجوز أن ينكر عليهم في الأمور الاجتهادية؛ لأن رأيه ليس أولى من رأيهم ما دام الأمر اجتهادًا.
    3- لا يجوز للأفراد إحداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرأي إذا لم يأخذوا برأيهم ما دام الأمر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم. وللحديث بقية.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    سعيد عامر
المصدر: المختار الإسلامي نقلا عن مجلة التوحيد