تحذير الناس من وسوسة الوسواس الخناس

منذ 2014-02-26

الوسوسة مرضٌ يشكو منه كثير من الناس، وهي من عمل الشيطان، فكم ممن يشك في طهارته، ويشك في طهارة ثيابه، بل وبعضهم أخبرني أنه يشك في طهارة باب البيت، لأنه لمسه وهو على جنابة!!

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه.

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

إن الوسوسة مرضٌ يشكو منه كثير من الناس، وهي من عمل الشيطان، فكم ممن يشك في طهارته، ويشك في طهارة ثيابه، بل وبعضهم أخبرني أنه يشك في طهارة باب البيت، لأنه لمسه وهو على جنابة!!

 

وكم ممن يوسوس في صلاته، ويخيَّل إليه أنها همٌّ ثقيلٌ يريد أن يتخلَّصَ منه، وكم ممن أدت به وسوسته إلى ترك الصلاة بالكلية، ومنهم من يوسوس له الوسواس الخناس في صيامه وحجِّه، وسائر عباداته...

 

والوسوسة: هي ما يلقيه الشّيطان في القلب (البصائر [5/ 208])، وحديثُ النّفس، والأفكارُ السّيّئةُ الّتي تراودها (لسان العرب [6/ 4830]).

 

والموسوس: الّذي تعتريه الوساوس. ووسوس: إذا تكلّم بكلام لم يبيّنه (التاج [9/ 31]).

 

والوسواس: ما يقع في النّفس من عمل الشّرّ وما لا خير فيه ((الكليات) وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي الحنفي المتوفى: 1094هـ. ص [941]).

 

وأول وسوسة حدثت من الوسواس الخناس إبليس نعوذ بالله منه ومن وساوسه لأبينا آدم وأمنا حوَّاء عليهما السلام، قال سبحانه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20].

 

فأمرنا الله سبحانه بالاستعاذة من الوسواس الخناس، فقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلهِ النَّاسِ . مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس].

 

انظر يا عبد الله! ما يفعل الوسواس الخناس في الناس عند العبادة.

 

أولا: الوسوسة في الطهارة: هناك وسواس مختص بالطهارة، قَالَ الْحَسَنِ: "شَيْطَانُ الْوُضُوءِ يُدْعَى الْوَلْهَانُ، يَضْحَكُ بِالنَّاسِ فِي الْوُضُوءِ"، وعَنْ يُونُسَ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: إِنَّ لِلْمَاءِ وَسْوَاسًا فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ" (السنن الكبرى للبيهقي [1/ 304]، رقم [950])، ولهان: سمي بهذا الاسم وسواس الماء لأنه يفضي إلى كثرة إراقة الماء حال الوضوء والاستنجاء أو هو التردد في طهارة الماء ونجاسته بلا ظهور علامات النجاسة أهـ. (من حاشية جامع المسانيد والسنن تحقيق د عبد الملك بن عبد الله الدهيش [1/ 153]).

 

وحتى تنجو من وسوسته، اتبع ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» (أبو داود رقم [27]، والنسائي، وابن ماجة [304])، وانضح سراويلك تذهب عن الوسوسة.

 

وفي وضوئك لا تزد على ثلاث مرات، بهذا تقهر وسواسك، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ، أَوْ تَعَدَّى، أَوْ ظَلَمَ» (أخرجه النسائي [140]، وابن ماجه [422]، الصحيحة [2980]).

 

أما الوسوسة في الصلاة:

 

فيبدأ الوسواس عمله عند الأذان فـ"إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا -أي أقيمت- أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، -أي الإقامة- أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ. -أي يوسوس- يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ" (البخاري [1231]، مسلم [389]). فيذكره بأشياء قد نسيها.

 

فإن جاهد المؤمن نفسه ووسواسه، حاول الوسواس تشكيكه في صلاته بالتخييل له بأنه انتقض وضوؤه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَأَبَسَ بِهِ كَمَا يَأْبِسُ الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، -أي حقَّره وصغَّره واستدرجه- فَإِذَا سَكَنَ لَهُ، أَضْرَطَ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ؛ لِيَفْتِنَهُ عَنْ صَلَاتِهِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا لَا يُشَكُّ فِيهِ» (مسند أحمد [14/ 105]، ح [8369]، الهيثمي في المجمع [1/ 242] وقال: رواه أحمد وهو عند أبي داود باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح).

 

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيُطِيفُ بِالرَّجُلِ في صَلَاتِهِ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَإِذَا أَعْيَاهُ -وأتعبه- نَفَخَ فِي دُبُرِهِ، فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَجِدَ رِيحًا أَوْ يَسْمَعَ صَوْتًا" (المعجم الكبير للطبراني [9/ 249]، رقم [9231]، مجمع الزوائد [1/ 243]: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ).

 

شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ؟ قَالَ: «لاَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «لاَ وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ» (البخاري [2056]).

 

وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي صَلَّيْتُ فَلَمْ أَدْرِ أَشَفَعْتُ أَمْ أَوْتَرْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّايَ وَأَنْ يَتَلَعَّبَ بِكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلاتِكُمْ، مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ فَلَمْ يَدْرِ أَشَفَعَ أَوْ أَوْتَرَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا تَمَامُ صَلاتِهِ» (مسند أحمد مخرجا [1/ 500،ح 450]، الهيثمي في المجمع [2/ 150] وقال: رواه أحمد من طريقين رجالهما ثقات. وحسنه الأرنؤوط (محقق المسند)). فسجود السهو علاج للوسوسة.

 

وعن عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي (صحيح مسلم [2203])، فخنزب: الوسواس الخناس المختص بالصلاة، والخنزب: وهو لَقَبٌ له -أي للشيطان-، والخَنْزَبُ قِطْعةٌ لَحْم مُنْتِنةٌ، ويروى بالكسر والضم (النهاية في غريب الأثر).

 

لذلك؛ وحتى يحفظك الله سبحانه من الوسوسة في الصلاة، ويحفظ عليك عبادتك، فعليك بدعاء الاستفتاح هذا في أول كل صلاة: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ»، ثُمَّ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا» ثَلَاثًا، «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ»، ثُمَّ يَقْرَأُ (سنن أبي داود [775]، الترمذي [242]) هَمْزُهُ: الْمُوتَةُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ.

 

هذه الوسوسة تحدث للمسلمين في خفاء، فالوسواس الخنَّاس لا يراه الناس عندما يوسوس لهم.

 

حاول الوَسواس الخناسُ أن يوسوسَ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يقطعَ عليه صلاته، ولكنه لم يفلحْ؛ فلما لم يجدْ بُدًّا من أن يظهرَ له علانية، فعل، فقبض عليه صلى الله عليه وسلم، وخنقه خنقا شديدا، عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ -الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا- وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ» (مسند أحمد [18/ 302]، ح [11780]، والهيثمي في المجمع [2/ 87] واللفظ له، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات)، ففي السترة أمام المصلي نجاةٌ من الوسواس الخناس.

 

ويسعى جاهدا بالوسوسة في قلوب المسلمين بإثارة الشكِّ والريب في أعراض بعضهم، في أعراض الدعاة والمخلصين، وسائر المسلمين، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا»، أَوْ قَالَ: «شَيْئًا» (البخاري [3281])، فقطع بذلك دابر الوسواس الخناس.

 

إنه الوسواس الخناس هو الذي يثير الفتن بين المسلمين، وينشر الضغائن والأحقاد، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (مسلم [2812])، ولكن في التحريش بينهم: أي ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.

 

الوسوسة في المعاملات وبين التجار بالغش والغبن طمعا في الأرباح: عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ، وَالإِثْمَ يَحْضُرَانِ البَيْعَ، فَشُوبُوا -واخلطوا- بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ» (الترمذي [1208])، فينجو بذلك التجار من خطر الوسواس وعمله.

 

إنه يوسوس بالفقر والبؤس والشقاء، ليصل بذلك إلى إضلال المسلمين ووقوعهم في المعاصي والفحشاء: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً"؛ -واللمة: الهمة التي تقع من القلب من فعل الخير والشر والعزم عليه- ، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ، فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ، فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ}. [البقرة من الآية:268]َ، (الترمذي [2988]، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وابن حبان في صحيحه رقم [993]).


 

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. [البقرة:268].

 

عباد الله!

 

أين مكان إبليس الملعون المطرود من رحمة الله؟

 

يجيب على ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فيقول: «إنّ عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون النّاس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة» (مسلم [2813]).

 

وأين يكون الشيطان الخناس الذي وظيفته الوسوسة؟

 

يجيب على هذا السؤال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ} [الناس من الآية:4]، قال: الشّيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر خنس (تفسير ابن كثير [4/ 575]).

 

قال البغويّ: الشّيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، وقال: الخنّاس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربّه خنس، ويقال: كرأس الحيّة، واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدّثه، فإذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكر يرجع ويضع رأسه (تفسير البغوي [30/ 548]).

 

في آخر الزمان تكثر الشياطين، وتكثر معهم الفتن، والشكوك والريب في الدين والعقائد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً، أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ، يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ، فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا (مقدمة صحيح مسلم).

