{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (3) - (09) قصة أصحاب الكهف

منذ 2014-03-03

قصة أصحاب الكهف- أيها الإخوة- هي أول قصة تتعلق بالفتنة في الدين- أعظم الفتن- فهناك فتنة الدين، وفتنة المال والولد والأهل، وفتنة العلم، وفتنة السلطان، كلها في سورة الكهف.

 

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



 

أيها الإخوة الصائمون.. أيها الإخوة المؤمنون

 

نقف اليوم- وفي حلقات قادمة- مع قصة أصحاب الكهف، هذه القصة العجيبة التي سأل المشركون- وبناءً على توصية اليهود- النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة فتية في غابر الدهر، فيبدأ الله جل وعلا بها في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا . إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:9- من الآية10] فهذه القصة مليئة بالدروس، ومليئة بالعبر.

 

إخوتي أحبتي ..
 

كم قرأت هذه القصة وهذه السورة؟، كم اكتشفتم من كنوزها العجيبة؟، ولا أدعي أنني أستطيع أن أقف مع كل عبرها ودلالاتها وآثارها، فهي كنز عظيم لا يفنى، وفي الوقت نفسه، الوقت لا يسعفنا، وقصر هذه الحلقات وقصر عددها، يجعلني أختصر اختصارًا أرجو ألا يكون مخلًا.
 

قصة أصحاب الكهف- أيها الإخوة- هي أول قصة تتعلق بالفتنة في الدين- أعظم الفتن- فهناك فتنة الدين، وفتنة المال والولد والأهل، وفتنة العلم، وفتنة السلطان، كلها في سورة الكهف.

 

أعظم الفتن هي فتنة الدين، ولذلك من الضرورات الخمس، أول ضرورة يجب حفظها هي حفظ الدين «احفظ الله يحفظك» يحفظك في دينك، ليس فقط في بدنك، فالعبرة أن يحفظك في دينك.

 

عندما يصبح بعض الناس مؤمنًا، ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا، وقد رأينا مصداق ذلك في واقعنا الآن. «احفظ الله يحفظك»، يحفظك في نفسك، في أهلك، في مالك، في دينك، في عائلتك، وأعظم حفظٍ هو في الدين، كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس.

 

إذًا هؤلاء حفظهم الله جل وعلا، فهؤلاء الفتية كانوا في مجتمع من قومهم مشركون وقيل إنهم مجوس، فتية- شباب- دون العشرة، اجتمعوا على كلمة الحق، فبدأوا يجدون الأذى من قومهم.

 

ماذا فعلوا؟
 

رأوا وتشاوروا أن يذهبوا ويعتزلوا بدينهم إلى الكهف {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] كما جاء في سياق القصة، فاعتزلوا.
 

أصحاب الكهف والرقيم، هل هما طائفتان أم طائفة واحدة؟

الصحيح أنهما طائفة واحدة، وصفهما بأصحاب الكهف والرقيم.

 

ما المقصود بالرقيم؟

الرقيم: هو المرقوم -على أصح الأقوال- أي المكتوب، (رقمته: كتبته).

والكهف: هو الغار، فيسمى كهفاً.

فهم هربوا إلى كهف معروف {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: من الآية16]، فهو معروف، قد يكون يذهبون إليه بين فترة وأخرى، وهو ملجأ ونجاة من أذى قومهم، فتواصوا بالذهاب إليه وجلسوا في هذا الغار، فقصَّ الله جل وعلا علينا قصتهم، ومن حكمة الله جل وعلا أنه أخفى هذا الغار فيما بعد.

 

ولذلك فإنني أنبه إلى من قال أن الغار في مكان كذا أو مكان كذا، الصحيح: أنه لا يعرف مكانه على اختلاف بين المفسرين في أقواله، والدليل أنه كهف واحد، فكيف مرة يقال في تركيا؟، ومرة يقال في تونس، ومرة يقال في فلسطين، ما يمكن! حتى لا يُتخَذ مزارًا.

