إخوانُ النَّبيِّ "صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم"
والالتزام بالسنة النبوية وعدم التغيير فيها والتبديل، هو حقيقة الالتزام، وإن التبديل والتغيير ابتداع وليس اتباع، وهذا ما يجعل المسلم يتساءل هل أنا أخو النبي؟ هل أنا المشمول بأخوة الحبيب؟ وهل اشتاق إليَّ أنا؟ أم أنهم غيري إخوانه الذين اشتاق لهم؟.
بسم الله الرحمن الرحيم
في لحظةٍ نبويةٍ وروحيةٍ متلألأةٍ في السماء ارتفاعاً، وفي القلب صدقاً، وفي الروح صفاءً، أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من قلبه الشريف كلمات عظيمة، يغفل الكثير عن روحها والوقوف متأملاً أمامها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم زائراً المقابر، زيارة لاتحوي في حقيقتها على مطمع، ولا شبهة بمطمع؛ لانك تزورُ أمواتاً، تآكلت بالدود أجسامهم، وبقيت في عليين أرواحهم، وفي القبر نعيمهم، أو عذابهم، ولقد توصلتُ إلى حقيقة وهي أنَّ أعظم الشعور وأصدقه مع محبك يوم زيارته ميتاً لا ينفع ولا يضر، تزوره وهو في القبر، لا ينفعك، ولا يشكرك، ولا يثني على زيارتك، ولن يردها لك مرة أُخرى.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم زائراً المقابر، الزيارة التي تحاكي القلوب من غير موعظة، ولقد رأيتُ أن أعظم زيارة تهزُّ القلوب، وتغير الحال، وتصلح الضمائر، هي زيارة المقابر، مساكن الأموات.
يروي لنا رفيق النبي ابو هريرة رضي الله عنه ذلك الموقف، أَن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: «صحيح مسلم).
»، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: « »، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: « » قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: « » (فهذه الكلمات خرجت في أروع حالات الشوق، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتاق لكل من لم يره، اشتاق لك أيها القارئ، وقد اشتاق لأموات المسلمين الذين سبقونا، ما عدا الصحابة فهم أصحابه وقد عاش معهم، أما الاشتياق فكان للذين لقَّبهم بقوله "إخواننا".
فالأخوة المذكورة هنا وصفٌ للذين سيأتون بعد ولَقَبٌ لهُم، وليس المراد بها أخوة الإيمان كُلها، لما جاء من تخصيصين اثنين في قول رسول الله: "انتم اصحابي" وقوله: "الذين لم يأتوا بعد"، ورأي ابن عبد البر كهذا.
ومن الروايات التي تُعتبر قرائن لمَقصد الاخوَّة الذي ذكرته آنفاً، ما َرَوَى أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَلَمْ يَرَكَ وَصَدَّقَكَ وَلَمْ يَرَكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: «
وعن ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِجُلَسَائِهِ يَوْمًا أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إِيمَانًا قَالُوا الْمَلَائِكَةُ قَالَ وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَمْرُ فَوْقَهُمْ يَرَوْنَهُ قَالُوا الْأَنْبِيَاءُ قَالَ وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً قَالُوا فَنَحْنُ قَالَ وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا تَرَوْنَ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
» (الاستذكار، لابن عبد البر).وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من صفات اخوانه في مجموع الروايات ومنها:
لم يأتوا بعد، أي: يأتون بعد عصر النبوة والصحبة، وغُراً محجلين من الوضوء، والغُرُّ: بياضٌ في الوجه، والتحجيل: بياضٌ في اليدين والرجلين من أثر الوضوء، وأنهم الذين لم يُبدلوا، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدَّقوه.
ومعنى التبديل عن الإيمان: تغييرُ السُّنَّة، والرِّدَّةُ عن الإيمان.
فكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُشيرُ بحديثه، ويُلفت النَّظر، الى أميَزِ صفاتهم التي ذكرها، في اعتقادهم، وأعمالهم، وزمانهم، وكأنه يدعو كلَّ مَنْ يُريدُ أن يكون الأخ الذي شُمل باشتياق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومروره في مخيلة النبي صلى الله عليه وسلم.
والوضوء عبادة مميزة، تميزت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فإما أنها تميزت بالوضوء وأن الأمم لم تكن تتوضأ كوضوئنا، وإما أنها تميزت بأنها تتوضأ كوضوء الأنبياء وأن الأمم الاخرى لا تتوضأ كوضوء أنبيائها، فهو مخصوص بهم، أو أن أمة محمد بورك لها في وضوئها تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريما له، كل هذا واردٌ.
والوضوء مفتاح خير العبادات وأعظم الطاعات وهي الصلاة، والتارك للصلاة محروم من الوضوء، ومحروم من الغرة والتحجيل، ميزة أمة محمد، ومحروم من الشمول في القول النبوي. وهذه العبادة "الصلاة" هي الملازمة للإيمان والتصديق، آمن بك وصدَّقك، وكل ما يتعلق بالصلاة من حيث الشروط كالوضوء متعلق بالإيمان والتصديق.
وهذا يستلزم عدم التبديل والتغيير إذا استمكن الإيمان، واختاره المسلم ديناً، فإذا اختار اللإسلام دينا فصفات إخوان النبي صلى الله عليه وسلم عدم التبدُّل والالتزام بسنته.