 

إن الوسوسةَ تتعب المؤمنين وتشقي المسلمين، والله الرحمن الرحيم لا يحاسبهم عليها، ولا يعاقبهم إذا لم يتكلموا بالوسوسة أو لم يعملوا بها، وهذه الوسوسة أتعبت كثيرا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي الْحَدِيثَ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» (الإيمان لابن منده [1/ 471، ح340]).

 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الشَّيْءَ لَوْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَخْطَفَهُ الطَّيْرُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» (صحيح ابن حبان [1/ 361]، ح [149]).

 

وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ الشَّيْءَ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» (صحيح ابن حبان [1/ 360]، ح [147]).

 

إن النَّاس سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الوسوسة الَّتِي يجدهَا أحدهم؛ لِأَن يسْقط من عِنْد الثريا أحب إِلَيْهِ من أَن يتَكَلَّم بِهِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «ذَاك صَرِيح الْإِيمَان؛ إِن الشَّيْطَان يَأْتِي العَبْد فِيمَا دون ذَلِك، فَإِذا عصم مِنْهُ، وَقع فِيمَا هُنَالك» (عمل اليوم والليلة للنسائي [ص: 422، ح 672]).

 

قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُ فِي قَلْبِهِ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهُ النُّطْقُ بِهَا؛ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا، أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، كَانَ رَدُّهُ إِيَّاهَا مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ، لَا أَنَّ خَطَرَاتٍ مِثْلَهَا مِنَ الْإِيمَانِ (صحيح ابن حبان [1/ 360]).

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.


 

الخطبة الآخرة

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين وبعد؛

 

أبشر أيها الموسوس! أبشر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ، أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ» (البخاري [6664])، فلا تعمل ولا تتكلم بما يلقى إليك من الوسوسة، وتنجو من مضارِّ الوسوسة، ومن هذه المضار:

 

[1] طريق إلى الشّكّ، والشّك في الله كفر.

 

[2] تفقد الإنسان ثقته بنفسه وبغيره.

 

[3] ينفر النّاس من صاحب الوسواس ويبتعدون عنه.

 

[4] الموسوس لا تكمل له عبادة ولا يستقرّ له فكر.

 

[5] يشدّد على نفسه حتّى يدخل في دائرة المحظور.

 

[6] قد يصل الأمر بالموسوس إلى الهلوسة ثمّ الجنون. (بتصرف من كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم [11/ 5701- 5709]).

 

يحدث هذا نتيجة البعد عن الله سبحانه، والإعراض عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ومن الشك في الله العظيم جل جلاله، أنه "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ"، (مسلم [134]).

 

فليستعذ بالله ولينته: معناه إذا عرض له هذا الوسواس، فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسمى بالفساد والإغراء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها، بالاشتغال عنها.

 

والسؤال والتشكيك في الله سبحانه، كان موجودا، ومازال يصدر من الملاحدة، إن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالُ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا؛ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟» قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَاللَّهِ! إِنِّي لَجَالِسٌ يَوْمًا؛ إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَعَلْتُ أُصْبُعَيَّ فِي أُذُنَيَّ، ثُمَّ صِحْتُ، فَقُلْتُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (مسند أحمد مخرجا [15/ 10، ح 9027]، زاد أبو داود: ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ. أخرجه أبو داود [4722]، وانظر الصحيحة [118]).

 

قال الألباني في (السلسلة الصحيحة ج[1 / 184]): دلت هذه الأحاديث الصحيحة على أنه يجب على من وسوس إليه الشيطان بقوله: "من خلق الله؟" أن ينصرف عن مجادلته إلى إجابته بما جاء في الأحاديث المذكورة، وخلاصتها أن يقول: "آمنت بالله ورسله" (السنة لابن أبي عاصم [1/ 293، ح 650]، "آمنت بالله"، مسلم [134]-، "{الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص]. ثم يتفل عن يساره ثلاثا، ويستعيذ بالله من الشيطان (أبو داود [4722])، ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة. فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقْرَأْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ. (مسند أحمد [43/ 271، ح 26203])، «من وجد من هذا الوسواس فليقل: آمنا بالله ورسوله؛ فإن ذلك يذهب عنه» (صحيح الجامع [6587] ورمز له: ابن السني عن عائشة (الصحيحة [116]).

 

وأعتقد قال الألباني أن من فعل ذلك طاعة لله ورسوله، مخلصا في ذلك أنه لابد أن تذهب الوسوسة عنه، ويندحر شيطانه لقوله صلى الله عليه وسلم : «فإن ذلك يذهب عنه».

 

وهذا التعليم النبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة من المجادلة العقلية في هذه القضية، فإن المجادلة قلما تنفع في مثلها. ومن المؤسف أن أكثر الناس في غفلة عن هذا التعليم النبوي الكريم.