 

فمن حكمة الله أن مثل هذه المشاهد، تختفي، ولذلك قطع عمر رضي الله تعالى عنه الشجرة، التي كان في ظلها النبي صلى الله عليه وسلم، {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: من الآية18]، خوفًا أن تكون مزارًا، لو كانت باقية إلى الآن ماذا تتصورون يفعل الناس؟

 

إذًا كان- مع كل أسف- من يبحث عن قبر آمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يقيم عليها مشهد، ويزورها الناس، مع أنها ليست مسلمة، فكيف لو وجدت هذه الشجرة؟ أو بعض المشاهد.
 

فاتخاذ مثل هذه المشاهد والزيارات- حتى باسم السياحة- ويتبرك بها، لا يجوز لأنها تؤدي في النهاية إلى الشرك، قد تكون بداياتها ليست شركًا، لكن تؤدي شيئًا فشيئًا إلى الشرك، إلى التعلق بها، إلى انتظار النفع والضر منها، كما هو واقع في كثير من بلاد المسلمين، رأيناهم- رؤى علمية ولم نذهب إليهم- يذهبون في بعض المناطق في الدول الإسلامية إلى غارات ومغارات فيها سحرة وكذبة، يضحكون عليهم.
 

وأفرحُ ما فرحت به اليوم، قبل أن أسجل الحلقة خبر "أمانة العاصمة تطالب بإيقاف الذهاب إلى غار حراء"، طبعًا هم ذكروا علة معينة أمنية، لكن نعم فعلًا في غار حراء تقع مصائب من كثير من المسلمين- هداهم الله- وما يسمونه بجبل الرحمة أو غار ثور، تسير له السيارات ويبدأ الناس يصلون فيه، يتعبدون فيه، ولم يَرِد، فلم يفعله خيار الصحابة.
 

فهذا الغار غير موجود، مع كل أسف سمعت أن فيلمًا سينشأ في الكهف، يأكلون من السذج الضعفاء، فالغار لا يعلم أن هو، بل إنه في آخر الآيات في قصة أصحاب الكهف {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} [الكهف: من الآية21]، هل يجوز اتخاذه مسجد؟ لا، ذِكره في القرآن هنا لا يعني أنه جائز فهو ذِكر خبر، لأنهم اختلفوا بعضهم قالوا سدوا عليهم الغار- لما وجدوهم في آخر القصة قد ماتوا- {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} [الكهف:21]، لمكانتهم ومنزلتهم وحفظهم.
 

واتخاذ المساجد لا يجوز على القبور، كما أراد هؤلاء أن يفعلوا، ومجرد ذكرها في سورة الكهف هو ذكر خبر، أي لبيان حالهم، كيف كانوا في أول الأمر ونهاية الأمر، ولا يعني أن هذا الأمر مشروع، بل جاءت الأحاديث الصحيحة بتحريم إقامة القبور على المساجد.

 

وقد يقول قائل، أليس قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي؟

 

أقول: لا، لم يكن المسجد النبوي، قبر النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة عائشة، مع صاحبيه رضي الله تعالى عنهم، كان خارج المسجد،  لكن بعض الخلفاء، أدخلوه في المسجد فحدث الخلل، وكم نرى ورأينا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من بلاء وشرك، ومن بدع، رأيناها وسمعناها، ولكن القائمين –والحمد لله- على المسجد النبوي منعوا أشياء كثيرة ولا يزالون يوجهون الناس برفق وكلمة طيبة وهدوء، ويعلمونهم، لأن فيهم جهل كثير منهم، يأتي من بلاده وقد فهم مفاهيم كثيرة خاطئة، فيعلم بهدوء -كما رأينا وشاهدنا- وإلا بعضهم عنده استعداد يطوف على القبر، وهذا غير مشروع، وبعضهم يقرأ رسالة جاء بها من أمه أو أخيه أو صاحبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
 

وبعضهم تجدهم بعد صلاة الفجر، في أي  مكان بالمسجد، بدل أن يستقبل القبلة ويوجه نفسه إلى القبلة ويدعو الله، يوجه نفسه إلى القبر إلى طلوع الشمس، من أين هذا؟ أين دليل هذا؟ بعضهم يحتال على الأوامر الصادرة.

 

النبي صلى الله عليه وسلم بيّن وحرّم اتخاذ القبور، ولعن اليهود والنصارى، أنهم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم كما في الأحاديث الصحيحة الثابتة.
 

قد يسأل سائل: ما حكم الصلاة على المساجد التي فيها قبور؟

فرق العلماء بين أمرين، الأصل أنك لا تصلي في مسجد في قبر، إن استطعت أن تفعل ذلك.

أما إن كان القبر سابقًا، ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه، لأن هذه مقبرة، ولا تجوز الصلاة في القبور ولا في المقابر.

 

أما إن كان المسجد هو السابق، ثم جاء من أدخل فيه قبرًا، فقلت الأصل ألا نصلي في هذا المسجد، لكن تصح الصلاة لأن الأصل هو المسجد، ودخول القبر هو الخاطئ في هذا الأمر، كما في بلاد المسلمين مع كل أسف، بعد أن يقوم المسجد ويصلى فيه، يؤتى ويوضع فيه كما يدعون ولي أو زعيم أو عالم وهذا لا يجوز، والإثم على من فعله.
 

فالشاهد أنه لا تجوز إقامة المساجد على القبور، قد يقول قائل، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام المسجد النبوي على قبور سابقة؟

نقول: لا، الحديث صحيح في مسلم وفي غيره، أنه أمر بقبور المشركين فنبشت، أراد أن يشتري هذه المنطقة من الأنصار فتبرعوا بها لوجه الله، فأمر بقبور المشركين فنبشت، أي: أخرجت، ثم أقال المسجد فهو لم يقم المسجد على قبور.

 

إذًا إقامة القبور على ما يسمى بالمشاهد أو إقامة ما يسمى مشاهد سياحية أو غيرها للتبرك فيها، ويصل الأمر إلى البدع وإلى الشرك يجب أن يكون حاسمًا.

 

فإذًا هنا في قصة أصحاب الكهف، التي سنقف مع دروسها وعبرها،

لا يُعلَم أين الكهف، هذا القول الصحيح- كما ذكر العلماء- بل إن قبور الأنبياء- كما ذكر الأنبياء- لا يعلم منها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم- كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- وقبر إبراهيم عليه السلام في الخليل على خلاف بين العلماء، أما بقية قبور العلماء فالصحيح أنها لا تعلم- كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- وقبور الأنبياء لا تُعلم إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر إبراهيم عليه السلام، وكذلك على خلاف بين العلماء، ولكن الصحيح والراجح أنه معروف، أما غيره، لا يُعلم.

 

فما بالك بمن يقول، قبور الأولياء!

وأختم بكلمة ...
 

أذكر أن الحسين رضي الله عنه نجد له في عدد من الدول الإسلامية، هذا فيه رأسه، وهذا فيه بدنه، وأعجبتني كلمة أختم بها قالها أحد المشايخ- من باب الطرفة- يقول من معتقد أهل السنة والجماعة أن الحسين رضي الله عنه، ليس له إلا رأس واحد، مرة نجده في الدولة الفلانية، والحسين في العراق مدفون؟، قالوا: لا، هذا رأسه. في البلد الثاني، هل هذا قبر الحسين؟، قالوا: نعم، فيه رأسه. كم له من رأس؟

 

ناس يتقوتون في هذه الأمور مع كل أسف، فحذاري من هؤلاء، ولنعظم الله جل وعلا.
 

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع، وغدًا بإذن الله مع وقفات مع هذه القصة العجيبة {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه المقالة تفريغ حلقة قصة أصحاب الكهف

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا

المقال السابق
(08) تحذير الدعاة من الاستعجال واليأس والقنوط
المقال التالي
(10) التوحيد واعتزال مواطن الفساد