والالتزام بالسنة النبوية وعدم التغيير فيها والتبديل، هو حقيقة الالتزام، وإن التبديل والتغيير ابتداع وليس اتباع، وهذا ما يجعل المسلم يتساءل هل أنا أخو النبي؟ هل أنا المشمول بأخوة الحبيب؟ وهل اشتاق إليَّ أنا؟ أم أنهم غيري إخوانه الذين اشتاق لهم؟.
إن قول الله تعالى سَبَقَ قول النبي وإشارته لحقيقة الالتزام، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] هذه حقيقة الالتزام.
ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الروحاني لم يجعل التكلم عن حقيقة الالتزام تخويفاً وانذاراً، وانما اختار الترغيب وإعطاء الفرصة لاختيار أخوَّتك للنبي صلى الله عليه وسلم بفعلك وإرادتك طمعاً منك وشوقاً.
ومن لم يُسدل على نفسه باعتقاده وعمله صفات الإخوان التي اشار لها النبي صلى الله عليه وسلم إسدال كاملاً وقائماً على طريقة النبوة، فهو ليس أَخا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيُذاد من حوضه.
والذود: هو المنع والطرد، تقول: ذاد عن أخيه، أي: منع عنه عدوه وقاتله، كل هذا مُتعرِّضٌ له كل نازع ستائر الطاعة، المستبدل لها بالمعصية.
والملفت للانتباه أنهم كانوا مع جماعة الغرِّ المحجلين وسوادهم، ولم يُمايَزوا حتى وصلوا الى الحوض فميَّزتهم الملائكة وأطردتهم، معنى هذا انهم كانوا يتوضؤون، ومعنى أنهم يتوضؤون أنهم كانوا يصلون، ومع هذا لم تكن صلاتهم كافية بسبب ابتداعهم وخفة التزامهم، إلا ببقايا من ظواهر الإسلام وشعائره التي لا تكفي الا بالإيمان الذي يكمِّله.
ودليلُ أنها لا تكفي الا بالأيمان هو ادعاء الأعراب الإيمان بالله تعالى، فقصَّ لنا اللهُ بم أجابهم فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14-15] .
فنجد أن الدِّين لايقف عند حدود الشعائر الظاهرة بالإسلام وهي الشهادة والصلاة والصيام والحج والزكاة، وإنما يكمل بالإيمان ومحلُّ الايمان هو القلب، وهذا هو المحور الذي تلتفُّ حوله أعمال التدين، وهو الأصل الذي يبنى عليه فساد العمل أو صلاحه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « »، لانَّ القلب هو لبُّ السرائر.
ويرسخ النبيُّ هذا المفهوم وأنَّ الحقيقة في إتمام التدين هي البواطن، بطريقة تربوية وتصويرية فريدة، تجعل أي سامع لكلماتها يرتعد اتعاداً، فيقول: «
»، وذكر السبب: « » أنهم فعلوا ذلك وراءوا بأفعالهم.ولو استعرضت حياة القارئ وخصوصاً في الازمنة الماضية التي لا يوصف فيها القارئ بذلك إلا بشروط، وليس اليوم الذي بمجرد أن يوهب صوتاً جميلاً يسمى قاريٌ أو مقريٌ، ولو استعرضت حياة المجاهد، أو المتصدق، لرأيت حياتهم حافلة بالعمل لله تعالى، وأنهم يقدمون اغلى ما امتلكوا، فأحدهم بالنفس والروح الغالية، وثانيهم بالمال الذي استحصله بشق الانفس، والقارئ بالتعلق بكتاب الله قراءة وفهماً وتدبراً وتفسيراً وإقراءا، ولا يتخيل متخيلٌ ان هؤلاء لا يُصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويشهدون ان لا اله الا الله، فمن بلغ مبلغهم لاشك قد كانت أركان الإسلام اول سبيله، إلا أنَّ جهنم تُسعَّر بنماذج منهم، لانهم ما راعوا بواطن الإيمان، ولم يسيطروا على نياتهم، وراءوا بعملهم غير الله تعالى، ولم يكن الإخلاص مساوقاً لأعمالهم ولو كانت أجل جلائل الاعمال.
فإذا كان مباعد الإخلاص سعير جهنم، فمن ذيد عن حوض النبي أهون، وكلاهما لا يُشملون بأخوة النبي صلى الله عليه وسلم، واذا كان حال هؤلاء المرائين هكذا لتركهم الإخلاص في العمل وحسب فما هو حال التارك لدينه المفارق لالتزامه.
فما هو حال المشركة؟ والزانية؟ والمتبرجة؟ والناشزة؟ والساحرة؟ والعارية؟ والكاذبة؟ والسارقة؟ والمغتابة؟ والتاركة للصلاة؟ والصوم؟ والزكاة؟
وما هو حال المشرك؟ والزاني؟ والكاذب؟ والسارق؟ والآكل للربا؟ والنمام؟ والمنافق؟ والظالم؟ والقاتل؟ وآكل مال اليتيم؟ وشارب الخمر؟ وشاهد الزور؟ والغاش؟ والحاسد؟ والحاقد؟ والتارك للصلاة؟ والصوم؟ والزكاة؟
فأُخوَّةُ النَّبيِّ تستلزم التزاماً بالشرع، وإن جبال الأيام لنراها موقعة كل يوم حصاةً من العمر، نسأل الله ان ييسر لنا بما نقدم شمولاً بأخوة المصطفى، وشربة من حوضه الشريف لن نظمأ بعدها ابداً.
مثنى علوان الزيدي
- التصنيف: