كيف نفهم إطاحة فرنسا برئيس إفريقيا الوسطى "المسلم"؟

منذ 2014-03-03

أن الغرب حينما بدأ تقسيم بلدان العالم الإسلامي، تعمد أن يضع حدودًا اعتسافية تجعل في البلد الواحد أكثر من ديانة وإثنية، وهو يتخذ سياسة داخلية تالية تضمن سيادة لغير المسلمين على المسلمين ضمانًا لاستمرار نفوذه.

من الصعب أن تدير الأعين عن صراعات استراتيجية مصيرية في قلب العالم الإسلامي، وفي محور التأثير العربي إلى صراع يبدو نمطيًا في جمهورية إفريقيا الوسطى القليلة العدد والمحدودة التأثير الإقليمي والإفريقي، لكن ربما كان في ذاك الصراع نموذجية لما يسهل تطبيقه في أحوال وأنساق متشابهة في العالم الإسلامي كله، بما يمكن من تلمسه في بلدان بعيدة هنا أو هناك.

 

باختصار، تتمثل طبيعة الصراع في جمهورية إفريقيا الوسطى في رغبات دول غربية ظلت تهيمن على الدول الإفريقية منذ بدء احتلالها- قبل أكثر من قرن من الزمان والبعض قرون- في استمرار استنزاف ثروات تلك الدول، والحؤول دون سعيها نحو هويتها واستقلالها.
 

وفي التفاصيل؛ فإن تلك الجمهورية التي تتوسط إفريقيا وتعد مركزًا فاصلًا لشرق القارة عن غربها، وشمالها عن جنوبها، ويسكنها أقل من خمسة ملايين نسمة، وتعاني الفقر رغم توفرها على كنوز من الألماس والذهب واليورانيوم والنفط، ويشتغل قطاع كبير من سكانها بالزراعة وخدمة الشركات الغربية الكبرى للمناجم وغيرها، مرت بتجربة مريرة من الاستنزاف الفرنسي لثرواتها، وهيمنتها على القرار فيها، للحد الذي جعلها مع "صرعة الاستقلالات الوهمية" التي مرت بها الدول الإسلامية تخديرًا لشعوبها، تعاني من آثار ستة انقلابات ناجحة فيها على مدى نصف قرن فقط، تتخللها عمليات "دمقرطة" وهمية ذرا للرماد في العيون، آلت بنهايتها لتكريس حكم الانقلابيين، أو جلب آخرين تحت مسمى انتخابي لم يرق أبدًا فوق مستوى الشبهات في أي تجربة مر بها.
 

آخر تلك الانقلابات تم بشكل أنيق بإطاحة الرئيس ميشيل جوتوديا "المسلم"- والذي كان يحمل اسم "محمد ضحية" قبل أن يغير اسمه- بعد إرغامه إثر حصار قصره على الاستقالة هو ورئيس وزرائه نيكولا تيانجاي، وعقب اجتماع للدول الإقليمية بضغط فرنسي لحمله على اتخاذ قرار ينهي فترة حكمه التي بدأها بإطاحة سلفه فرانسوا بوزيزي، في أعقاب حملة قاد بها ميليشيات سيليكا التي يغلب عليها المسلمون إلى الزحف إلى العاصمة بانغي، ومن ثم عين نفسه رئيسًا انتقاليًا لحين إجراء انتخابات جديدة.

 

في التفاصيل أيضًا، أن التدخل كان لمنع تفاقم صراع "ديني" بين قوات جوتوديا و"مناهضي السواطير" المسيحية أدى لمقتل المئات على الأقل من المسلمين! لكن في العمق، لابد من ملاحظة الخطوط العريضة للسياسة الاحتلالية الغربية عمومًا، والفرنسية خصوصًا في إفريقيا، وفي هذا المثال الإفريقي يبدو جليًا ما يلي:
 

- أن الغرب حينما بدأ تقسيم بلدان العالم الإسلامي، تعمد أن يضع حدودًا اعتسافية تجعل في البلد الواحد أكثر من ديانة وإثنية، وهو يتخذ سياسة داخلية تالية تضمن سيادة لغير المسلمين على المسلمين ضمانًا لاستمرار نفوذه.
 

- أن تلك السياسة تعتمد كليًا على الحفاظ على ضبابية نسب المسلمين في كل بلد ضمانًا لإبعادهم عن السلطة؛ فهو دائم الحرص على المبالغة في نسب المسيحيين أو الوثنيين أو غيرهم لشرعنة حشر المسلمين في زاوية الأقلية، ومن هنا لابد من التنويه إلى أن النسب التي تتردد كثيرًا عن أن المسلمين في جمهورية إفريقيا الوسطى لا تزيد وفقًا لأعلى التقديرات عن 20% من تعداد سكان الجمهورية، هي أرقام مشكوك بشدة في صحتها بالنظر إلى طبيعة المحيط الإقليمي، وبالنظر إلى تجارب "مريرة جدًا" مشابهة، وهنا يبدو أن وصول حاكم مسلم- دون النظر عن مدى التزامه الديني- لسدة الحكم، وإن كان بطريقة عسكرية مجردة، يدل على الحضور الإسلامي في الجمهورية مهما قيل عن الطريقة التي جاء بها للحكم.
 

- أن مجرد محاولة بعث الشعور الديني الإسلامي من خلال ديانة الحاكم أو بعض الشعائر كأداة صلاة في مسجد جامع في مناسبة ما هو مبرر قوي لإطاحته، في بلد كإفريقيا الوسطى، كونه يحيي شعورًا ما لدى المسلمين هناك، ويرفع من سقف تطلعاتهم بالعودة إلى طبيعتهم وحجمهم الحقيقي "المعمي"، وهو ما يجسد على المدى البعيد خطورة لدى الدول المسيحية الكبرى المهيمنة على إفريقيا، والأمر لا يقتصر على الأحقاد الدينية وحدها، بل لإدراك أن لدى الإسلام ما ليس لغيره من القدرة على الانبعاث مجددًا، ورفض الظلم، وانتهاب الثروات التي تقوم بها تلك القوى، بما يتوافر له من رصيد عقدي وتاريخي يحمل الذاكرة الغربية على القلق.
 

- أن الغرب حريص كل الحرص على جعل معظم تحركاته لتغيير بعض النظم التي لا تروق له بإفريقيا محاطة بغطاء إقليمي من دول إفريقية جعل زمام أمورها بأيدي عملائه، وجعل من رؤوس قياداتها الإقليمية أنظمة يحكمها مسيحيون كإثيوبيا ونيجيريا، وهما بالمناسبة دولتان يغلب المسلمون على سكانهما لكن تحكمهما الأقلية المسيحية.
 

- أن تلك السياسة تعتمد على تكرار التجارب "الناجحة" للغرب الاستعماري، ولقد تكررت تلك التجارب في العديد من الدول التي يتجاور فيها مسلمون ومسيحيون، ولعل آخرها في نيجيريا التي كان نظامها يعتمد عرفيًا على تبادل الرؤساء من المسلمين والمسيحيين كل دورة رئاسية، لكن الغرب حرص مؤخرًا على الإخلال بتلك القاعدة، وأطاح برئيسها المسلم- رغم ضعفه وفساده- وإحلال جودلاك جوناثان بدلًا منه، وقد جرى تكرار التجربة مع تغيير في "الرتوش" في إفريقيا الوسطى.
 

- أن السياسة التدخلية ترتكن على تفجير صراع شكلي أو حقيقي (لم يكن تاريخيًا حقيقة موجودًا- على هذا النحو على الأقل- قبل "الاستعمار") بين مسلمين وغيرهم توطئة لتدخله، ومن هنا كان الحل في تفجير الصراع الديني في جمهورية إفريقيا الوسطى كتكأة للتدخل الدولي والإقليمي، وتحويل العدوان من ميليشيات تابعة للنظام السابق إلى مجزرة ترتكب بحق مسيحيين! وتصدير هذا للإعلام، مع أن بقر بطون الحوامل واستهداف الأطفال كان "حرفة" ميليشيات فرانسوا بوزيزي المسيحية.
 

- أن الآلة الإعلامية العالمية وحتى المحلية- كرجع صدى- جاهزة دومًا لدمغ المسلمين بـ"الإرهاب" وعدم الوطنية؛ فسرعان ما تم الترويج لفكرة "أممية" قوات السيليكا المحلية؛ فقيل على الفور إن "محمد ضحية" قد جلب قوات من السودان وتشاد وغيرها للقتال، فيما لم تتهم ميليشيات "مناهضي السواطير" أو "الدفاع الذاتي" بمثل هذا، مع أنها حظيت بدعم دولي أمني ولوجيستي! هل ثمة مبالغة هنا في "دينية" الصراع؟!
 

كلا، فليس المقصود سوى إماطة اللثام عن وجه يخفى عمدًا في معظم الصراعات، التي يتشاطر فيها المسلمون وغيرهم ميادينها، وإلا فيمكن أن ننخرط في "الرتابة" لنفضي إلى "اقتصاديات" الصراع و"عسكرته"، وهي هنا تتعلق بلجم نفوذ يتسلل حثيثًا من الصينيين لمناطق نفوذ غربية تضرر فيها أكثر من تضرر الفرنسيون.
 

يمكن أن نتحدث عن الماس وعن اليورانيوم، وربما عن القواعد العسكرية.
 

وقد نصل تاريخيًا لفاشودا وعقدة الفرنسيين من توقف نفوذهم عند تلك الحدود مع النفوذ البريطاني، ومسعى الأمريكيين الذين ورثوا كثيرًا من مستعمرات بريطانيا للتمدد غربًا.. إلخ.

 

غير أن هذا ليس مكمن الصراع، ولا تلك دوافعه الأصلية لإدارته، فجذر القضية أن الإسلام الذي هيمن على إفريقيا لقرون وممالكه البائدة في دول إفريقيا، القرن، والساحل، والشمال، الخليج الغربي، الخ، حتمًا لابد ألا يعود. هذا أصل الصراع، والمصالح فروع...

أمير سعيد