تأملات في قصة سحرة فرعون
إيمان سحرة فرعون، ويقينهم بالله، وثقتهم في موعوده، وثباتهم على الحق، وتضحيتهم بالمال والجاه والنفس، وصبرهم على القتل والصلب شيء عجيب مذهل يستحق التأمل وأخذ العظة والعبرة.
إيمان سحرة فرعون، ويقينهم بالله، وثقتهم في موعوده، وثباتهم على الحق، وتضحيتهم بالمال والجاه والنفس، وصبرهم على القتل والصلب شيء عجيب مذهل يستحق التأمل وأخذ العظة والعبرة.
1- فهؤلاء السحرة عاشوا طوال عمرهم على الكفر والضلال وأذى الخلق، ومع ذلك لما تبين لهم الحق جهروا به أمام واحد من أفجر خلق الله وأشدهم ظلمًا وجورًا وطغيانًا، وهو فرعون، ولم يتعللوا بعلل كثيرة من خوف على النفس أو المال أو الجاه، ولم يرضوا بكتم الإيمان وإيثار التقية، ثم تجد على النقيض من ذلك مشتغلين بعلوم شرعية لعشرات السنين ينصرون الباطل ويروجون له، أو في أحسن الأحوال يسكتون عن إنكاره والبراءة منه.
2- ومن أعجب ما في قصتهم ذلك التحول الهائل الذي حدث لهؤلاء السحرة في يوم واحد، وكيف كانوا في أوله سحرة كفارًا فجرة وصاروا في آخره مؤمنين شهداء بررة، وكيف سجدوا سجدة واحدة ما أروعها من سجدة، غسلوا من خلالها ماضيًا طويلًا من الكفر والسحر والتضليل وموالاة الطواغيت!
3- طبيعة الأشياء دائما أن يبدأ الأمر صغيرًا ثم يكبر مع الأيام والليالي وهكذا الإيمان يزيد وينقص، ويزداد رسوخًا مع كثرة العلم والوعظ والتذكير حتى يصل لدرجة يصير عند صاحبه أقوى من كل قيود الأرض وثقلها، لكن المدهش أن إيمان السحرة وصل في موقف واحد وفي سحابة يوم من نقطة الابتداء إلى نقطة الغليان القصوى التي جعلتهم يبيعون الدنيا بكل ما فيها من إغراء من أجل رضا مولاهم ويضحون بأنفسهم رخيصة في سبيل دينهم وعقيدتهم.
4- رغم شدة الإغراءات التي تعرض لها السحرة وتنوعها ما بين مال طائل {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: من الآية113 ]، وجاه ومنصب وقرب من السلطان{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الأعراف:114]، ورغم شدة التخويف الذي توعدهم به فرعون {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ} [طه: من الآية٧١]، لكن كل هذا الترغيب والترهيب لم يثن عزمهم ولم يفتنهم عن دينهم فجاء ردهم ثابتا قويا قاطعا لا مجال فيه لتردد أو تذبذب {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّـهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه:72-73].
5- يستفاد من القصة أن من أكبر العقبات أمام النفس في طريقها إلى الله وتحصيل محبته ورضوانه واتباع شرعه أمرين أساسيين احدهما: مطامع النفس ورغباتها المتنوعة من المال والولد والنساء والجاه والرياسة، والثاني: مخاوف النفس على الحياة والأهل والولد والوظيفة والتجارة والجاه وما أشبه ذلك.
وإذا تحرر الإنسان حقًا من هذين الأمرين صار ملكًا متوجًا من غير تاج ولا سلطان، خفيفًا في سيره لربه منقادًا لشرعه دون تردد ولا تخاذل، وهذا ما حصل مع هؤلاء السحرة لكن مثل هذا التحرر لا يتم إلا بصعوبة شديدة لرسوخه المتأصل في النفس ولاحتياجه إلى قوة جذب أقوى من جذب الشهوات، وليس ذلك إلا لقوة الإيمان حينما يتغلغل في النفس وتشع حرارته ونوره فتصهر كل رغبة أو رهبة ومطمع أو خوف يحول بين العبد وبين طريق ربه ومولاه.
6- ليت شعري من أين حصل هؤلاء السحرة تلك المعاني الإيمانية الذوقية العالية! وكيف عرفوا حقيقة الدنيا الفانية وحقيقة الآخرة الباقية! وجادوا بأنفسهم وهي أعز شيء لديهم مع أنهم لم يجالسوا موسى عليه السلام وقتًا طويلًا وزمانًا مديدًا ليتشربوا تلك الحقائق ويتربوا عليها، ليس لذلك من تفسير فيما أظن سوى الاجتباء الإلهي والفتح الرحماني والمدد الرباني لمن يرى الله في قلبه صدقا وإيثارا لمحبته على كل ما سواه.
7- من أعظم أبواب الرجاء والأمل في هذه القصة لكل عاصٍ بعيد عن ربه مسرف على نفسه; ألا يقنط ولا ييأس وهو لم يبلغ مبلغ السحرة في الكفر والضلال والصد عن دين الله ومع ذلك لما تابوا وأنابوا قبلهم الرحيم سبحانه الذي لا يرد سائلًا ولا يخيب راجيًا
فاللهم إنَّا وإن لم نكن أتقياء بررة فلم نكن يومًا يا مولانا سحرة بطلة فجرة، فيا رب يا من تبت على سحرة فرعون واجتبيتهم ورزقتهم الإيمان واليقين والصبر والثبات والشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين، اجعل لنا من ذلك كله أوفر الحظ والنصيب نحن وسائر عبادك المؤمنين.
أحمد قوشتي عبد الرحيم
دكتور بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
- التصنيف: