التوبة

منذ 2014-03-01

لابد أن تكون التوبة خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئا من الدنيا ولا تزلفًا عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته لأنه لم يتب إلى الله وإنما تاب إلى الغرض الذي قصده.

 

الخطبة الأولى:


 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



 

أما بعد:


 

اتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].



 

عباد الله: إنه لا بدّ أن يخرج المسلم من رمضان بفوائد جَمَّة، ومن ذلك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسانَ لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، وقد حثّ الله في كتابه وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه، فقال سبحانه:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3].



 

وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: من الآية31]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: من الآية8]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، والآيات في ذكر التوبة عديدة.



 

ولقد كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أتقى الخلق وأخشاهم لله، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا فهو يقول عن نفسه صلى الله عليه وسلم، كما في حديث الأغَرِّ بنِ يَسَار المُزنيِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناسُ توبُوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوبُ في اليوم مئةَ مرة» رواه مسلم.



 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة» رواه البخاري.



 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُ فرَحًا بتوبةِ عبدِه حين يتوبُ إليهِ من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضٍ فلاةٍ فانفلتت منُه وعليها طعامُه وشرابُه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجعَ في ظلِّها وقد أيِس من راحلتِه، فبينما هُو كذَلِكَ إذْ هو بها قائمةً عندَه، فأخذَ بخِطامِها، ثم قالَ من شدَّةِ الفرحِ: اللَّهُمَّ أنتَ عبِدي وأنا ربُّك أخطأ من شدَّةِ الفرحِ» رواه مسلم.



 

وإنما يفرح سبحانه بتوبة عبده لمحبته للتوبة والعفو ورجوع عبده إليه بعد هربه منه، وعن أنس وابن عباس رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديًا من ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له وادِيَانِ ولن يملأ فَاه إِلاَّ الترابُ ويتوبُ الله على مَن تابَ» متفق عليه.



 

والتوبة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، لأن الله أمر بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كلها على الفور والمبادرة، لأن العبد لا يدري ماذا يحصل له بالتأخير، فلعله أن يفاجئه الموت فلا يستطيع التوبةَ، ولأن الإصرار على المعصية يوجب قسوة القلب وبعده عن الله عز وجل وضعف إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان، ولأن الإصرار على المعصية يوجب إلفها والتشبث بها، فإن النفس إذا اعتادت على شيء صعب عليها فراقه وحينئذ يعسر عليه التخلص من معصيته ويفتح عليه الشيطان باب معاصٍ أخرى أكبر وأعظم مما كانَ عليه. ولذلك قال أهل العلم: "إن المعاصي بريد الكفر ينتقل الإنسان فيها مرحلة مرحلة حتى يزيغ عن دينه كله". نسأل الله العافية والسلامة.



 

أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم.




 

الخطبة الثانية:



 

عباد الله: اعلموا أن التوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة وهي خمسة:



الأول:

أن تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئا من الدنيا ولا تزلفًا عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته لأنه لم يتب إلى الله وإنما تاب إلى الغرض الذي قصده.



الثاني:

أن يكون نادمًا حزِنًا على ما سلف من ذنبه، يتمنى أنه لم يحصل منه لأجل أن يحدث له ذلك الندم إنابة إلى الله وانكسارًا بين يديه ومقتًا لنفسه التي أمرته بالسوء فتكون توبته عن عقيدة وبصيرة.



الثالث:

أن يُقْلِع عن المعصية فورًا، وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق.



الرابع:

أن يعزم على ألا يعود في المستقبل إلى المعصية، لأن هذه ثمرة التوبة ودليل صدق صاحبها.



الخامس:

ألا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة، فإن كانت بعد انتهاء وقت القبول لم تُقْبَل، وانتهاء وقت القبول نوعان: عام لكل أحد، وخاص لكل شخص بنفسه. فأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، وأما الخاص: فهو عند حضور الأجل.



 

ومتى صحَّت التوبة باجتماع شروطها وقُبِلت، محا الله بها ذلك الذنب الذي تاب منه وإن عَظُم. قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]



 

عباد الله: بادروا رحمكم الله بالتوبة النصوح إلى ربكم قبل أن يفاجئكم الموت فلا تستطيعون الخلاص.



 

اللهم وفقَنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين في الآخرة والأولى، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 

سليمان بن قاسم العيد