 

فتنبهوا أيها المسلمون! وتعرَّفوا إلى سنة نبيكم، واعملوا بها، فإن فيها شفاءكم وعزكم.

 

عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّ رَجُلا قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَحَدَنَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ لَقُتِلَ. قَالَ: فَكَبَّرَتْ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَتْ: سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّما يُخْتَبَرُ بِهَذَا الْمُؤْمِنُ» (المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي [1/ 43]، ح [26]).

 

وأخبرنا بعض السلف عن بعض جنود إبليس وأولاده، واختصاص كلٍّ منهم، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لإِبْلِيسَ خَمْسَةٌ مِنْ وَلَدِهِ قَدْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ ثُمَّ سَمَّاهُمْ فَذَكَرَ: ثَبْرَ، وَالأَعْوَرَ، وَمِسْوَطَ، وَدَاسِمَ، وَزَلَنْبُورَ.

 

فَأَمَّا ثَبْرُ: فَهُوَ صَاحِبُ الْمُصِيبَاتِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالثُّبُورِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

 

وَأَمَّا الأَعْوَرُ: فَهُوَ صَاحِبُ الزِّنَا الَّذِي يَأْمُرُ به ويزيِّنُه.

 

وَأَمَّا مِسْوَطُ: هُوَ صَاحِبُ الْكَذِبِ الَّذِي يَسْمَعُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيُخْبِرُهُ بِالْخَبَرِ، فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ لَهُمْ: قَدْ رَأَيْتُ رَجُلا أَعْرِفُ وَجْهَهُ، وَمَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا.

 

وَأَمَّا دَاسِمُ: فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى أَهْلِهِ يُرِيهِ الْعَيْبَ فِيهِمْ وَيُغْضِبُهُ عَلَيْهِمْ.

 

وَأَمَّا زَلَنْبُورُ: فَهُوَ صَاحِبُ السُّوقِ، الَّذِي يَرْكِزُ رَايَتَهُ فِي السُّوقِ (مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا. ص: [54]، رقم [35]، والعظمة لأبي الشيخ [5/ 1682]).

 

قال ابن عبيد: حدثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ بُجَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ: كَانَ عَالِمٌ وَعَابِدٌ مُتَوَاخِيَيْنِ فِي اللَّهِ، فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ لإِبْلِيسَ: إِنَّا لا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا

 

.

 

فَقَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَنَا لَهُمَا، فَجَلَسَ بِطَرِيقِ الْعَابِدِ؛ إِذْ أَقْبَلَ الْعَابِدُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ إِبْلِيسَ، قَامَ إِلَيْهِ فِي مِثَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ. فَقَالَ لِلْعَابِدِ: إِنَّهُ قَدْ حَاكَ فِي صَدْرِي شَيْءٌ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ.

 

فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ: سَلْ! فَإِنْ يَكْنُ عِنْدِي عِلْمٌ، أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ.

 

فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالْمَاءَ فِي بَيْضَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْبَيْضَةِ شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟

 

فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي هَذَا شَيْئًا!! كَالْمُتَعَجِّبِ، فَوَقَفَ الْعَابِدُ.

 

فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: امْضِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا؛ فَقَدْ أَهْلَكْتُهُ جَعَلْتُهُ شَاكًّا فِي اللَّهِ تَعَالَى.

 

ثُمَّ جَلَسَ عَلَى طَرِيقِ الْعَالِمِ فَإِذَا هُوَ مُقْبِلٌ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ إِبْلِيسَ قَامَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فَقَالَ: يَا هَذَا! إِنَّهُ قَدْ حَاكَ فِي صَدْرِي شَيْءٌ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ.

 

فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: سَلْ! فَإِنْ يَكُنْ عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ.

 

فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالْمَاءَ فِي بَيْضَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْبَيْضَةِ شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟

 

فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: نَعَمْ!

 

قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ كَالْمُنْكِرِ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي هَذَا شَيْئًا! وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟!

 

فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: نَعَمْ! بِانْتِهَارٍ، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يقول له كن فيكون} [يس:82]. فَقَالَ إِبْلِيسُ لأَصْحَابِهِ: مِنْ قِبَلِ هَذَا أُتِيتُمْ (مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا ص: [50]، رقم [30]).

 

"اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وقُدرتِكَ على الخَلقِ؛ أَحْيِننا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لنا، وَتَوَفَّنا إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لنا، اللَّهُمَّ وَنَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ، وَنَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَنَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ".

 

وأقم الصلاة.

أبو المنذر فؤاد بن يوسف أبو سعيد